الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله :
حديثنا في نقاط ثلاث: وقفة مع المصطافين – ثمّ وقفة مع المسافرين – ثمّ: كيف نجعل الإجازة موسما للعبادة ؟
أوّلا: وقفة مع المصطافين.
فمن المنكرات الشّائعة: ما يحدث على الشّواطئ البحرية ! فالله تبارك وتعالى سخّر البحرَ لعباده للانتفاع به، فقال تعالى:{اللهُ الَّذِي سَخَّرَلَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
فيا عجبا كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحـد
وله فـي كلّ شـيء آيـة *** تدلّ علـى أنّـه واحـد
فمن هذا الذي لا يريد التمتّع بجمال البحر وبرماله، وبحسنه ومياهه ؟
ولكن ما أحسنه لو كانت الشّواطئ مُطهّرةً من الاختلاط الخليع، والعُرْيِ السّافر، والتبرّج الممقوت، حيث استوى في ذلك الكبير والصّغير، والرّجال والنّساء، والأطفال والشّيوخ، حتّى زال الحياء، ورحلت المروءة بين الأسرة الواحدة من الأسر المسلمة:
فترى الرّجل يسبح شِبْهَ عارٍ أمام بناته ! وترى الأمّ تسبح شِبهَ عارية هي الأخرى أمام أبنائها، وأمام صهرها ! ولا تتحدّث عن منظر البنت أمام والدِها !
هذا إذا كانوا بين الأقارب، فكيف الأمر إذا كان ذلك أمام الأجانب ؟!
أهكذا تكون الأسرة المسلمة التي يفترض أن تكون محلّ تقدير واحترام، ووقار وإعظام ؟!
فكلّ هذه الأمور تتنافَى مع الرّسالة الّتي نحملها ونحن مجتمع مسلم، يهتدي بكتاب الله سبحانه، وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ولأُقرّب إليكم خطورة هذا الأمر، فإنّيأنقُلُ إليكم أحكاما تخصّ الحمّام ..
الحمّام الّذي جعل له الفقهاء أحكاما تخصّه، وكتبا تبيّن مواقع السّخط فيه من الرّضا، والمعصية من الطّاعة..
- روى البزّار عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النَبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( اِحْذَرُوا بَيْتاً يُقَالُ لَهُ الحَمَّامُ )) فقالوا: يا رسول الله ! إنّه يُنقي الوسخ ؟ فقال: (( فاسْتَتِروا )).[1]
( فاسْتَتِروا ) أي: لا يبدُ منكم شيء من العورة، وهي من الفخذ إلى الرّكبة كما هو معلوم. وفي رواية الحاكم قال: (( فَمَنْ دَخَلَهُ فَلْيَسْتَتَِرْ )).
- وروى التّرمذي والنّسائي عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ )).
هذا كلّه خطاب إليكم معاشر الرّجال ..
والآن إلى النّساء، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخاطبكنّ، ويدلّكنّ على ما ينجي تلكم الأجسادَ من نارٍ {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
- روى ابن حبّان في "صحيحه" والحاكم بسند صحيح - كما قال الألبانيّ رحمه الله - عن أبِي أيّوبَ الأنصاريِّ أنَّ النبيّ صلّى الله عليهوسلّم قال: (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ مِنْ نِسَائِكُمْ فَلاَ تَدْخُلْ الْحَمَّامَ )). فسمع عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث، فتتبّث من صحّته، فكتب إلى الولاة جميعم، فمنع النّساء من دخول الحمّام.
- وفي مسند الإمام أحمد ومعجم الطّبراني بسند صحيح أيضا عن أمّ الدّرداء رضي الله عنها قالت: خرجت من الحمّام، فلقيني النَبِيُّ صلّىالله عليه وسلّم فقال: (( مِنْ أَيْنَ يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ ؟ )) فقالت: من الحمّام، فقال: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ اِمْرَأَةٍ تَنْزِعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِأَحَدٍ مِنْ أُمَّهَاتِهَا، إِلاَّ وَهِيَ هَاتِكَةٌ كُلَّ سِتْرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَنِعزّ وجلّ )) !
- وروى التّرمذي عن أبي الْمليح الهذلي أنّ نساءً من أهلِ حمصَ أو من أهل الشّام دخلن على عائشة رضي الله عنها، فقالت: أنتنّ اللاّت يدخلن نساؤكنّ الحمّام ؟! سَمِعت رسولَ اللهصلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَا مِنْ اِمْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، إِلاَّ هَتَكَتْ السِّتْرَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَرَبِّهَا )) !
- وروى أحمد وأبو يعلى عن السّائب بن يزيد أنّ نساءً دخلْن على أمّ سلمة رضي الله عنها فسألتهنّ: من أنتنّ ؟ قُلن: من أهل حمص. قالت: من أصحاب الحمّامات ؟ قُلن: وبها بأس ؟ قالت: سمعت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا خَرَقَ اللهُ عَنْهَا سِتْرَهُ )) !
