صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
بعد أن تهاوت «ثريـا» الحضارة الإسـلامية، بقنابل العوامـل الداخليـة والخارجيـة، استغرق هذا الشرق الإسـلامي في إغفـاءة عميقة، هي إغفاءة الإعياء والاستسـلام. وجاء الغرب المستعمر فأوسع من هذه الهوة بما بثه من مختلف المخـدرات في هذا الشرق المريض، وكان من أهمها تشويـه سمعـة الحضارة الإسـلامية بدعايات منظمة متواصلة واسعة، كان حملة أعلامها طائفة المستشرقين، وقد عني هؤلاء بدراسـة تاريخ حضــارة الإسـلام فـي المجامع العلميـة وفي المعاهـد والمؤلفـات.
وكان مما سعى إليه هؤلاء المستشـرقون تشويه التاريــخ الإسلامـي عامـة والدور الإسلامـي للدولة العثمانيـة بصفة خاصـة.
فلم تقف محـاولات التشويه والهجـوم التي تعرض لها تاريخ الدولة العثمانيـة على المؤرخين الأوربيين واليهود وحدهم، بل انجرف إلى هذا الاتجاه أغلب المؤرخين العرب بشتى انتماءاتـهم واتجاهـاتهم، وكذلك المؤرخـون الأتراك أنفسهـم الذين سعوا لإدانة فترة الخلافة العثمانيـة كسبيل لدعم التحول القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالميـة الأولـى.
ويرجع موقف المؤرخ الأوروبي إلى تأثره بنزعة الحقد والمرارة الموروثة، لدور هذه الدولة على الساحة الأوروبية، حيث استطاعت أن تسقط إحدى الإمبراطوريتين الأوروبيتين وهي الإمبراطورية البيزنطية وتتخذ من عاصمتها عاصمةً لها، ليتغير بعدها وجه التاريخ الأوروبي من القسطنطينية ( العاصمة المسيحية الأرثوذكسية)، إلى إسلامبول (استامبول) (أي دار الإسلام)، ولم يكتف الفاتح العثماني المسلم بهذا، بل سعى إلى إسقاط الإمبراطورية المسيحية الثانية في روما، وأقسم على مواصلة الجهاد حتى يخترق وسط أوروبا حتى الوصول إلى الأندلس لإنقاذ المسلمين بها. وعاشت أوروبا في هلع وفزع لم ينقذها منه سوى نبأ وفاة محمد الفاتح.
على أن الشارع الأوروبي لم يكن قد تعرف على شخصية المسلم وهويته بشكل مباشر منذ الفتح الإسلامي الأول حتى مجيء الفاتح العثماني، ولم يكن يسمع عن المسلم طوال هذه القرون إلا من خلال صيحات رجال الدين المسيحي، الداعية إلى حشد الأموال والمتطوعين لمهاجمة المسلمين الكفرة البرابرة، وكلما منيت هذه الحشود بالهزائم على يد المسلمين ازدادت موجة الكره والحقد ضد المسلمين، فصوروهم للأوروبي على أنهم قراصنة ومغتصبون لمقر الدين المسيحي ومهبط المسيح وهو بيت المقدس، من أجل مكاسب سياسية ومادية نعمت بها عدة أسر ظلت قابعة على صدر المجتمع الأوروبي في الحكم فترة زمنية طويلة، ومكاسب حققها رجال الدين فأثروا ثراءً كبيراً ونصبوا حول أنفسهم هالة كبيرة اعتمدت في مجملها على الضلال والتضليل كانوا هم أول من اعترفوا به وثاروا عليه.
ومع إن الشعب الأوروبي قد اعتبر ثورته على هذه الفئات، بعد أن اكتشف ضلالها وتضليلها، هي بداية عصر النهضة، وبداية مرحلة جديدة في تاريخه، إلا إنه لم يتخلص من تلك الرواسب الموروثة من هذه الفئات تجاه العالم الإسلامي بشكل عام واتجاه الدولة العثمانية بشكل خاص.
وبقدر اندفاع قوته العسكرية المدعومة بحضارته المادية لتصفية الحساب مع الشرق عامة، والشرق الإسلامي خاصة، وتحقيق الأطماع على حساب شعوبه، كان اندفاع المؤرخين الأوربيين لتشويه التاريخ الإسلامي عامة والدور الإسلامي للدولة العثمانية بصفة خاصة.
وشارك الكتّاب والمفكرون اليهود الأوروبيين في نزعتهم العدائية تجاه هذه الدولة بعد أن فشلت كافة مخططاتهم في اغتصاب أي من أراضي هذه الدولة لإقامة كيان سياسي لهم طوال أربعة قرون هي عمر هذه الخلافة، وبرغم عوامل الضعف بها أغلب هذه الفترة، في حين استطاع اليهود – بمعاونة الاستعمار الغربي- أن يحققوا أهدافهم على حساب الأنظمة القومية التي قامت في العالم العربي والتي أضْفتْ على نفسها صفات التقدمية والتحضر واتهمت الخلافة التركية على طول تاريخها بالتخلف والرجعية والجمود وغير ذلك.
أما المؤرخون المسلمون في المشرق العربي فقد ساروا في ركب الاتجاه المهاجم لفترة الخلافة العثمانية، مدفوعين إلى ذلك بالعديد من العوامل يأتي في مقدمتها إقدام الأتراك بزعامة مصطفى كمال أتاتورك على إلغاء الخلافة الإسلامية في فبراير سنة 1924م، وأعقب ذلك إقدام الحكومة العلمانية التركية على التحول الكامل إلى المنهج العلماني في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على حساب الاتجاه الإسلامي الذي ظل سائداً في تركيا منذ قيام الدولة العثمانية، وانخراط هذه الحكومة في السياسة الأوروبية المعادية للمشرق العربي الإسلامي واشتراكها في سلسلة الأحلاف العسكرية الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي لم تلق ارتياحاً لدى بعض الحكومات والشعوب العربية، وكانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بقيام الكيان الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين سنة 1948م، وكذلك تأييدها للعدوان الإسرائيلي - الإنجليزي - الفرنسي على مصر سنة 1956م، الأمر الذي أدى إلى قبول الاتجاه القومي العربي وانحسار الاتجاه الداعي للإطار الإسلامي بعمقه التاريخي الذي قادته تركيا فترة الخلافة العثمانية.
