(سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها
احاديث عن الوطن
لكحّلت به من شدة الشوق أجفاني)
هذا في عموم الأوطان، أما الجزيرة العربية فلها خصوصيتها بل قدسيتها، فهي تحتضن الحرمين الشريفين، ومنها بزغت شمس الإسلام، وفيها ولد وبعث وووري الثرى جثمان خاتم الأنبياء والمرسلين، وهي الأرض التي لا يجتمع فيها دينان، إلا إقامة مؤقتة وبعقود معينة، وعلى تفاصيل يُدركها العلماء الربانيون الكبار.
وخلاصة القول: إن بلدنا غرّة جبين الأوطان، وشامة جيد الزمان والمكان، وإذا رُمْت معرفة مقدارها فتذكرها إذا كنت خارج الوطن..!!
(بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وقومي وإن ضنّوا عليّ كرامً!)
وأصل وجود اللبس في أن حب الوطن يتنامى مع حب الله أن بعض القوميين العرب قد أثاروا جعجعة إعلامية حول القومية وإنها هي التي تجمع العرب حتى قال منظّرهم في لجاج مبحوح، يتملّق فيه إلى عليةِ قومِه:
بلادك قدّمها على كل ملةٍ
ومن أجلها فافطر، ومن أجلها صُمِ!!
فأقول: وإن حصلت هذه الضوضاء الإعلامية الصاخبة، فإن الحق يبقى على ما هو عليه وحب الوطن أمر فطرت عليه النفوس، وجبلت عليه الطباع، وجاءت الأدلة الشرعية تؤكده وتأمر به، في آيات وأحاديث وآثار للسلف منها:
1) روى البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر فرأى درجات المدينة أوضع ياقته، أي أسرع بها. قال ابن حجر في فتح الباري: فيه دلالة على مشروعية حب الوطن، والحنين إليه.
2) وجاء في البخاري ومسلم في قصة بداية نزول القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهابه إلى ورقة بن نوفل، وقول ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أوَ مخرجي هُمْ؟). يقول السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس، فإنه - صلى الله عليه وسلم - سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك، لحب الوطن وإلفه!!
3) ولما جاء الصحابة - رضي الله عنهم - إلى المدينة أصابتهم الحمى حتى بلغت ببعضهم إلى الهذيان من شدتها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد) وسأل الله أن ينقل حماها إلى مكان آخر، قال السهيلي: وفي هذا الخبر وما ذُكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن.
4) وجاء في صحيح البخاري وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يرقي مريضاً بلَّ أُصبعه بريقه، ثم وضعه على التراب، ثم مسح به المريض، ثم قال: (بسم الله، تربة أرضنا، برِيقة بعضنا، يُشفى سقيمنا، بإذن ربنا)، وهذا الحديث دليل على أن الإنسان متعلق بوطنه تعلقاً شديداً حتى أنه يمرض إذا فارقه، كما مرض الصحابة لما فارقوا بلدهم مكة.
قال القاضي والبيضاوي وابن حجر في الفتح: شهدت المباحث الطبية على أن الريق له دخل في النضج وتبديل المزاج، ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي، ودفع نكاية المغيِّرات، ولهذا ذكروا في تدبير المسافر أنه يستصحب معه تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد غير الماء الذي تعود شربه ووافق مزاجه، جعل شيئاً منه في سقايته، ويشرب الماء من رأسه ليحفظ عنه مضرة الماء الغريب ويأمن تغير مزاجه بسبب استنشاق الهواء المغاير للهواء المعتاد أ.هـ.
5) ومن الأدلة أيضاً أن البلد المسلم إذا داهمه عدو كافرٌ وجب على كل أهل البلد الدفاع عنه وصار الجهاد فرض عين عليهم، لا يجوز لأحد ترك الدفاع عن وطنه المسلم، كما هو نص الفقهاء في جميع المذاهب، وقد قال الله عن بني إسرائيل: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} (264) سورة البقرة.
6) ومن الأدلة ما ورد من أن العقوبات التعزيرية هو: (التغريب عن الوطن) وإذا أكره الإنسان على أمر أو طُرد من بلده جوَّز له العلماء التماس المعاذير، وأنه يدخل في قول الله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (106) سورة النحل. يقول السيوطي رحمه الله: والتهديد بالنفي عن البلد إكراه على الأصح، لأن مفارقة الوطن شديدة.
7) ومن الأدلة قوله سبحانه: عن المحاربين وقطاع الطريق: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أو يُصَلَّبُواْ أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أو يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} (33) سورة المائدة. قال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلاناً وذلاً.
8) ومن الأدلة أن الشارع جعل عقوبة الزاني البكر أن يبعد عن وطنه، كي يتجرع مرارة الذنب الذي وقع فيه.
9) ومن الأدلة أن المشركين استخدموا هذا السلاح الفتاك في حرب أنبياء الله ورسله، فما أن يعلن نبي دينه ويدعو إليه إلا ويطرده قومه من بلدهم تعذيباً له {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (56) سورة النمل. وقصة نوح ويونس وموسى كلها شاهدة على ذلك، يقول الله سبحانه عن قوم شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ استكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} (88) سورة الأعراف. فجعل المشركون من قوم شعيب خروج شعيب من قريتهم مقابلاً لرجوعه إلى دينهم وتركه عبادة الله وحده، فقال شعيب لهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذ نَجَّانَا اللّهَُ} (88-89) سورة الأعراف.
وذكر الله عن اليهود فقال: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} (3) سورة الحشر. فجعل الله - عز وجل - طردهم من المدينة عذاباً لهم في الدنيا، يقول السيوطي: ولولا أن قضى الله عليهم الخروج من الوطن لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما فعل بقريظة من اليهود، ولهم في الآخرة عذاب النار.
10) ومن الأدلة أن عاقب الله بني إسرائيل بأن جعلهم يتيهون في الأرض بلا وطن، أربعين سنة عقوبة لهم: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (26) سورة المائدة. وهكذا قال العلماء.