أخبر القرآن الكريم أن الماء -المني- الذي يُخلق منه الإنسان يخرج من بين عظام الظهر وعظام الصدر، قال تعالى: {فلينظرا لإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب} (الطارق:5-7). إنّه ذلك الماء الجاري الذي خرج من بين العظام الصلبة الثابتة، فتكون منه الحياة، فلا تعجب أن يُرجع الله الإنسان يسعى بعد أن دُفن ميتًا في بطن الأرض.
وقد استشكل بعضُ الناس وصف الماء الدافق الذي خُلق منه الإنسان، بأنّه {يخرج من بين الصلب والترائب}، ذلك أنّ المني يأتي من الخصية، والبويضة تأتي من المبيض، بينما {الصلب} هو عظم الظهر ذو فقراتٍ تمتد من أعلاه إلى أسفله، {والترائب} عظام الصدر، فكيف؟!
دعوى الإشكال!
جواب هذا الإشكال يعتمد على مقدمتين؛ إذ إن هذا الإشكال يصح لو أنّ الآية الكريمة كانت تنفي أي مصدرٍ للماء الدافق غير {الصلب والترائب}، أو لو كان العلم الطبيعي توصّل إلى نفي أيّ دورٍ للصلب والترائب في خروج الماء الدافق، فالمقدمة الأولى في بيان أن الآية الكريمة لا تنفي خروج الماء الدافق من الخصية، والمقدمة الثانية في إفادة أن العلم الطبيعي لا ينفي أيّ دورٍ للعظام في خروج الماء الدافق الذي يكون منه الولد.
المقدمة الأولى: الآية الكريمة لا تنفي خروج الماء الدافق من الخصية
المشهود أنّه لا يمتنع تعدد العلل للمعلول الواحد، وأنّ المنتج الواحد قد يكون حصيلة لأكثر من علة، وعليه فإنّ الفعل الذي يجري على عملياتٍ متعددة تشترك أو تتوالى، هذا الفعل يمكن وصفه بإحدى هذه العمليات، دون أن يلزم من ذلك نفي سائر العمليات، فلو كان هناك منتجٌ (ص) يصدر عن العملية (أ)، ثم (ب)، ثم (ج)، ووصفتُه بأنه ينتج من (أ) لا يعني ذلك أنني أنفي صدوره من (ب) و (ج)، أو وصفت (ص) بأنه ينتج من (ج) لم يكن ذلك نفياً لدور (أ) و (ب)!
مثال (1): الكلام يكون منتجًا (ص) من الفكر (أ) الذي يعمل عن طريق الأعصاب (ب) التي تحرّك أعضاء النطق (ج) وهي اللسان والشفاه وغيرها... فأنت مثلًا ترى أحد الناس يتكلم بكلمةٍ (ص) أغضبت من حوله، تلومه قائلاً: "هذه عاقبة فكرك (أ) السقيم!"، مع أنّه يكون باشر هذا الفعل بلسانه (ج)، واختيارك نسبة الخطأ في الكلام (ص) للفكر (أ) لا يعني أنّك تنفي نسبته لللسان (ج) مثلاً. ونظير ذلك حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذة الناس بكلامهم (ص)، أجاب أن الذي يكب الناس على وجوههم في النار هو "حصائد ألسنتهم (ج)"، دون أن يعني ذلك عند أحدٍ أن الكلام لا ينتج من بقية أعضاء النطق بخلاف اللسان، ودون أن يعني هذا أن الكلام لا يحتاج للفكر (أ) فيه قبل أن يخرج من اللسان!
تكمن البلاغة في اختيار الوصف المناسب للمقام، فأنت حين ترد الكلام وقت الملام إلى الفكر وتقول: "هذه عاقبة فكرك السقيم"، تطلب من المخاطَب أن يراجع فكره، الذي أنتج هذه الكلمات التي أوجبت الاعتذار، وحين قال صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، كان ذلك للفت النظر إلى خطورة الكلام وعاقبته مع يسره وإمكانه للجميع، فهو قد يكون أسهل شيءٍ حتى يلقيه المتكلم من لسانه دون فكر، وفي الوقت نفسه هناك من يحصد هذا الخارج من الكلمات، ليُحاسَب عليها المرء بعد ذلك، ثم قد تكبه على منخاره في النار!
