هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء في زمانه، أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله الثوري - ثور مضر لا ثور همدان- الكوفي المجتهد، مصنف كتاب "الجامع".
نشأته وطلبه للعلم
ولد سنة سبع وتسعين -اتفاقاً- في خلافة سليمان بن عبد الملك، وطلب العلم وهو حدث باعتناء والده، المحدث الصادق: سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من أصحاب الشعبي، وخيثمة بن عبد الرحمن، ومن ثقات الكوفيين، وعداده في صغار التابعين، روي لسعيد والده الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه أولاده: سفيان الإمام، وعمر، ومبارك، وروي له شعبه بن الحجاج، وزائدة، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وعمر بن عبيد الطنافسي، وآخرون [1].
شيوخ سفيان الثوري
وهم الذين حدث عنهم سفيان: في مقدمتهم أبوه، وزبيد بن الحارث، وحبب بن أبي ثابت، والأسود بن قيس، وزياد بن علاقة، ومحارب بن دثار، وطبقتهم [2]. ويقال: عدد شيوخه ستمائة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس رضي الله عنهم وقد قرأ الختمة عَرضا علي حمزة الزيات أربع مرات.
تلامذة سفيان الثوري ومن حدث عنه
وأما الرواة عنه فخلق، ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفاً، قال الإمام الذهبي في السير: "وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفا فبالجهد، وما علمت أحداً من الحفاظ روي عنه أكثر من مالك وبلغوا بالمجاهيل وبالكذابين ألفا وأربعمائة".
حدث عنه من القدماء من مشيخته وغيرهم خلق، منهم: الأعمش، وأبان بن تغلب، وابن عجلان، وخصيف، وابن جريج، وجعفر الصادق، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وشعبة، ومعمر -كلهم ماتوا قبله، وإبراهيم بن سعد، وأبو إسحاق الفرازي، وأحمد بن يونس اليربوعي، وابن علية، وسفيان بن عيينة، وأبو داود الطيالسي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وعلي بن الجعد، وخلائق [3].
ذكاؤه وشده حفظه
قال العجلي في الثقات:كان سفيان لا يسمع شيئاً إلا حفظه حتى كان يخاف عليه [4]. قال الذهبي في السير:كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب. قال ابن أيوب العابد:حدثنا أبو المثني قال: سمعتهم بمرو يقولون:قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه (خرج شعره).
وقال الوليد بن مسلم: رأيت الثوري بمكة يستفتي ولما يخط وجه بعد. قال عبد الرزاق وغيره، عن سفيان قال:ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني. وقال سفيان بن عيينة: كان الثوري كأن العلم ممثل بين عينيه، يأخذ منه ما يريد ويدع ما لا يريد. وروي الخطيب البغدادي عن أبي مسلم صالح بن أحمد قال: حدثني أبي قال: ألقي أبو إسحاق فريضة ( أي مسألة في المواريث ) فلم يصنعوا فيها شيئا، فقال: لو كان الغلام الثوري فصلها الساعة، إذ أقبل سفيان، فقال له: ما تقول في كذا وكذا ؟ قال سفيان: أنت حدثتنا عن علي بكذا وكذا، والأعمش حدثنا عن ابن مسعود بكذا، وفلان حدثنا فيها بكذا، قال أبو إسحاق: كيف ترون من ساعة فصلها !؟ ألا تكونون مثله ؟
وروي الخطيب أيضا عن الأشجعي قال: دخلت مع سفيان الثوري علي هشام بن عروة، فجعل سفيان يسأل وهشام يحدثه، فلما فرغ قال:أعيدها عليك ؟ قال: نعم فأعادها عليه ثم خرج سفيان وأذن لأصحاب الحديث، وتخلفت معهم، فجعلوا إذا سألوه أرادوا الإملاء فيقول: احفظوا كما حفظ صاحبكم، فيقولون: لا نقدر نحفظ كما حفظ صاحبنا.
وروي أيضا عن يحيي بن سعيد قال: كان سفيان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش. وعن زائدة قال:كنا نأتي الأعمش فنكتب عنه ثم نأتي سفيان فنعرض عليه، فيقول لبعضها: ليس هذا من حديث الأعمش، فنقول: إنما حدثناه الآن فيقول: اذهبوا إليه فقولوا له، فنذهب إليه فنقول له، فيقول: صدق سفيان، فمحاه [5].
وذكر الحافظ في التهذيب عن علي بن المديني قال: قلت ليحيي بن سعيد: أيما أحب إليك رأي سفيان أو رأي مالك ؟ قال: سفيان لا شك، سفيان فوق مالك في كل شيء. وقال صالح بن محمد: سفيان ليس يقدمُهُ عندي أحد في الدنيا، وهو أحفظ وأكثر حديثاً من مالك، ولكن مالكاً كان ينتفي الرجال، وسفيان يروي عن كل أحد، وهو أكثر حديثا من شعبه وأحفظ، يبلغ حديثه ثلاثين ألفاً. وقال مالك: كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب، ثم صارت تجيش علينا بالعلم منذ جاء سفيان [6].
ثناء العلماء فيه
قال الخطيب:كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، مجمعاً علي إمامته بحيث يستغني عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع، والزهد.
قال الذهبي: أجل إسناد للعراقيين: سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود.
وقال شعبة، وابن علية، وأبو عاصم، ويحيي بن معين، وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان
وقال ابن مهدي: ما رأت عيناي أفضل من أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك.
وروي وكيع عن شعبة قال: سفيان أحفظ مني.
وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إلى من شعبة، ولا يعدله أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد و كل شيء.
وعن ابن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
وقال أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت.
وقال بشر الحافي: سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما.
وقال ابن عيينة: أصحاب الحديث ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، الثوري في زمانه.