ويأتي عامل التبعية البحثية لمدرسة التاريخ العربي لمدارس التاريخ الغربية كعامل هام في الاتجاه نحو مهاجمة الخلافة العثمانية، ولا يرجع ذلك إلى سبق المدارس الغربية في ميدان الدراسات التاريخية فحسب، بل يرجع كذلك إلى التقاء وجهات النظر بين المؤرخين الأوروبيين والمؤرخين العرب حول تشويه تلك الفترة.
فقد اتجه كثير من المؤرخين العرب مبهورين بالحضارة الأوربية، إلى إسناد كل ما هو مضيء في تاريخ بلادهم إلى بداية الاحتكاك بهذه الحضارة، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث من وصول الحملة الفرنسية على مصر والشام وما أدت إليه من كسر جدار العزلة بين الشرق والغرب، وما أعقبها من قيام الدولة القومية في عهد محمد علي في مصر. وصحب ذلك اتجاههم لإدانة الفترة العثمانية التي عزلتهم عن أوروبا دون أن يقدروا للخلافة العثمانية حمايتهم من الهجمة الأوروبية الشرسة.
ضم وليس غزواً ولا فتحاً:
ثار جدل حاد حول ضم الدولة العثمانية الدول الإسلامية إليها، فأطلق عليه البعض غزواً. ولكن الغزو لا يكون إلا من مستعمر يريد أن يستبعد، وأسماه الآخرون فتحاً، والفتح يكون لأراض جديدة لم تطأها أقدام المسلمين من ذي قبل. لكنه في الحقيقة ضم، أي توحيد العالم الإسلامي في هذا العصر في دولة واحدة تستطيع أن تجابه الأخطار التي تحدق بالأمة، خاصة خطر البرتغال الذي أخذ يطوق جنوب الجزيرة العربية، وفشل المماليك في مجابهته وكبح جماحه. كذلك إيقاف الهجمات الصليبية على سواحل المغرب.
ولقد عرف التاريخ العربي مدرستين في الحكم على القرون الثلاثة التي حكم فيها العثمانيون المسلمون أرض الإسلام. (السادس عشر إلى الثامن عشر الميلادي).
- الأولى:
مدرسة القوميين العرب: والتي انتعشت في المشرق العربي عموماً، وفي الشام على وجه الخصوص، والتي عرفت مرحلة من الصدام مع الدولة العثمانية، وهو الصدام الذي بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر ووصل إلى ذروته خلال الحرب العالمية الأولى، خاصة بعدما عرف «بمذابح جمال باشا»، الحاكم التركي الذي أعدم عدداً من دعاة القومية. ويمكن النظر لكتابات - ساطع الحصري – كنموذج لتفكير هذه المدرسة، التي قامت على إدانة العصر العثماني برمته، وحملته المسؤولية عن التخلف العربي، هذا التخلف الذي انفجر في وجوه العرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر والشام، والذي بدأ معه اتساع الفجوة الحضارية بين رجال الحملة الذين جاءوا ممثلين لكل ما كانت قد أحرزته أوروبا خلال القرون الثلاثة السابقة وبين «بقاء الحال» على ما هو عليه خلال ذلك العصر الذي طال عن أي عصر سابق.
-الثانية:
مدرسة المؤرخين المغاربة: والتي عرفت من الحكم العثماني وجهاً آخر لا يقوم على الحكم المباشر والجمود وعدم التجديد، فيما رآه أبناء المدرسة السابقة، فهم لم يعرفوا من السلطنة سوى تبعية شرعية، كما أنهم بحكم الجوار البحري ظلوا على صلة مستديمة مع أوروبا الواقعة إلى الشمال القريب منهم.
وقد أدى هذا القرب إلى اختلاف الصورة، فقد نجم عنه حالة من «الصدام» شبه الدائم مع الجار الأوروبي، والذي بدأ بالبرتغال وإسبانيا وامتد إلى سائر القوى البحرية الطامعة، الأمر الذي أدى إلى أن تلعب اسطنبول – عاصمة الخلافة العثمانية- دوراً مختلفاً هنا، وذلك من خلال تقديم المساعدات لبلاد المغرب لمواجهة القوى الأوروبية الطامعة، في الوقت ذاته.
* الاعتقاد الخاطئ بأن العثمانيين هم السبب وراء حالة الركود والتخلف التي سادت بلاد العرب
أصاب العرب وبلادهم هبوط وانحدار في مسيرة الحركة الفكرية بعد القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي- الذي يعتبر نهاية عصر الازدهار. وساد الاعتقاد أن الحكم العثماني قد أدى إلى ركود الحياة الفكرية في بلاد العرب، بعد أن كانت الفترة السابقة لهذا الحكم – العصر المملوكي- فترة ازدهار وإشراق فكري، وأنها كانت تفوق الحركة الفكرية في العصر العثماني تقدماً وابتكاراً، اعتماداً على ما انتشر في ذلك العصر – المملوكي- من تأليف الموسوعات مثل – نهاية الأرب- للنويري، و- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار- لابن فضل الله العمري، و- صبح الأعشى- للقلقشندي، حتى وصف ذلك العصر بعصر الموسوعات. ولكن مثل هذا القول فيه الكثير من المغالاة، فإن عملية تأليف الموسوعات كانت خلواً من الابتكار والتجديد، وما هي إلا جمع من آثار المتقدمين. فهي لا تحتاج إلى جهد في التفكير بقدر ما تحتاج إلى جد وصبر كبيرين. وإذا كان لهذه الموسوعات فضل، فأنها حافظت على نصوص بعض الكتب التي فقدت عندما حطم المغول مكتبة بغداد.
وإضافة إلى ذلك فإن الحياة الفكرية، أخذت لاسيما في أواخر العصر المملوكي تميل إلى الركود والخمول التدريجيين. كما انعدمت روح الإبداع والتجديد. واتجه المفكرون نحو التقليد، هذا إذا ما استثنينا بعض العلماء الذين شذوا عن هذا الاتجاه، كابن تيمية ت: 728هـ 1328م وتلميذه ابن قيم الجوزية ت: 751هـ 1350م وابن خلدون ت: 808هـ 1406م، وصاحب هذا الركود تحول طرق التجارة العالمية عن البحر المتوسط والشرق الأدنى إلى المحيطات والعلم الجديد.