مثال (2): المطر ينزل من السحاب الذي يجري في السماء بأمرٍ من الله تعالى، فيوصف المطر بأنّه ينزل من السحاب بقوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} (النبأ:14)، وقوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحابا ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء} (الأعراف:57)، وقوله تعالى: {أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} (الواقعة:59)، ويوصف بأنّه ينزل من السماء بقوله تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} (البقرة:164)، وينزل بأمر الله تعالى كما في قوله تعالى: {إن اللَّه عنده علم السَّاعة وينزل الغيث} (لقمان:34)، وهكذا فلا ينفي وصفٌ وصفاً آخر، وإنما يكون الماء بأمر الله، فينزل من السماء من السحاب، ولا يعني أيّ من هذه الأوصاف عند أحدٍ ممن يطالعها أنّها تمنع من إثبات الطرق المختلفة لتكون الأمطار عن طريق التبخر أو التكثف أو الرياح أو غير ذلك!
فعلى وِزان هذين المثالين، فإنّ قوله تعالى: {يخرج من بين الصلب والترائب} لا ينفي أنّ للخصية دوراً في خروج المني، كما لا ينفي أنّ لفرج الرجل دوراً في خروج المنيّ أثناء الجماع، وفي الآية ما يشير إلى أن المقصود يسبق ما يظهر للناظر في شأن هذا الماء، وهو لفظ {يخرج}، قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: "والخروج مستعملٌ في ابتداء التنقل من مكانٍ إلى مكانٍ ولو بدون بروز، فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب"!
ولا شك أنّ جميع الأمم تعرف أن هذا الماء يخرج من فرج الرجل أثناء الجماع، ولا شك أنّ جميع الأمم علمت أنّ للخصية دوراً في خروج المنيّ، سواءً بكونها ممرًّا، أو مخ***ً للمنيّ، حتى ولو لم يتقفوا على أنّها محلٌ لتوليد المني، والدليل على معرفة كافة الأمم بما فيهم العرب بذلك تتحصل من عدة وجوه:
الوجه الأول: قد عُلم أنّ قوماً من الصحابة رضي الله عنهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في الاستخصاء، ونُهوا عن ذلك، وحديث ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- في ذلك متفقٌ عليه(1)، قال الحافظ ابن حجر: "الحكمة في منع الخصاء أنه خلاف ما أراده الشارع من تكثير النسل"، وقال النووي: "تحريم الخصي لما فيه من تغيير خلق الله، ولما فيه من قطع النسل وتعذيب الحيوان والله أعلم"!
الوجه الثاني: قد عُلم أن خصاء الحيوان Neutering كان ممارسةً معروفةً عند العرب وغيرهم من الأمم منذ القدم، مع تحريم بعض أهل العلم في الإسلام لخصاء الحيوان لغير مصلحةٍ لما فيه من المثلة وقطع النسل، إن عُلِم ذلك جزمنا أنّ معرفة علاقة الخصية بالماء الذي يكون منه النسل كانت معروفةً للأمم، فضلًا عن العرب الذين يعمل كثيرٌ منهم برعي الغنم، فضلًا عن العلم بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!
الوجه الثالث: أن كافة المدارس الطبية التي وُجدت في اليونان والإسكندرية ومصر القديمة، باختلاف أقوالها في محال توليد المني وتكونه أهو الدماغ، أم نخاع العظم، أم الدم، أم جميع الجسم، كلها ذكرت أنّ الخصية ممر أو مخزن للمني، فضلًا عن أنّ منهم من جعلها مشاركةً في توليده، ومنهم من جعلها مؤثرةً في تحديد جنس الجنين، والذي يرى الحجج التي بنى عليها هؤلاء استنتاجاتهم تلك مثل أن المني والدم يتخثران، أو أن الإكثار من الجماع يخرج دماً في الاستدلال على الأصل الدموي للمني، أو في كون الحجامة خلف الأذن تُضعف الإخصاب؛ لكونه يقطع الأوعية الدموية الحاملة للمني من المخ في الاستدلال على الأصل الدماغي للمني، من رأى مثل هذه الاستدلالات وأضعف منها، علم لا محالة أنهم علموا بدور الخصية في الإنجاب، ولو كان هذا الدور مقتصراً على الممر والمخزن!
