المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها
من الراسخ في الذهن أن فواتح السور القرآنية تَحمل براعة استهلال معجزة، فهي أول شيء يقع على السمع، ومِن ثَمَّ فخاتمة السور كذلك لا تقل عنها إعجازًا؛ إذ هي آخر ما يسمعه السامع من السورة، وقد ذكر السيوطي أن الخواتم تأتي متضمنة المعاني البديعية مع إيذان السامع بانتهاء الكلام؛ حتى لا يبقى معه للنفوس تشوُّف إلى نقصٍ يُريد تمامًا[1].
النموذج الأول:
ومن أمثلة هذا المناسبة قوله تعالى في ختام سورة الأنعام: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 164، 165].
ذكر الإمام البقاعي أن ختام سورة الأنعام جاء في غاية التناسب مع أولها، فالاستفهام في الآية الخاتمة للسورة تعجبُّي استنكاري، يستنكر ممن يتخذ ربًّا غير الله، مع كونه قد خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وهذان صنيعان يستوجبان الشكر الدائم لا العصيان، فقال في مطلع السورة: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1].
يقول البقاعي: "يُسرع العالي إلى عقوبة السافل! فأُجيب بأن الله فوق الكل، وهو أسرع عقوبة، فهو قادر على أن يُسلِّط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع، فيُهلكه، ثم رغَّب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل، أسبل ذيلَ غفرانه ورحمته بإمهاله العُصاة، وقَبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور منافعَ لهم، ثم هم به يَعدلون! ولولا غفرانه ورحمته، لأسرع عقابه لمن عدل به غيره، فأسقط عليهم السموات وخسَف بهم الأرض التي أنعم عليهم بالخلافة فيها، وأذهب عنهم النور، وأدام الظلام، فقد ختم السورة بما به ابتدأها، فإن قوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 165] هو المراد بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأنعام: 2]، وقوله: ﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 164]، هو معنى قوله: ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]"[2].
النموذج الثاني:
ومثال آخر لهذا النوع من المناسبة، وهو قوله تعالى في ختام سورة الروم: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60].
فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، ويذكر أن وعد الله حق، وهو واقع لا مَحالة، ويُحذره من فتنة هؤلاء المنافقين والكافرين، وذلك بحمْلهم النبيَّ على الخفة والقلق جزعًا مما يقولون، فهؤلاء قوم ليس لديهم يقين، منافقون، فهم شاكُّون بطبعهم؛ يُزلزلهم أيُّ شيء، ويُكذبون نصر الله لأوليائه المؤمنين، ودليل ذلك تكذيبهم وعد الله للمؤمنين بنصر الروم وهزيمة الفرس، فتَراهم كأنهم على بيِّنة وثقة من أمرهم - وهو أن نصر الروم لن يحدث - وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى طمْس الله على قلوبهم وإغلاقها عن الحق، وبهذا يكون قد عطف آخر الآية على أولها: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [الروم: 1 - 4].
فالله بعد أن ذكر هزيمة الروم وعد المؤمنين بنصرهم على الفرس في بضع سنين، وأن الأمر كله بيد الله عز وجل، وفي آخر السورة أمر الله نبيَّه بالصبر وأكَّد وعده بالنصر - ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ - فالأمر بالصبر يكون على نبأ هزيمة الروم، واستهزاء الكفار والمنافقين بتأخُّر النصر، وذلك جاء آخر السورة، وتأكيد الوعد بنصر الروم، وهزيمة الفرس، يكون متصلاً بإخبار الله النبيَّ بنصر الروم وهزيمة الفرس في أول السورة: ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ [الروم: 3].
وكما قال البقاعي: "عطف الحبيب على الحبيب، واتصل به اتصال القريب بالقريب، والْتَحَم التحام النسيب بالنسيب"[3].
المصدر / الالوكه
منقول