وهكذا وقعت البلاد العربية تحت الحكم العثماني، وهي تعاني كثيراً من مظاهر الشلل في حياتها الفكرية، ونُضُوباً في إنتاجها العلمي ومواردها الاقتصادية.
فالثابت تاريخياً أن الانتقال من دولة المماليك لدولة العثمانيين لم يؤثر في الحياة الفكرية، فليست هناك فروق جوهرية يعتد بها بين طبيعة الحكم العثماني وطبيعة الحكم المملوكي، كما أنه ليس هناك دليل على ما زعمه البعض من أن الحكم العثماني يقتضي الجمود ويجافي التطور، بينما الحكم المملوكي لم يقتض ذلك.وليس هناك وجه لما زعمه البعض أيضاً من أن الحكم العثماني أدى إلى مقاطعة حركات التغيير المعاصرة بينما الحكم المملوكي لم يقاطعها في زمانه.
والحقيقة أن العثمانيين لم يضربوا نطاقاً غليظاً على الفكر والتعليم في البلاد العربية، كما أنهم لم يغلقوا مدارس العلم، ولم يقفوا سداً في وجه الابتكار، بل إنهم على العكس من ذلك تركوا أنماط الحياة التعليمية في البلاد العربية تأخذ مجراها الطبيعي، الذي كانت تتجه فيه قبل الضم، فأبقوا للمدارس أوقافها التي كانت مخصصة لها من قبل، كما عملوا من جانبهم على إنشاء المدارس في عاصمة ملكهم، وفي المدن العربية التي خضعت لهم من أجل رفع المستوى العلمي والديني.
أما ما جعل البعض يغالي ويبالغ في هذا الادعاء بالجمود المزعوم في العصر العثماني، فهو أن الحضارة الأوروبية في ذلك الوقت كانت قد بلغت تقدماً عظيماً، مما دفع بعض الرحالة الأوروبيين في الولايات العثمانية – بعضهم من المستشرقين – إلى المبالغة في تصوير أحوال تلك الولايات بلون مفرط في السواد. بيد أن الازدهار الأوروبي أخفى أن الذين نعموا به حقاً كانوا قلة في كل مكان. وهذا هو منشأ الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات.
والصورة الصحيحة عن فترة الحكم العثماني وتشجيع العلم والعلماء، ما كان من استمرار حلقات العلم بالحرم المكي الشريف ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة والأزهر والجامع الأموي والمسجد الأقصى، وجامعة القيروان والقرويين بالمغرب العربي. ولم تخل الأقاليم العربية من المدارس والعلماء المشهورين، الذين كان طلاب العلم يرتحلون إليهم للأخذ عنهم، مثلما فعل الشيخ محمد مرتضى الزبيدي، الذي سافر عدة مرات بين الأقاليم والولايات العربية للأخذ من علمائها. كما كانت الندوات العامة في قصور الأمراء وبيوت العلماء، ومن أشهرها تلك الندوة التي كانت تعقد بقصر الأمير رضوان كتخدا الجلفي، كذلك اهتم الأمراء والعلماء والتجار على السواء بإنشاء المكتبات الخاصة في منازلهم، إضافة إلى إمداد مكتبات المساجد والجوامع والزوايا بكمية كبيرة من الكتب، وكانت أسرة الشرايبي من أكثر الأسر اهتماماً بنشر العلم،فأنشأت مكتبة خاصة في بيتها في الأزبكية بالقاهرة، ساعدها على ذلك ثراؤها الضخم، نتيجة اشتغال أفرادها بالتجارة، وكانت هذه الأسر تسمح بإعارة الكتب لمن يريدها. كما وجد في هذا العصر عدد من الأمراء الذين اهتموا بأخذ العلم عن العلماء، بل إن بعضهم شارك في حركة التأليف سواء في العلوم العقلية أو النقلية، مثل الأمير رضوان أفندي الفلكي صاحب المدرسة الشهيرة لعلم الفلك في النصف الأول من القرن الثامن عشر.
كما وجد عدد من الباشوات، أخذوا العلم عن العلماء مثل عبد الله باشا الكبورلي الذي كان والياً على مصر في الفترة ما بين 1142-1144هـ/1729-1731م الذي أخذ عن الشيخ عبد الله الشبراوي، والوزير-أحمد باشا- المعروف بكور وزير الذي كان والياً على مصر عام 1162هـ/1749م وكانت له اهتمامات بالرياضة والفلك، ورسم عدة مزاول بالجامع الأزهر، وأخذ عن الشيخ حسن الجبرتي.
ووجد في القرن الثامن عشر بعض الأفراد المهتمين بالعلم وتشجيع العلماء، مثل الشيخ أحمد أبو المداد السادات الذي عرف عنه اهتمامه بالفلك، كذلك شهد العصر العثماني عدداً من العمائر العظيمة التي أقامها العثمانيون في جميع الولايات؛ في مصر على سبيل المثال تلك العمارة العظيمة التي أنشأها الأمير محمد أبو الدهب حين أنشأ جامعه المشهور المقابل للأزهر، ورغم ذلك لم يُضفْ إلى الثقافة العربية أي جديد باتصالها بالثقافة العثمانية إلاّ في بعض النواحي التنظيمية والإدارية والعمرانية وذلك لسببين:
-الأول:
أن العثمانيين في ذلك الوقت لم يكن لهم رصيد حضاري كبير ليقدموه للحياة العلمية في البلاد العربية.
-الثاني:
أنه في الوقت الذي اتصل العثمانيون فيه بالبلاد العربية عن طريق الضم، كانت الثقافة العربية قد تخطت دور الابتكار والأصالة، ودخلت في دور التقليد.
والحقيقة إن الحركة الفكرية في بلاد العرب قد غلب عليها الجمود وعدم الابتكار قبل أن يأتي العثمانيون إلى تلك البلاد. ويرجع هذا الجمود الذي أصاب الحركة الفكرية في بلاد العرب والعالم الإسلامي من بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- والذي امتد إلى القرن الثامن عشر، إلى ثلاثة عوامل:
-الأول:
اعتقاد علماء المسلمين في العصور المتأخرة بأن العلوم قد تم وضع قواعدها من قبل، وليس في إمكانهم أن يأتوا بجديد فيها، يقول الشيخ أحمد الملوي (ت: 1181هـ 1767م) في شرحه الكبير على السمرقندية في علم البلاغة»، إنه ليس لمؤلفي المتأخرين مع المتقدمين إلا حسن السبك لكلامهم وزيادات وتحقيقات يأخذونها من فحوى نظامهم».