فتحصل من المقدمة الأولى أنّ الآية الكريمة لا تنفي دور الخصية في خروج المني، بل إن لفظ "الخروج" يشير إلى أنّ المقصود أمراً وراء المنظور المتبادر إلى الأذهان، كما قال ابن عاشور، خصوصاً وكافة الأمم كانت تثبت للخصية والفرج دوراً في خروج المني، والمجبوب الذي عُدِم الذكر والأنثيين -أي الخصيتين- يستحيل عند أهل الفقه أن يكون له ولدٌ، ولو جاءته امرأته بولدٍ فلا يُنسب إليه!
المقدمة الثانية: العلم الطبيعي لا ينفي أيّ دورٍ للعظام في خروج الماء الدافق!
هل الخصية وحدها هي المسؤولة عن تكوين الحيوانات المنوية؟
الجواب العلمي هو: لا، وهذا مشتهر لا خلاف فيه، والدليل أنّك قد تجد المرء مصاباً بانعدام الحيوانات المنوية Azospermia ومرد ذلك إلى أسبابٍ غير متعلقةٍ بالخصية Pre-testicular azospermia وهي حالاتٌ نادرة الحدوث؛ لكون الخلل في هذه الأعضاء نادراً في الجملة(2)، ومن النادر أن يظهر هذا الخلل في هذه الأعضاء في صورة انعدام الحيوانات المنوية فحسب! فالمقصود أنّه ليست الخصية وحدها هي المسؤولة عن تكوين الحيوانات المنوية حصراً! هناك أعضاء غير الخصية تؤثر في تكوين المني وخروجه، والعلم لا ينفي أن يكون هناك دورٌ للعظام، وليس المقصود هنا أن نبحث عن إعجازٍ علمي في القرآن -كعادة إخواننا في جواب كل شبهة- وإنما المقصود بيان أن العلم الطبيعي لا يثبت للخصية دوراً حصريًّا في توليد المني!
ولو أنّ العلم الطبيعي سكت عن دور العظام في توليد المنيّ لكان هذا رافعاً للتعارض؛ لأن الشرع لم يُثبت شيئًا نفاه العلم الطبيعي، لو وقفنا عند هذا الحد لكان كافيًا (3)، غير أننا نجد أن العلم الطبيعي يحمل لنا ما يُستأنس به في هذا الصدد، ففي مجلة البحوث الإكلينيكية The Journal of Clinical Investigation ذي معامل التأثير (13.765) في سنة (2013م)، نُشر بحثٌ عن هرمونٍ ينتج من الخلايا العظمية Osteoblast-derived hormone واسم هذا الهرمون هو Osteocalcin يقترح أنّ له دوراً في تنظيم الخصوبة في الإنسان من خلال محورٍ هرمونيٍّ يشمل البنكرياس والعظم والخصية Pancreas-bone-testis axis، نُشِر هذا البحث في مايو (2013م)، وقام بحثهم على دراسة تعرضية Cohort study لمجموعة من الذكور المصابين بفشل أولي في وظائف الخصية Primary testicular failure، فوُجد أن اثنين منهم سبب مشكلتهم هو خلل في هذا الهرمون، ويمكن مراجعة هذا البحث ومراجعه من العاشر حتى الثالث عشر للوقوف على حقيقة ذلك!
من المقدمة الأولى والثانية يظهر أنّه لا يلزم من وصف الماء الدافق بأنّه {يخرج من بين الصلب والترائب} نفي كونه يخرج من الخصية، كما لا يلزم من وصف الكلام بأنّه من اختراع دماغ المتكلم نفي كونه من مخرجات اللسان وأعضاء النطق، خصوصاً إذا استحضرنا أنّ المتكلم والمبلِّغ والمخاطبين جميعاً يعلمون دور الخصية في خروج الماء الدافق والإنجاب! فإنْ وقفنا عند هذا الحد كان الوصف بأنّ الماء {يخرج من بين الصلب والترائب} زيادة علمٍ، لا تنفي العلم الثابت بعلاقة الماء بالخصيتين، وبالتالي فزيادة العلم هذه مصدر ثبوتها هو الوحي، ولا يوجد من العلم الطبي ما ينفيها، وعليه فلا يوجد تعارض بين ثابتٍ من الشرع وثابتٍ من العلم الطبيعي؛ لأن الثابت من الشرع لا ينفيه شيءٌ من العلم الطبيعي، بل يوجد في المقالات العلمية المنشورة حديثاً ما يُستأنس به، ووجود مثل هذه المقالات يجعل المبادرة بالجزم برفض هذا العلم الزائد الثابت بالنص الشرعي ليس فقط تهجماً لنفي ما لا ينفيه العلم الطبيعي، بل تهجماً على نفي ما يلوح في الأفق بوادر من العلم الطبيعي في اتجاه إثباته.
