يعتبر التنوّع الحاصل في المجتمع البشري على الأرض نوعاً فريداً من المجتمعات، إذ تقوم العلاقة فيه على أكثر من العلاقات الحيويّة الدّائرة في مجتمعات الحيوان، والنبات إن صح أن نسميها مجتمعات على وجهها الذي نعرف، وكان من الواجبات التي يجب النظر فيها والبحث قديما وقبل قدوم الدّيانات بشكل عام هو العلاقة الضابطة، والرابطة للعلاقة بين البشر الفرد مع أخيه البشر الفرد، ثم مع المجتمع الكبير الذي يتصل به، فترتب على ذلك حقوق، وواجبات تغيّرت بتغيّر الأصول، وفهم الناس لمعطيات واقعهم، وتفاضلوا في ذلك، فمن المجتمعات من رأي بأهمية ضبط تلك العلاقات، ومنهم من تشدد في ذلك، ومنهم من تراخي فسقطت مجتمعاتهم، وهذا التقديم كان لا بد منه؛ لنفهم الحاجة الأساسية التي دعت الإسلام إلى تنظيم العلاقات البشرية، أو ما نسميه المعاملات بين البشر بشكل عام، والإنسان، وجاره بشكل خاص.
وضع الإسلام قواعد واضحة للمعاملات بين البشر بشكل عام، والمسلمين بوجه الخصوص فيما بينهم، وكان من أهم القواعد التي رسم لنا معالمها حقوق الجار، ونقصد بالجار هنا: هو الذي استجار بحماك من ماله، ودمه، وعرضه، فستره واجب، ودفع مظلمته واجب، وإعانته على من ظلمه واجب، ويعرف في مجتمعنا اليوم الجار: بالذي يكون بيته قريبا من بيت الرجل الآخر فيسمى جارا، والمعنيان في الحقيقة لا يختلفان عن بعضهما البعض، فالمعنى الأول دلالة على أنهم أصبحا من نفس عصبة الدم يثوران لظلم بعضهما، ويدفعان السوء عن بعضهما ولعلنا تبينا أول المعنى من لغة العرب قبل أن يضعها الإسلام، وما هذا إلا حق بعرف اللغة لما قال الله: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان من باب التقديم هو عرف اللغة العربية، وأهلها بأن هذه حقوق الجار على جاره.
إنّ أوّل أمر عقده النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في المدينة: هو بناء مسجد قباء، ثم قام بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولمن يقرأ التاريخ جيدا يعلم أن المؤاخاة لم تكن بمعنى الإخوة الحقيقية وإنما كانت بناء مجتمع يقوم على الاستجارة بأن جاور كل مهاجر أنصاري في جنبه فأصبح حماية الأنصاري للمهاجر بحكم عرف اللغة واجبا، ودفاع المهاجر عن الأنصار واجب أيضا، فأصبح كما كان يقال كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا بذلكم الشكل الفريد، ومن الحقوق الظاهر للجار على جاره أن لا يملأ بطنَا؛ وجاره جائع، ولا يسد عطشا؛ وجاره ظمئ، ولا ينام ليلة؛ وجاره يشد بعضه بعضًا من برد ليل لا يطاق، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يعتدي على عرضه بجوارحه، ولا يعتدي على ماله، ولا يعتدي بلسانه ويطول المقام في ما تحتويه الأخلاق السليمة، والفطر الحسنة في المعاملة والمعاشرة، ويستبينها صاحب نفس سليمة، لا سيقمة، ولا مريضة تعاني العجز والخلل.
أخيراً: إنّ أهم ما يقوم على بناء اجتماع سليم قادر على النهوض بعقول وقلوب، واقتصاديّات سليمة يقوم أوّلاً من حق بسيط كحق الجار على جاره، ولو أحسن كل واحد منّا إلى من يجاوره على الأقل لذهب كل العنت، وذهب الحقد، والحسد إلى اللاعودة أبدا.
يقول تعالى: "وإنّ استجارك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" فهذا مع المشركين فكيف بأخيك في الدين؟