-الثاني:
انتشار روح التقليد التي سرت في المذهب السني في ذلك الوقت، والتي قاومت أية محاولة للابتكار والتجديد، واعتبارها محاولة لهدم ما بناه الأولون. واتهام كل من خرج عن هذا الطريق ولو قليلاً بالإلحاد والزندقة وهكذا قُفل باب الاجتهاد وضعفت روح الابتكار، وحل محلها التقليد والمحاكاة.
وقد عبر الشيخ أحمد الجوهري (ت:1181هـ /1767م) أحد علماء القرن الثامن عشر المشهورين عن ذلك، فقال: «اعلم بأن من يأتي منه العلم النافع والصواب أن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين في عالية الرفعة والمكانة والقرب من رب العالمين. وأن كل واحد منهم على نور من ربه وخالقه، وأن تقليد أي واحد منهم يرضاه الله ورسوله وأن فعل كل واحد عند الله عظيم، فكل من قلد واحداً منهم فهو على نور من ربه، لا يشك في هذا إلا كل من ابتلاه الله بالمقت والخزي من رب العالمين».
-الثالث:
ما انتشر بين المسلمين من عصبية حادة مذهبية وطائفية كالخلاف بين الفقهاء والصوفية، وبين السنة والمعتزلة، وبين السنة والشيعة، والخلاف بين المذاهب الأربعة، وبدلاً من أن تؤدي هذه الخلافات إلى النتيجة الطبيعية لها، وهي ظهور نهضة فكرية، فإنها قد أدت إلى عواقب وخيمة على الحركة الفكرية، لأن هذه الخلافات لم تجر في جو يسوده العدل والحرية، وإنما كان طابعها هو الاعتساف والتنكيل بالخصوم. كما حدث في مشكلة خلق القرآن، والقضاء على المعتزلة، وقتل الحلاج، ونفي ابن رشد، فحرم الفكر الإسلامي من ثروة فكرية كبيرة، لو أتيح لها التعبير عن نفسها، لكان من المحتمل أن تتغير مسيرة الحركة الفكرية الإسلامية التي اتجهت إلى الهبوط والانحدار من بعد القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي- الذي يعتبر نهاية عصر ازدهار الفكر الإسلامي.
أما عن اللغـة التركيـة:
فيعتبر بعض المؤرخين أن اللغة التركية كانت لغة مستعمر، وأن حكم العثمانيين للبلاد العربية احتلال. وينسون أن اللغة العثمانية في الأساس هي لغة تركية طُعمَتْ على مر السنين بمفردات عربية وفارسية كثيرة ربما طغت على العنصر الأصلي، لذا لم يكن هناك ما يدعو إلى فرضها بالقوة على البلاد العربية لسببين: -الأول: أن هذه اللغة – أي التركية- كانت مفهومة التداول بين أبناء الأقطار العربية لكثرة ما فيها من كلمات ومفردات عربية، ولأنها كانت تكتب بالحروف الهجائية العربية.
-الثاني: لم يفرض الحكام العثمانيون هذه اللغة قط على أهل اللغة العربية التي يقدسونها لأنها لغة القرآن الكريم الذي يحفظونه عن ظهر قلب.
أما عن جعل الأتراك والعثمانيين مستعمرين فهذا غير صحيح، إذ إن حكم أية دولة أسلامية لأي إقليم مسلم لا يمكن وصفه بأنه احتلال، خصوصاَ إذا كانت تلك الدولة تحمل صفة الخلافة، والمسلمون لم يعرفوا في تاريخهم اصطلاح -الاحتلال- فيما بينهم، وإنما كانوا أينما أقاموا في ديار الإسلام مواطنين في دولة الإسلام بصرف النظر عن موقع عاصمتها، سواء أكان في دمشق أم بغداد أم القاهرة أم الآستانة، وسواء أكانت من بني أمية أم من بني العباس أم من بني عثمان.
ولنا أن نقول: إن الدولة العثمانية – رغم انشغالها بالدفاع عن حوزة الإسلام ضد الإمبراطورية النمساوية وروسيا، مما ألب عليها جميع القوى الصليبية التي لم يكن لها هم سوى تصفية الخلافة الإسلامية، وشن حرب صليبية جديدة متواصلة ضد الدولة العثمانية، لاستنزاف قواها وإشغالها عن التنمية والتطوير ونشر العلوم- لم تكن غافلة عن التخلف العلمي الذي أصاب أبناءها، ولذلك بادرت في القرن التاسع عشر الميلادي رغم جميع الصعاب إلى توفير الأسباب لنهضة علمية، تشمل جميع أقاليم الإمبراطورية العثمانية، ومنها الأقاليم العربية، لذا قام مدحت باشا الوالي العثماني المعروف الذي تولي ولايتي بغداد والشام بعدة إصلاحات في التعليم وشتى نواحي الحياة، وكذلك رشيد باشا رسول السلطان عبد الحميد الذي افتتح مدرسة سماها مدرسة العشائر في اسطنبول، يدرس فيها أولاد الأعيان العرب من جميع الأقطار العربية، وبفضل هذه المدرسة استطاع بعض العرب أن يرقوا إلى أعلى المناصب في الدولة، وشكلوا كتائب الزحوف العربية، واتخذ منها رشيد باشا حرساً خاصاً للسلطان، وقد حازت هذه الكتائب إعجاب الجميع لما وقعت حوادث 31مارس، فكانت هذه الكتائب أول من تقيد بالأوامر السلطانية ضد الأرمن واليهود وبعض الأتراك الذين كانوا يريدون تصفية الخلافة الإسلامية في تركيا. لذا لم يكن السلطان عبد الحميد يقدم على قطع رواتب الأشراف من العرب، بالإضافة إلى ذلك كانت تصلهم هدايا ونياشين دورية من السلطان اعترافاً بجهود أبنائهم المخلصة في هذه الكتائب.