سؤال: لم اختِير أن يوصف الماء الدافق بأنّه يخرج من بين الصلب والترائب على وجه التحديد؟!
ذلك لأنّ طبيعة الماء الدافق تنافي طبيعة العظام الثابتة، فالذي أخرج الماء السائل من هذه العظام القوية الصلبة صلابة حروفها القوية المقلقلة {الصلب} و{الترائب}، والذي أخرج هذا الماء الجاري من عظام الظهر والصدر وهي أقل عظام الجسم من جهة نطاق الحركة مقارنةً بعظام اليدين والرجلين، الذي أخرج هذا الماء الدافق من بين هذه العظام الصلبة قليلة الحركة، لقادرٌ على أن يرجع الإنسان مرةً أخرى يسعى لمحشره، بعد أن حواه جوفُ الأرض ساكناً لا حياة فيه! ولذا عندما ينظر الإنسان مم خلق، سيعلم أنّ الله على رجعه قادر!
حوارٌ تخيلي يلخص ما مضى
* هل في قوله سبحانه: {يخرج من بين الصلب والترائب} ما ينفي دور الفرج في خروج الماء أثناء الجماع؟
- لا!
* هل في قوله سبحانه: {يخرج من بين الصلب والترائب} ما ينفي دور الخصية في تخزين أو تمرير أو توليد المني؟
- لا!
*هل المقصود بالآية خروجٌ أوليٌّ سابقٌ على الظاهر للعين؟
- نعم!
* هل لإثبات أثر العظام في خروج الماء الذي يكون منه الولد دلالة في سياق الآية؟
- نعم! مناسبة إثبات البعث!
* فتحصل أن النص الذي معنا يثبت للعظام دوراً في خروج المني وتوليده، ولا ينفي دور الخصية ولا دور الفرج في عملية خروج الماء الدافق؟
- نعم!
* فهل في العلم الطبيعي ما ينفي دور العظام في خروج المني وتوليده؟
- لا!
* فهذا يعني أنه ليس هناك تعارض بين الشرع والطب، وإنما زيادة علم من جهة الشرع ليس هناك ما ينفيها من جهة الطب؟
- نعم!
* فهل في العلم الطبيعي ما يستأنس به ليثبت دوراً للعظام في توليد المني؟
- نعم!
* فتُقبل هذه الزيادة برباطة جأش وهدوء؛ لأن نصوص الشرع مصدرٌ من مصادر العلم، ويستأنس بالبحث الذي ظهر مؤخراً في المجلات العلمية يقترح دوراً للعظام في توليد المني!
- نعم!
وصفوة القول: إنّ قوله تعالى: {فلينظرا لإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب} لا ينفي المصدر المتعارف عليه للماء الدافق وهو الخصية، وقد كانت العرب تعرف دور الخصية في خروج هذا الماء، وإنما تثبت دوراً لـ {الصلب والترائب} في الماء الدافق الذي يكون منه الإنسان، فهذا الدور هو علمٌ زائدٌ، ليس في العلم الطبي ما ينفيه، وعليه فليس هناك تعارض بين النص الشرعي وما ثبت طبيًّا، بل هناك إرهاصاتٌ لمقالاتٍ طبيةٍ حديثةٍ تقترح دوراً لهرمونات تفرزها خلايا العظام تلعب دوراً في الخصوبة، والله تعالى أعلى وأعلم.
دعوى الاقتباس
اختلفت الأقوال عند مدارس اليونان والإسكندرية ومصر القديمة في الطب في كيفية تولد المني إلى عدة مدارس منها(8):
- أن المني يخرج من الدماغ Encephalogenetic school أو أنّه ينشأ من نخاع العمود الفقاري Myelogenetic school وهو قولٌ فارسي المنشأ، انتقل لليونان فيما بعد، يقول بخروج المني من المخ، ويمر عبر الأوعية الدموية حتى يصل إلى أعضاء التناسل الخارجية في أثناء عملية الجماع، والخصية في هذه المدرسة تلعب دور المخزن أو الممر.
- أن المني يخرج من جميع أجزاء الجسم Pangenetic or panspermic school، وفيها كذلك تلعب الخصية دور المخزن أو الممر.