فالرّجال عليهم إذا دخلوا الحمّام أن يأتزروا.
أمّا النّساء فلا يدخلنه أبدا.
وقد رخّص العلماء للمريضة مرضا شديدا أن تدخله بشرط السّتر- أي تكون لها غرفة خاصّة - والأمن على عرضها، ولكن هذه الرّخصة فُقِدَت اليوم لسببين:
أ) لأنّ حمّامات البيوت اليوم عادت تغني عن الحمّام.
ب) أنّ الوازع الدّيني قد غاب عن طوائف كثيرة في المجتمع، حتّى أصبح من يمتلك مثل هذه الحمّامات يتّخذ الوسائل الحديثة للتجسّس على نساء المسلمين، فتوضع الكاميرات الصّغيرة فتُصوّر المرأة عارية ! ثمّ تهدّد بتلك الصّور فيما لا يمكن تخيّله.
هذا هو الحكم الشّرعي أيّها الإخوة .. هذا هو حكم الشّرع أيّتها الأخوات .. وإلاّ فهو دليل على نقص الإيمان بالله واليوم الآخر.
هذا الحكم في بيت يقال له الحمّام، بيت له جدران، ولا يدخله إلاّ عدد محدود، فما بالك بشاطئ شاسع واسع، يقصده المئات ؟!!
هذا هو الشّرع، هذا هو الدّين الذي كان عليه الأقدمون، ومن هتك هذا السّتر فهو الذي أتانا بالدّين الجديد، لا المستمسكون بشريعة ربّ العبيد.
لذلك أذكّر إخواننا أن يبتعدوا كلّ البعد عن هذه الشّواطئ التي يُعصى فيها الله تعالى، ولا تأمنوا من مكر الله وعذابه.
الوقفة الثّانية: مع السفر والمسافرين.
فالسفر في هذا الدين لا بأس فيه، بل قد يكون مطلوبًا لمقاصد شرعية، يقول الثعالبي رحمه الله:" من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى، ويدعوه شكرًا على نعمه ".
تلك الطبيعة قف بنا يـا سـارِ *** حتّى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا *** لـروائـع الآيـات والآثـارِ
وقد قيل:" لا يُصلِح النّفوسَ إذا كانت مدبرةً إلاّ التنقّل من حال إلى حال ". فالماء الدّائم يأسن، والشمس لو بقيت في الأفق واقفة لمُلَّت.
والأُسْدُ لولا فراق الغابِ ما افترست *** والسّهم لولا فراق القوس لم يُصِبِ
وهلمَّ جرّا..
لكن السّفر في الإسلام له حدود مرعيّة، وضوابط شرعيّة، منها:
أ) أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة: أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة، وبُؤَرٍ مشبوهة، فلا، ما لم يكن ثمَّ ضرورة.
ب) القدرة على إظهار شعائر الإسلام.
وإلاّ، فهل يُلقى الحَمَلُ الوديع في غابات الوحوش الكاسرة، والسَباع الضارية ؟!
نعم لسياحَة التّأثير لا التأثُّر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرّذيلة، والثّبات لا الانفلات.
كيف وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أعداء الإسلام يستهدفون أفواجًا من المسافرين المسلمين، للوقيعة بهم، فيبهرونهم عن طريق الغزو الفكري والأخلاقي ببلادهم، ويستغلّون كثيرًا من الزّائرين اقتصاديًا وأخلاقيًا، ويجرّونهم رويدًا رويدًا، إلى حيث الخنا والفجور، والمخدرات والخمور، والتبرج والاختلاط والسّفور، بل قد يرجع بعضهم متنكّرًا لدينه ومجتمعه، وبلاده وأمّته !
نعم، سافروا للخير والفضيلة، والدعوة والإصلاح، فلا حَجْر عليكم، وكونوا ممثِّلين لبلادكم الإسلامية، مظهرِين لدينكم، داعين إلى مبادئه السّمحة، حيث يتخبّط العالَم بحثًا عن دين يكفُل له الحرّية والسّلام، ولن يجدوه إلاّ في ظل الإسلام.
فكونوا أيها المسافرون سفراء لدينكم وبلادكم، مثلوا الإسلام أحسن تمثيل، كونوا دعاة لدينكم بأفعالكم وسلوككم، لا تبخلوا على أنفسكم باصطحاب رسائل تعريفية بالإسلام ومحاسنه وتعاليمه السمحة، (( فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ )).
الحذرَالحذرَ من أن يفهم العالَم عن المسلمين وشبابِهم أنّهم أرباب شهوات، وصرعى ملذّات ! بل أفهموهم بسلوكِكم أنّكم حَمَلَةُ رسالة شاملة، وشريعة خالدة كاملة.