هكذا نرى أنه ليس من العدل تسمية فترة الحكم العثماني للدول العربية احتلالاً، وإن كان هناك بعض التقصير في حق هذه الدول عند اضطرار أهل الحكم المسلمين أن يكونوا وحدهم في مواجهة القوى الأوروبية المعادية الشرسة طيلة عدة قرون، مما لم يدع لها مجالا لكي ترعى النواحي العلمية والثقافية، وهذه أمور يجب أن يدركها أهل التاريخ الذي جار على العثمانيين بالافتراءات التي ليس لها أساس من الصحة.
الهيمنـة الروحيـة للدولـة العثمانيـة على العـالم الإسـلامي:
عندما زار الأمير محمد علي (ولي عهد مصر الأسبق) إندونيسيا في عام 1929م، لاحظ أن العلم التركي يرفرف على سيارة البريد التي جاءت لتقله إلى الباخرة التي كان يستقلها الأمير، هذا العلم الذي كان يرمز لدولة الخلافة العثمانية في تلك البلاد القاصية، التي لم تخضع في يوم ما للسيطرة السياسية للعثمانيين، وفسر الأمير تمسك أهل هذه البلاد برمزية هذا العلم للدولة العثمانية بأنها عروة الدين تربط الممالك وتهيئ للناس قبلة واحدة يولون شطرها من كل فج. ومن العجيب أنه في تلك الفترة وهو ما لم يذكره الأمير أن الخلافة كانت قد ألغيت، وهي التي يرمز إليها العلم وسيطر أتاتورك وأنصاره على الحكم في تركيا مثيرين النزعة القومية الطورانية ضد نظرية دولة الخلافة العثمانية التي طوى الكماليون صفحات تاريخها لتصبح جزءاً من الماضي.
إن الهيمنة الروحية للدولة العثمانية على مسلمي العالم هي التي جعلت العلم التركي يرفرف في إندونيسيا حتى بعد سقوط الدولة.
فقد قضي الأمر وسقطت الدولة العثمانية، وسقطت معها تلك الهيمنة التي كانت تؤجج الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي على تنوع هذه الشعوب، وامتداد الرقعة الجغرافية التي تشغلها. ولكن كيف احتلت هذه الدولة هذه المكانة؟ والإجابة على هذا السؤال توجب علينا البحث عن عبر صفحات تاريخ هذه الدولة.
شغلت الدولة العثمانية المسلمين بانتصاراتها العسكرية، فلأول مرة منذ عهد الدولة العباسية الأولى، يكتسب المسلمون أرضاً عن طريق الفتوحات العسكرية، وبالتالي فقد أعادت إلى النفوس والأذهان شيئاً ما كان مفقوداً، فبعد أن كانت بلاد المسلمين معرضة لهجمات المغول تارة وهجمات الصليبيين تارة أخري، الذين كونوا إمارات لهم في بلاد الشام، ظلت إلى أن أجلاهم عنها المماليك، أصبح المسلمون في الدولة العثمانية هم أصحاب المبادرة في الوقت الذي ضعفوا فيه ووهنوا في الأندلس.
فهذه القبائل التركية إبان تحركها غرباً اعتنقت الإسلام على المذهب السني، وهو حادث على جانب عظيم من الأهمية، ذلك أن مذهب السنة الرصين الواضح قد اتفق وطبيعة الأتراك، وهكذا تقرر في التاريخ ميلاد تيار لا يقهر، بسبب اعتناق قبائل رعوية الأصل الإسلام على المذهب السني، وترتب على ذلك أيضاً أن تولدت روح جهادية ملأت تاريخ الدولة العثمانية، ومن ثم أنصف كثير من المؤرخين الأوروبيين اللذين بدأوا مؤلفاتهم بالبحث عن البنية الأساسية للدولة أي اكتشاف طبيعتها.
وأعظم الفتوحات التي جعلت للعثمانيين مكانة خاصة في قلوب المسلمين، فتح القسطنطينية. ويعود ذلك إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- بشر بفتحها في حديث له، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»، وكانت محاولات عدة لفتحها وقعت في عهد الدولة الأموية، ولكن منذ ذلك الحين لم يقم المسلمون بمحاولات جادة لفتحها، وتحقق ما بشر به الرسول على يد السلطان محمد الفاتح في مايو 1453م. وكان فتح القسطنطينية يحمل دلالات عديدة لعل من أبرزها نقل عاصمة الدولة من بروسه إليها، وهو ما يعني أن الدولة أصبحت آسيوية أوروبية وانتقل مركز ثقلها إلى أوروبا، وبالتالي بدأ انتشار الإسلام كدين في شرق أوروبا. في نفس الوقت كان المسلمون تحت حكم المماليك يعانون معاناة شديدة فقد فسد حكمهم وتصارعوا على النفوذ والأموال وحاق بالعباد الظلم وبالبلاد الخراب. على عكس ما كان عليه مماليك الصالح أيوب أصحاب دولة المماليك البحرية ذوو الأمجاد العسكرية في المنصورة، عين جالوت، وعكا، الذين جاءوا صغاراً وربوا تربية إسلامية وعسكرية فأصبح ولاؤهم للإسلام ثم للسلطان. ترتب على ظلم المماليك للعباد، والحالة المتردية للدولة نتيجة لتصارعهم مع بعضهم بعضاً وانهيار اقتصاد الدولة المملوكية بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وتطويق البرتغاليين لجنوب العالم الإسلامي، أن دعا علماء مصر العثمانيين لضمها لدولتهم. ذكر ذلك عبدالله بن رضوان في كتابه «تاريخ مصر» فقال: إن علماء مصر وهم نبض المجتمع كانوا يلتقون سراً بكل سفير عثماني يأتي إلى مصر، ويقصون عليه شكواهم من جور الغوري ويقولون له بأن الغوري، وهو السلطان قبل الأخير من سلاطين المماليك، يخالف الشرع الشريف، ويستنهضون عدالة السلطان العثماني لكي يأتي ويضم مصر. قال يانسكي في كتابه عن السلطان سليم الأول: إن علماء مصر كانوا يراسلون السلطان سليم الأول منذ بداية توليه عرش بلاده، لكي يقدم إلى مصر على رأس جيشه، ليضمها، ويطرد منها الجراكسة (المماليك).