- أن المني يخرج من الدم Hematogenetic school، ثم كان من هؤلاء من يجعل للخصية دوراً كهيروفيليس، ومنهم من لا يجعل لها دوراً ويجعلها كالممر والمخزن كأرسطو.
وبالنسبة لتحديد جنس الجنين فقد كان هناك من يعتقد دوراً للخصية في هذا التحديد، فيخرج الذكور من الخصية اليمنى والإناث من الخصية اليسرى!
وقد بدأت أعمال أرسطو تترجم للعربية في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (724-743م)(9) وبدأت ترجمة أعمال أبقراط وجالينوس للعربية على يد حنين بن إسحاق (808-873م)(10)، ومن يراجع هذه المذاهب المتخالفة المختلفة ويجمعها كل منها في مذهبٍ واحد، ثم ينظر فيما ورد في النصوص الشرعية لن يجد تشابهاً بين أيٍّ من هذه المذاهب وما ورد في الإسلام حتى يُتوهم الانتحال والاقتباس، يقول ابن حجر: "وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده، وأنه إنما يتكون من دم الحيض"(11)، بمعنى أنّه حتى بعد حصول الترجمة وانتشار المؤلفات العربية في ذلك كان السائد أن طريقة الشرع تخالف طريقة اليونان وأهل التشريح.
بل تخالف النصوص في بعض المواضع هذه المذاهب المتخالفة مجتمعةً، وهذا بابٌ أعلى في نفي وقوع الاقتباس، ففرقٌ بين أن تنفي وقوع الاقتباس بعدم وقوع التشابه التام مع مذهب من المذاهب، فقد يكون الاقتباس بتلفيق مذهبٍ جديدٍ من هذه المذاهب مجتمعة، أما أن تخالف هذه المذاهب مجتمعةً فيما اجتمعت عليه، بل تخالفها فيما يظهر بادي الرأي أنّه في صالح ما اجتمعت عليه هذه المذاهب، فهذا يقضي على دعوى الاقتباس والانتحال بصورة تامة، والذي أعنيه بذلك هو موقف النصوص من العزل coitus interruptus!
فقد أجمعت كافة مدارس اليونان ومصر والإسكندرية الطبية أن العزل يؤدي لقطع النسل، بل قال بعضهم: إنّه لو قامت المرأة بعد أن ألقى الرجل نطفته في رحمها فطردتها بحركة جسمها، لم يحدث حمل، بل قالوا: لو أن المرأة أثناء الجماع أخذت نفساً عميقاً وسحبت نفسها بعيدًا كي لا ينزل ماء الرجل عميقًا في رحمها لكان ذلك مانعًا للحمل(Soranus)(12)، بل ذكر بعض المؤرخين أنها كانت الوسيلة المعتمدة النافعة الوحيدة التي عرفها القدماء(13)!
في هذا الإطار نجد قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العزل: (ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء) رواه مسلم، ويقول: (لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون) رواه مسلم! وقد توصل العلم الحديث -بعد أن دخل فيه البحث العلمي بتسجيل البيانات وجمعها وتحليلها إحصائيًّا- إلى أن العزل ليس أكيد النتيجة، وأن نسبة الحمل بعده Failure rate أعلى من غيرها من وسائل منع الحمل الحديثة!
فإن اجتمع تأخر الترجمة مع عدم المشابهة مع مذهبٍ من المذاهب مع عدم تلفيق مذهب من المذاهب، دل ذلك على أن دعوى الانتحال والاقتباس ليست إلا شبهةً لا تؤثر إلا من جهةٍ نفسيةٍ فحسب، دون أي تعلقٍ علميٍّ أو عقليٍّ يمكن تناوله بالرد العلمي المفصل، وإنما هو توهمٌ نفسيٌّ لا حقيقة له ولا دليل يدعمه!
هذا، وقد أورد بعض النصارى جملاً من الكتاب المقدس، يزعم أن القرآن اقتبس منها، مثل (مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ) (رسالة للعبرانيين 7:5) ومثل (أَنَّهُ كَانَ بَعْدُ فِي صُلْبِ أَبِيهِ حِينَ اسْتَقْبَلَهُ مَلْكِي صَادِقَ) (رسالة للعبرانيين 10:5) وإنما هذا وهمٌ من قائله؛ لأن مترجِم الإنجيل للعربية هو الذي اقتبس هذا اللفظ من القرآن الكريم، وليس هذا اللفظ في النسخة الإنجليزية ولا غيرها "though they also are descended from Abraham." و "because when Melchizedek met Abraham, Levi was still in the body of his ancestor" .. وحتى لو وقع هذا، فنحن لا نقول بتحريف جميع نصوص الكتاب المقدس، وما يرد من تشابهٍ محمولٍ على أنه يخرج من مشكاةٍ واحدة، غير أن هذا البعض تصور أن الكتاب المقدس كان مترجماً للعربية بهذا اللفظ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"!