الخطبة الثّانية.
الحمد لله، أعاد وأبدا، وأنعم وأسدى، أحمده تعالى وأشكره على آلائه التي لا نحصي لها عدّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدا فردًا صمدًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أكرم به رسولاً وعبدا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين أكسبهم شرفًا ومجدًا، والتابعين ومن تبعهم بأمثل طريقة وأقوم سبيل وأهدى.
أمّا بعد، معاشر المؤمنين ..
فأنا أعلم أنّ بعضَ إخواني يحدّث نفسه الآن ويقول: ما لهذا الخطيب ؟ أيريدنا أن نحمل كابوس الدّراسة في أيّام الإجازة ؟ أم يريدنا في نصَب دائم، ونشاط قائم ؟ أنحبس أنفسنا وأبناءنا ونقطع أسلاك أجهزة التلفزة ونجلس أمام بعض صامتين ؟ ينظر بعضنا إلى بعض نظر المغشيّ عليه من الموت ؟
وأنا أقول هوّن عليك يا أخي؛ فإنّ الله قد أذن لنا بالتمتّع بالطيّبات، وأعوذ بالله أن أكون ممّن أنكر الله تعالى عليهم بقوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:31].
ولكنّي أريد الوصول معكم إلى:
الوعي.. الوعي بمفهوم الإجازة الصحيح، والفهم لمنزلة الوقت في الإسلام وكيفية قضائه.
فعندما نتصوّر الإجازة فراغاً محضاً فإنّنا لن نفعل شيئاً مهمّا ذا بال، ينفع في الحال أو في المآل.
ولكنّنا عندما نتصوّرها فرصة للاستجمام، وتطويرا للذّات، فسوف نُنجِز أشياء طيّبة مهمّة، دون أن نبخس حقّ نفوسنا من الرّاحة والمرح.
وبذلك نحقّق أمرين مهمّين:
الأمر الأوّل: الفهم الصّحيح لمهمّة الإنسان في هذه الحياة، وعدم الغفلة عنها طرفة عين، قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّلِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فالعبوديّة لله سبحانه سرّ وجودنا، ووسام عزّنا، وتاج شرفنا، وإكسير سعادتنا.
وإنّ أمارة المسلم الحقّ: بقاؤه ثابتًا على مبادئه، وفيًّا لدينه وعقيدته، معتزًّا بأصالته وشخصيّته، فخورًا بمبادئ شريعته، لا يَحُدّه عن القيام برسالته زمانٌ دون زمان، ولا يحول بينه وبين تحقيق عبوديته لربه مكان دون آخر، فمحياه كلّه لله، وأعماله جميعها لمولاه:{قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
فحيثما كان وحلَّ، وأينما وُجِد وارتحل، فإنّه يضع العبودية لله شعارَه، وطاعته لربّه دثارَه.
الأمر الثّاني: أن نحقّق إنقاذ الشباب ..
أهدي الشباب تحية الإكبـار *** هم كن*** الغالي وسر فخاري
هل كان أصحاب النبي محمد *** إلا شبـابًا شـامخ الأفكـار
الشّباب عماد الأمّة، وقلوبها النّابضة، وشرايينها المتدفقة، وعقودها المتلألئة .. هم رجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصنّاع الأمجاد، وثمرات الفؤاد، وفلذات الأكباد.
فلا بدّ من تربيتهم تربيةً صحيحةً شاملة، وشغل أوقاتهم بطريقة متوازنة.
وهذه الأشهر الّتي يمرّون بها في فراغ من المشاغل الدّراسية النّظامية، لا بدّ أن يستثمرَها أولياء أمورهم ببرامج حافلة، تُكسبهم المهارات، وتنمِّي فيهم القدرات، تقوِّي إيمانهم، وتصقل فكرهم، وتُثْرِي ثقافتَهم.
فأين الآباء والمربّون من إعداد البرامج الشّرعية المباحة ؟ أين مشروع حفظ كتاب الله عزّ وجلّ؟ أين برنامج استظهار شيءٍ من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ أين تعلّم العلم النّافع، وكثرة القراءة في كتب أعلام الإسلام قديمًا وحديثًا ؟ أين صلتهم لأقاربهم وأرحامهم ؟ وأين وأين ؟
ولن يُعْدَم من يُفكّر ويتأمّل ألفَ وسيلة، يقضي فيها وقته مستمتعاً ومستفيداً في آن واحد.
كلّ ذلك حتّى لا يقعوا فريسةً في دهاليز الإنترنت، وشبكات المعلومات، وضحايا في سراديب القنوات والفضائيات، وأرصفة البطالةواللهو والمغريات.
فاتّقوا الله معاشر المؤنين، ولا تُبّدّلوا نِعَم الله عليكم كفراً وجحوداً، والله سبحانه هو القائل:{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}.
موقع نبراس الحق .