أما الشام فقد رحب أهلها بقدوم العثمانيين، قبل قدومهم الفعلى، فعلى سبيل المثال، كان الغوري قد تحرك من مصر بجيوشه إلى الشام، وفوجئ بأن الأهالي لقنوا أطفالهم صيحة: «ينصرك الله العظيم يا سلطان سليم» في حين اجتمع العلماء، القضاة، والأعيان، الأشراف، وأهل الرأي مع الناس ليتباحثوا في حالهم، ثم قرروا أن يتولى قضاة المذاهب الأربعة والأشراف كتابة عريضة نيابة عن الجميع ، يخاطبون فيها السلطان سليم الأول ويقولون فيها إن الناس ضاقوا بالظلم المملوكي، وأن حكام المماليك يخالفون الشرع الشريف، وأن السلطان إذا قرر الزحف على السلطنة المملوكية، فان الشعب سيرحب به، وتعبيراً عن فرحته سيخرج لملاقاته، وقد طلبوا من سليم الأول أن يرسل لهم رسولا من عنده، يقابلهم سرا ويعطيهم عهد الأمان. حتى تطمئن قلوب الناس، وهذه العريضة محفوظة في متحف – طوبقوسراي – باسطنبول رقم ( 11634/6).
لقد أدى ضم الدولة العثمانية مصر، الشام، الحجاز، العراق، اليمن والمغرب الإسلامي، إلى دمج هذه الدول في كل موحد شاسع يحده المغرب الأقصى وإيران وبراري روسيا الجنوبية والحبشة. وهذا الكل الموحد يمثل دولة تعتبر من حيث اتساعها (000‚500‚2 كيلو متر في حال أقصى توسع لها )، ومن حيث وجودها تسيطر على ثلاثة أرباع محيط البحر المتوسط الذي عد لفترة زمنية بحراً داخلياً تسيطر عليه الدولة العثمانية، كياناً سياسياً لم يعرف الغرب نظيراً له منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية. ووفقاً لتعبير( ج.سوفاجيه)، فإن: «كل راعية من رعايا السلطان (كان بوسعه) منذ ذلك الحين الانتقال من الدانوب إلى المحيط الهندي، ومن فارس إلى المغرب دون أن يكف عن أن يكون خاضعاً لقوانين واحدة ودون أن يكف عن التحدث بلغة واحدة واستخدام عملة واحدة، وهو ظرف خلق وحدة بين شعوب العالم الإسلامي، فحدثت هجرات متبادلة بين شعوب العالم الإسلامي، فالمجتمع المصري في ذلك العصر كان يضم شوام، مغاربة، حجازيين وأتراكاً، انصهروا جميعاً في بوتقة الأمة الإسلامية، وتزاوجوا وتناسلوا، مكونين المجتمع المصري الذي لم يعرف تفرقة بين أي فرد من أفراده، فالجنسية هنا للإسلام لا للأوطان.
وذلك المشهد يذكرنا بما شاع في كتب الطبقات عن المشاهير والإعلام بنسبتهم لمدنهم وقراهم لا لدولهم، لأن الدولة هنا جزء من كل، كما أن المدينة جزء من الكل أيضاً، والكل هنا الأمة الإسلامية التي ينتمي إليها الجميع، والدولة زمنية، بينما الأمة لا يرتبط وجودها بزمن دنيوي. كما ترتب على ضم الحجاز إلى الدولة العثمانية أن أصبحت الأراضي المقدسة تحت رعاية سلطان آل عثمان، فتلقب سلطانهم بلقب، «حامي حمى الحرمين الشريفين»، وتولي العثمانيون تأمين طرق الحج الدولية وتوفير الخدمات عليها، وحمايتها من الأخطار الخارجية، وكسبوا بذلك مكانة خاصة لدى مسلمي العالم لكونهم حماة ورعاة الحرمين الشريفين، فضلاً عن رعايتهم للقدس والمسجد الأقصا. ويقدم لنا عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه تحليلاً لسبب بقاء الدولة العثمانية، فهو يتحدث عن اهتمام السلاطين العثمانيين «بإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع فتحصنت دولتهم وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم الملك والمملوك».
والخـلاصـة:
أن الأتراك العثمانيين غير مسؤولين عن هذا الضعف الذي ألم بالحركة الفكرية في العصر العثماني وحتى النصف الأول من القرن الثامن عشر، ذلك أن الفكر الإسلامي بوجه عام، كان قد بدأ في التدهور منذ القرن الرابع الهجري «العاشر الميلادى»، وأن الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، لم تكن هي السبب الذي أدى إلى تطور الفكر العربي، لأن هذه النهضة قد بدأت تباشيرها في الظهور منذ أوائل القرن الثامن عشر، ثم نمت في أواخر القرن، أي قبل مجيء الحملة الفرنسية، وإن كانت هذه النهضة، قد خالفت النهضة الأوروبية، فقد كانت تهتم بالعلوم النقلية أكثر من العلوم العقلية. وكل تأثير الحملة الفرنسية أنها نبهت أذهان العرب إلى نمط جديد من الحضارة يختلف عن النمط السائد في المجتمعات الشرقية، ينبغي الأخذ به، وهذا ما تم على يد محمد على في مصر، الذي أرسل البعثات إلى أوروبا، وعمل على الأخذ بالحضارة الأوروبية.
وأن العصر العثماني لم يكن عصر إفلاس فكري وحضاري، فالعثمانيون لم يضربوا نطاقاً غليظاً على الفكر والتعليم في البلاد العربية، كما أنهم لم يغلقوا مدارس العلم، ولم يقفوا سدا منيعاً في وجه الابتكار، بل إنهم على العكس من ذلك تركوا أنماط الحياة التعليمية في البلاد العربية تأخذ مجراها الطبيعي، الذي كانت تتجه فيه قبل الضم، فأبقوا للمدارس أوقافها التي كانت مخصصة لها من قبل، كما عملوا من جانبهم على إنشاء المدارس في عاصمة ملكهم، وفي المدن العربية التي خضعت لهم من أجل رفع المستوى العلمي والديني.
الدولـة العثمانيـة صـور مشرقـة
لقد كان من حسنات العثمانيين التي تستحق أن يعرفها لهم التاريخ:
1 - توسيع رقعة الأرض الإسلامية، إذ فتح العثمانيون القسطنطينية وتقدموا في أوروبا مما عجز عنه المسلمون من قبلهم منذ أيام معاوية، وساروا فيها شوطاً بعيداًً حتى وقفوا على أبواب فيينا وحاصروها أكثر من مرة دون جدوى.