وكتطبيقٍ عمليّ على نفي موضوع الاقتباس أو إثباته، انظر إلى قول الشاعر:
من الأصلابِ ينزل لؤم تيم وفي الأرحام يخلقُ والمشيم!
فهل يصح أن يقال فيما قاله الشاعر: إنّ المعنى متشابه مع الذي في قوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} (النساء:23) وقوله سبحانه: {يخرج من بين الصلب والترائب}، هذا من جهة المعنى، أمّا من جهة حدوث الاقتباس أو الانتحال فيُنظر في هذا الشاعر، هل وقف على هذه الآية الكريمة فاقتبس معناها، أو كان شاعرًا جاهليًّا، فيثير ذلك شبهة أن يكون الاقتباس منه!!
وعندما نعلم أن الشاعر هو جرير الكلبي (648-728م)، وأنه شاعرٌ عربيٌّ نشأ في الدولة الأموية بعد ظهور الإسلام وانتشاره، ولم يُنقل عنه اطلاعه على كتب اليونان أو غيرهم من الأمم، نعلم أنه اقتبس المعنى من الآية الكريمة وصاغه بطريقته، وليس لأحد أيًّا كان أن يقول: إنّه اقتبس المعنى من أبقراط أو أرسطو؛ لأن ترجمة أعمال هؤلاء للعربية تأخرت إلى ما بعد زمان جرير، وجرير نشأ عربيًّا في البادية، ولا يُعلم عن جرير أنّه تعلم لسان اليونان، ولا يُعلم عنه أنه سافر لهم أو وقف على كتبهم، ومذهبهم غير محرر، وفي قولهم اختلاف، فنجزم جزماً يقينًا أنه لم يقتبس من اليونان..إلى هنا الكلام معقولٌ مقبولٌ سهلٌ لا اشتباه فيه!!
وعلى وزن هذا الكلام المعقول المقبول السهل الذي لا اشتباه فيه نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتبس من اليونان شيئًا؛ لأن ترجمة أعمال هؤلاء للعربية تأخرت إلى ما بعد زمان النبوة بكثير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ عربيًّا في البادية، ولا يُعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه تعلم لسان اليونان ولا تعلم القراءة والكتابة أصلًا، ولا يُعلم عنه أنه سافر إليهم، أو وقف على كتبهم، ومذهبهم غير محرر وفي قولهم اختلاف، وقوله صلى الله عليه وسلم لا يتناسب مع مذهب من مذاهبهم، ولا ينسجم معها ولو بمذهب ملفق، فنجزم جزماً يقينًا أنه لم يقتبس من اليونان!!
دعوى الإعجاز العلمي!
يزيد بعض الناس قولًا يعتمد على قوله تعالى: {بين} في {يخرج من بين الصلب والترائب} فيجعلونه مثل قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} (النحل:66) ويعتمدون على تكوّن الخصية والمبيض في أعلى البطن، واستمداد تغذيتها الدموية والعصبية من هذه المنطقة، ويستأنسون بأن هذه التغذية العصبية المسؤولة عن دفق المني تأتي من منطقة بين الصلب والترائب(5)، وهذا معروف عند دارسي التشريح البشري، أنّ التغذية الدموية للأعضاء التناسلية الذكرية مثلًا تُستمد من الأوعية الدموية المحيطة القريبة، ما عدا الخصية فإنّ شريانها testicular artery يأتي من الأورطى نفسه من أعلى تجويف البطن، وكذلك الأوردة الخاصة بالخصية testicular veins تنتهي في الوريد الكلوي left renal vein على الجهة اليسرى، وفي الوريد الأجوف السفلي inferior vena cava على الجهة اليمنى، قلتُ: ومسألة تكون الخصية والمبيض في تجويف البطن ونزولها إلى أماكنها بعد ذلك لم يُعرف إلا سنة (1749م) ولم يستقر العلم بتفاصيلها إلا سنة (1987م)(6).