وقال أحمد بن حنبل: أتدرون من الإمام ؟ الإمام سفيان الثورى، لا يتقدمه أحد في قلبي.
احتمال العلماء تدليسه
وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة، وكان ربما دَلٌس. و قال الحافظ في طبقات المدلسين: وصفه النسائي وغيره بالتدليس، وقال البخاري: ما أقل تدليسه [7].
وقال النووي في التقريب: وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين ب (عن) فمحمول علي ثبوت السماع له من جهة أخرى. قال السيوطي: وإنما اختار صاحب الصحيح طريق العنعنة على طريق التصريح بالسماع لكونها علي شرطه دون تلك. وقال السيوطي في التدريب: قال الخطيب: وكان الأعمش وسفيان يفعلون مثل ذلك ( أي يدلسون تدليس التسوية ) قال العراقي: وهو قادح فيمن تعمد فعله. وقال شيخ الإسلام ( أي الحافظ ابن حجر ) لا شك أنه جرح وإن وصف به الثوري والأعمش؛ والاعتذار عنهما أنهما لا يفعلانه إلا في حق من يكون ثقة عندهما ضعيفاً عند غيرهما [8].
زهده وورعه وشدة خوفه من الله
قال أبو قطن: قال لي شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم. وقال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلسا إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحدا كان أكثر ذكراً للموت منه. وروى عبد الله بن خُبَيق عن يوسف بن أسباط: قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة (أي الإناء الذي يتوضأ به و يتطهر به) أتوضأ، فناولته فأخذها يمينه ووضع يساره علي خده، فبقي مفكرا ونمت، ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة.
وقال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم. وقال ابن مهدي: كنا نكون عنده، فكأنما وقف للحساب. وسمعه عثام بن علي يقول: لقد خفت الله خوفا، عجباً لي كيف لا أموت؟ ولكن لي أجل، وددت أنه خفف عني من الخوف، أخاف أن يذهب عقلي.
وقال ابن مهدي: كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة، ينهض مرعوباً ينادي: النار، النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات. وقال أبو نعيم: كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع به أياماً.
وقال العجلي في الثقات: كان ثقة ثبتاً في الحديث زاهداً فقيهاً صاحب سنة واتباع، وكان من أقوي الناس بكلمة شديدة عند سلطان يتقي [9].
بين سفيان الثوري والخليفة المهدي العباسي
دخل سفيان علي المهدي فقال: السلام عليك، كيف أنت أبا عبد الله ؟ ثم جلس، فقال: حج عمر بن الخطاب فأنفق علي حجته عشرين دينارا، وأنت حججت فأنفقت في حجتك بيوت الأموال! فقال المهدي: أتريد أن أكون مثلك؟ قال: فوق ما أنا فيه، ودون ما أنت فيه، فقال وزيره أبو عبيد الله: أبا عبد الله قد جاءتنا كتبك فأنفذتها، قال سفيان: من هذا ؟ قال المهدي: أبو عبيد وزيري، قال: احذره فإنه كذاب، أنا كتبت إليك؟!
ثم قام فقال له المهدي: أين أبا عبد الله ؟ قال: أعود. وكان قد ترك نعله حين قام، فعاد فأخذها ثم مضي، فانتظره المهدي، فلم يعد، قال: وعدنا أن يعود فلم يعد، قيل له: إنه قد عاد لأخذ نعليه، فغضب، فقال: قد أمن الناس إلا سفيان الثوري.
استغناؤه عن الناس
روي موسي بن العلاء عن حذيفة المرعشي، قال: سفيان: لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله، عليها أحب إلي من أن أحتاج إلي الناس. وقال رواد بن الجراح سمعت الثوري يقول: كان المال فيما مضي يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن.
وقال عبد الله بن محمد الباهلي: جاء رجل إلي الثوري يشاوره في الحج، قال: لا تصحب من يكرُمُ عليك، فإن ساويته في النفقة ؛ أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك. ونظر إليه الرجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبد الله! تمسك هذه الدنانير؟! قال: اسكت فلولاها لتمندل بنا الملوك (أي جعلونا كالمناديل يمسح بها الأذى).
من حكمة وأقوله
"إن أقبح الرعية من يطلب الدنيا بعمل الآخرة".
"ما وضع رجل يده في قصعة رجل إلا ذَل له".
"ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت".
"المال داء هذه الأمة والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلي نفسه، فمتى يُبرئ الناس".
"احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضي بما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده أن تسخط علي ربك".
"أحب أن يكون صاحب العلم في كفاية، فإن الآفات إليه أسرع، والألسنة إليه أسرع".
"زينوا العلم والحديث بأنفسكم ولا تتزينوا به".
"الزهد زهدان: زهد فريضة وزهد نافلة، فالفرض أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتزين للناس، وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك، صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله".
إحصائية بعدد ما رواه من أحاديث في الكتب الستة ومسند أحمد
له في صحيح البخاري: 395 حديث.
وفـي صحـيح مسلـم: 413 حديث.
وفـي سـنن أبـي داود: 246 حديث.
وفـي سنـن الترمـذي: 348 حديث.
وفـي سنـن النسائـي: 315 حديث.
وفـي سنـن ابن ماجـه: 360 حديث.
وفـي مسند الإمام أحمد: 1627 حديث.
وفاة سفيان الثوري
عن ابن مهدي قال: مرض سفيان بالبطن (داء البطن)، فتوضأ تلك الليلة ستين مرة حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه، فوضع خده بالأرض، وقال يا عبد الرحمن: ما أشد الموت ! ولما مات غمضته، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا. قال الذهبي: والصحيح أن موته في شعبان سنة إحدى وستين ومائة [10].
فرحم الله سفيان الثوري رحمه واسعة، وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.
منقول