2 - الوقوف في وجه الصليبيين على مختلف الجبهات، فقد تقدموا في شرقي أوروبا ليخففوا الضغط عن المسلمين في الأندلس، كما انطلقوا إلى شمال البحر الأسود ودعموا التتار المسلمين ضد الصليبيين من الروس هذا فضلاً عن التصدي للأسبان في البحر المتوسط والبرتغاليين في شرق إفريقيا والخليج.
3 - عمل العثمانيون على نشر الإسلام، وشجعوا على الدخول به، وقدموا الكثير في سبيل ذلك، وعملوا على التأثير في المجتمعات التي يعيشون بينها.
4 - إن دخول العثمانيين إلى بعض الأقطار الإسلامية قد حماها من بلاء الاستعمار الذي ابتلت به غيرها في حين أن المناطق التي لم يدخلوها قد وقعت فريسة للاستعمار.
وظروف ومراحل انضمام الجزائر وبعض أراضي المغرب العربي إلى الدولة العثمانية، خير شاهد على ذلك، فلقد تعرضت الجزائر، والمغرب العربي عامة، في أواخر القرن 15م وبداية القرن 16م إلى ضعف شامل أصاب كل الإمارات والدويلات المتفرقة، في نفوذها وفي نظام حكمها. وهذا ما شجع اعتداءات الأسبان خاصة على عدة مدن ساحلية (وهران، بجاية، شرشال) مما أدى أحياناً إلى احتلالها فعلاً، فزادت مطامع الأوروبيين في خيراتها وثرواتها الطبيعية ،وموقعها الاستراتيجي المغري، وانتزعت آنذاك من الحكومات الممزقة والسلطات المنهارة امتيازات تجارية معتبرة.
ورداً على هذه الهجمات وتخوفاً من خطر الاحتلال التوسعي، استنجد الجزائريون (سنة 1516م) بالدولة العثمانية الممثلة في شخصيتي الأخوين البحارة –عروج وخير الدين- فاستجيب لطلبهم مباشرة وأُبعد الأسبان نهائياً عن السواحل الجزائرية. وبعد مرحلة تمهيدية تم فيها - لأول مرة في التاريخ - استرجاع بعض المدن المحلية وتوحيد مختلف الإمارات والقبائل داخل المغرب العربي- بربوعه وأجزائه المنتشرة داخل عمق كبير لم يصل إليه الإسلام من قبل- إلى كلمة واحدة. ثم تم وضع ترتيبات أولية لتنظيم هيئة دولية ومدنية حديثه. ولما استقر الأمر أصدر السلطان العثماني سليم عام 1533م فرماناً بتسمية بايلارباي والياً على الجزائر.
5 - كانت الدولة العثمانية تمثل الأقطار الإسلامية، فهي مركز الخلافة، لذا كان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخلافة وإلى الخليفة نظرة احترام وتقدير، ويعدون أنفسهم من أتباعه ورعاياه، وبالتالي كانت نظرتهم إلى مركز الخلافة ومقرها المحبة والعطف، وكلما وجد المسلمون أنفسهم في ضائقة طلبوا الدعم من مركز الخلافة.
6 - كانت الخلافة العثمانية تضم أكثر أجزاء البلاد الإسلامية، فهي تشمل البلاد العربية كلها باستثناء المغرب، إضافة إلى شرقي إفريقيا وتشاد وتركيا وبلاد القوقاز وبلاد التتار وقبرص وأوروبا بحيث وصلت مساحتها حوالي 20 مليون كيلومتر مربع.
7 - كانت أوروبا تقابل العثمانيين على أنهم مسلمون لا بصفتهم أتراكاً، وتقف في وجوههم بحقد صليبي وترى فيهم أنهم قد أحيوا الروح الإسلامية القتالية من جديد، وأنهم أثاروا الجهاد بعد أن خمد في النفوس مدة من الزمن، وترى فيهم مداً إسلامياً جديداً بعد أن ضعف المسلمون ضعفاً جدياً وتنتظر أوروبا قليلاً لتدمرهم، والأتراك العثمانيون حالوا بينهم وبين المد الصليبي في الشرق والغرب الإسلامي، الأمر الذي جعل أوروبا تحقد على العثمانيين وتكرههم.
8 - كانت للعثمانيين بعض الأعمال الجيدة تدل على صدق عاطفتهم وإخلاصهم، مثل إعفاء طلبة العلم الشرعي من الجندية الإلزامية، وكذلك إصدار المجلة الشرعية التي تضم فتاوى العلماء في القضايا كافة، وكذلك احترام العلماء وانقياد الخلفاء للشرع الشريف، والجهاد به، وإكرام أهل القرآن، وخدمة الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى.
9 - وكان للعثمانيين دورهم في أوروبا إذ قضوا على نظام الإقطاع، وأنهوا مرحلة العبودية التي كانت تعيشها أوروبا، حيث يولد الفلاح عبداً وينشأ كذلك ويقضي حياته في عبودية لسيده مالك الأرض. واهتم السلاطين بتقديم الصدقات والعطايا للموطنين.
10 - أن العثمانيين هم الذين أزالوا من خريطة العالم أقوى إمبراطورية صليبية، هي الإمبراطورية البيزنطية، وفتحوا عاصمتها سنة 857 هـ..
السلطـان عبد الحميـد والمطامـع الصهيونيـة فـي فلسطيـن:
رفض السلطان عبد الحميد رفضًا قاطعًا السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين وإقامة كيان لهم بها في عصره. (ولد السلطان عبد الحميد الثاني الأربعاء 21من سبتمبر 1842م، وتوج بالخلافة في 31 من أغسطس 1876م، وكان عمره آنذاك أربعاً وثلاثين سنة). وبعد اعتلائه العرش قامت الحرب بين الروس والإمبراطورية العثمانية، وقد حاول السلطان عبد الحميد تفادي وقوعها، ولكن مجلس الوزراء اتخذ قراراً أدى إلى اندلاعها، وهزمت الدولة العثمانية، واضطرت إلى قبول شروط قاسية ودفع تعويضات مالية كبيرة، وفي الحرب اليونانية التي وقعت 1879م اضطر السلطان عبد الحميد إلى دفع أكثر مصاريفها من خزينة الدولة الخاصة. وكان ينفق – دوماً – من ماله الكثير على الفقراء والمحتاجين. ولكنه بعد انتهاء هذه الحروب استعد لمجابهة الموقف وإيفاء الديون حتى يرد اعتبار الدولة العثمانية خاصة تجاه الدول الأوروبية.