يقول الدكتور محمد علي البار: "تقول الآية الكريمة: إن الماء الدافق {يخرج من بين الصلب والترائب} ونحن قد قلنا: إن هذا الماء (المني) إنما يتكون في الخصية وملحقاتها، كما تتكون البويضة في المبيض لدى المرأة... فكيف تتطابق الحقيقة العلمية مع الحقيقة القرآنية. إن الخصية والمبيض إنما يتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين وترائبه.. والصلب هو العمود الفقري.. والترائب هي الأضلاع. وتتكون الخصية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط، أي: بين الصلب والترائب، ثم تنزل الخصية تدريجياً حتى تصل إلى كيس الصفن (خارج الجسم) في أواخر الشهر السابع من الحمل... بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة ولا ينزل أسفل من ذلك.
ومع هذا فإن تغذية الخصية والمبيض بالدماء الأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها.. أي من بين الصلب والترائب، فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر (الأورطي البطني) من بين الصلب والترائب، كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة.. يصب الوريد الأيسر في الوريد الكلوي الأيسر، بينما يصب وريد الخصية الأيمن في الوريد الأجوف السفلي.. وكذلك أوردة المبيض وشريانها تصب في نفس المنطقة أي بين الصلب والترائب... كما أن الأعصاب المغذية للخصية أو للمبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب والترائب.. وكذلك الأوعية اللمفاوية تصب في المنطقة نفسها، أي: بين الصلب والترائب. فهل يبقى بعد كل هذا شك أن الخصية أو المبيض إنما تأخذ تغذيتها ودماءها وأعصابها من بين الصلب والترائب؟...فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب والترائب، كما أن منشأها ومبدأها هو من بين الصلب والترائب، والآية الكريمة إعجاز كامل حيث تقول: {من بين الصلب والترائب} ولم تقل: من الصلب والترائب، فكلمة {بين} ليست بلاغية فحسب، وإنما تعطي الدقة العلمية المتناهية"اهـ (7).
وهذا الذي يذهب إليه بعض الناس لا أراه محتملًا؛ ذلك أن مبنى الكلام في قوله تعالى: {مما في بطونه من بين فرث ودم} يعني: من بطونه بين فرثٍ ودم، وموضع الامتنان أن يخرج اللبن خالصاً سائغاً لا يتأثر بالمجاورة للفرث والدم، بينما قوله تعالى: {يخرج من بين الصلب والترائب} إذا جُمع إلى قوله تعالى في سورة النساء: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} كان في حمله على المعنى الذي يتبنونه تكلفاً ظاهرًا!
د.حسام الدين حامد
الهوامش
1) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك (متفقٌ عليه).
2) Mak V. CUA Guideline: The workup of azoospermic males. Canadian Urological Association Journal 2010;4(3):163-167.
3) من موارد الزلل: أن يلتزم الإخوة المتصدون للرد على الشبهات بقلب الدليل على مثير الشبهة، بمعنى أن يجعل أحدهم من موضع الشبهة حجةً وإعجازًا، وهذا لا يصلح مع كل شبهة، وإن صلح فلا يستطيعه كل أحد، وبسبب الاستغراق في تطلب قلب الدليل قد يقع تغيير لمعنى النص يصل إلى حد التحريف والقول على الله بغير علم! وأوضح مظاهر هذا التضييق على النفس ما يقع من المهتمين بمسألة الإعجاز العلمي، فما أن يثير أحدٌ شبهةً تتعلق بمعارضة القرآن أو السنة لشيءٍ من مكتشفات العلم الطبيعي أو نظرياته، حتى يبادر أحدهم بالبحث عن "إعجازٍ علميٍّ" يحتج به على مثير الشبهة!! مع أن الذي يلزمه هو دفع دعوى التعارض وحسب، والزيادة على ذلك ليست شرطًا، ووقوعها ليس وعداً! وقد نكت ذلك السلوك نكتةً سوداء في قلوب كثيرٍ من المتأثرين بالشبهات، فصار يسأل وفي ذهنه أنك سترد على الشبهة بإثبات إعجازٍ علمي في المسألة، بل بلغ الأمر أن صار "عدم وجود إعجازٍ علمي" في حد ذاته شبهة، وكأنّ الإعجاز العلمي لازمٌ في كل آية وحديث!! وأخيراً..فلينظر أحدنا في هذا المسلك، وليتبين موضع قدميه، ولينظر أين وقف به التزام ما لا يلزم.!!