والسلطان عبد الحميد يعد أعظم خليفة في العصور المتأخرة من الإمبراطورية العثمانية، وكان التعليم أول ما شغل باله، فأسس التعليم الابتدائي والمتوسط على الطراز الغربي، وأنشأ المدارس الإعدادية والثانوية في الولايات كافة، وافتتح في إستنبول- فقط- ست مدارس ثانوية، وكذلك افتتح المدارس الابتدائية في جميع القرى، وأوجد التوازن بين التعليم العسكري والتعليم المدني، وتوج نشاطه الواسع في مجال التعليم بإنشاء جامعة استنبول، ضمت هذه الجامعة أربع كليات، في مقدمتها كلية العلوم الدينية العالية من فقه وتفسير وحديث وأصول دين. وقد رأى السلطان عبد الحميد أن التعلىم المنظم هو السبيل إلى القوة والنظام واستنباط موارد جديدة للدولة، وحسن استغلال مواردها القديمة.
ويذكر إسرائيل كوهيني في كتابه «الحركة الصهيونية» (ص77) أنه «بتاريخ 18 من مارس 1901م تقدم يهودي مجري اسمه أورمينوس، وتبرع بمبلغ ضخم للسلطان عبد الحميد يريد شراء فلسطين لليهود، فما كان من عبد الحميد إلا أن طرده من القصر فوراً».
ومن منفاه يكتب السلطان عبد الحميد إلى الشيخ محمود أبو الشامات شيخ الطرق الصوفية- الذي كان بمنزلة صديق له – خطاباً يقول فيه: «كأمانة في ذمة التاريخ؛ ما تخليت عن الخلافة الإسلامية لسبب غير مضايقات رؤساء جمعية الاتحاد والترقي، المعروفة باسم «جون ترك» وتهديداتهم، فقد طلب إليّ أولئك الاتحاديون بإصرار وألحوا في الطلب أن أوافق على إنشاء وطن قومي لليهود في الأراضي المقدسة «فلسطين»، لكنني برغم إلحاحهم رفضت رفضاً قاطعاً ما راودوني عليه وقد وعدوا خيراً بتقديم مائة وخمسين ليرة ذهبية إنجليزية، فأبيت كل الإباء، وأجبتهم: لو جئتموني بملء الأرض ذهباً، لا بمائة وخمسين مليون ليرة ما قبلت منكم قط. إني خدمت عقيدة الإسلام والأمة المحمدية أكثر من ثلاثين عاماً دون أن ألوث صحائف آبائي وأجدادي المسلمين، ولن أقبل أبدا ما يريدون، عندئذ توعدوني بالمصير الذي أعدوه: الخلع والنفي».
وختم رسالته لصاحبه بقوله: «وحمدت الله، وأحمده تعالى أنني أبيت إلصاق العار الأبدي بالدولة العثمانية وبالعالم الإسلامي، فرفضت إقامة دولة يهودية في فلسطين المقدسة، وأكرر له سبحانه الحمد والثناء».
ومن الطريف الذي يجب أن يسجل لعهد السلطان عبد الحميد، الذي يرميه المؤرخون الغربيون بالتعصب الشديد، وكراهية أبناء الأديان الأخرى والجاليات غير المسلمة، أنه فتح أبواب المدارس العسكرية للمواطنين العثمانيين غير المسلمين، فكان من هؤلاء الخريجين يهود ويونانيون وأرمن.
المراجــــــــــــع:
1 - محمد أنيس: مدرسة التاريخ المصري في العصر العثماني، القاهرة 1962م.
2 - د. عبد الله العزباوي: الفكر المصري في القرن الثامن عشر بين الجمود والتجديد. مكتبة الأسرة 2007م.
3 - على مبارك: الخطط التوفيقية، دار المعارف 1968م.
4 - أنور عبد الملك: نهضة مصر. الهيئة العامة للكتاب 1983م .
5 - عبد الرؤف حسن خليل: إعادة كتابة تاريخ وحضارات الأمم، مجلة المنهل شعبان - رمضان 1421هـ.
6 - غوستاف لوبون: حضارة العرب. الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2000م.
7 - د. سيده إسماعيل كاشف وآخرون: موسوعة تاريخ مصر عبر العصور، تاريخ مصر الإسلامية، سلسلة تاريخ المصريين (63) – هيئة الكتاب – القاهرة 1993م.
8 - د. زكريا سليمان بيومي: حول قراءة إسلامية للتاريخ العثماني ودوره في الشرق العربي. مجلة المنهل –عدد خاص-التاريخ والمؤرخون- العدد 559 ديسمبر 2005م/يناير 2006م.
9 - محمد فؤاد كوبريلي: قيام الدولة العثمانية- ترجمة د. أحمد السعيد سليمان.الألف كتاب الثاني (119) هيئة الكتاب – القاهرة 1993م.
10 - صلاح عيسى: رجال مرج دابق- قصة الفتح العثماني لمصر والشام –دار الفتى العربي 1983م.
11 - كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية – الجزء الثالث –الأتراك العثمانيون وحضارتهم. بيروت 1961م.
12 - نجاة أحمد عروة: التنظيم الإداري الجزائري في العهد العثماني. مجلة تراث العدد 37 ديسمبر 2001م.
13 -هـ.ج. ويلز: موجز تاريخ العالم. ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد. مكتبة الأسرة 2001م.
14 - د. خالد عزب: الهيمنة الروحية للدولة العثمانية على العالم الإسلامي. مجلة المنهل – عدد خاص-التاريخ والمؤرخون العدد559 ديسمبر 2005م/يناير 2006م.
15 - صلاح عبد الستار محمد الشهاوي: السلطان عبد الحميد وصورة واضحة لسياسته. مجلة الفيصل العدد200 يوليو /أغسطس 1993م.
16 -أ.د. محمد عفيفي عبد الخالق: الأوقاف والدراسات العثمانية الجديدة. مجلة المنهل –عدد خاص-التاريخ والمؤرخون- العدد559 ديسمبر 2005م/يناير 2006م.
17 -صلاح عبد الستار محمد الشهاوي: هل العثمانيون مستعمرون حقا؟ مجلة الفيصل العدد 220 مارس 1995م.
منقول