جميع الدروس في مادة العلوم الاسلامية للسنة الأولى الثانوي تجدها هنا
حول الكتاب
تـأليف: مخلوف زغبان، أستاذ علوم الشريعة.
تصميم و إنجاز
Lotphilosophie
من هدي القرآن الكريم
قال النبي صلى الله عليه وسلم
( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ )
رواه البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الدرس الأول:
النص القرآني:
قال الله تعالى: ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُواْ خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالاَلْقَابِ بِيسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الاِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ اِجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمُ أَنْ يَّاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ). سورة الحجرات الآية 10/13.
معنى المفردات:
-يسخر: يستهزئ ويحتقر.
-تلمزوا: تعيبوا، واللمّاز يطلق أيضاً على النمّام.
-تنابزوا: التنابز هو دعاء البعض للبعض بلقب يكرهه.
-اجتنبوا: تنحوا وابتعدوا.
-تجسّسوا: التجسّس هو استخدام الحواس في الوقوف على سيّئات الناس.
-يغتب: من الغيبة وهي ذكر الإنسان بما يكره ويستقبح في غيبته.
المعنى الإجمالي للنص:
النص القرآني المتقدّم تضمّن أربع آيات في الآداب الاجتماعية، وما يجب على المؤمن الكامل الإيمان أن يتحلّى به من صفات محمودة تضمن له سعادة الدارين:
1) واجب الأخوة في الدّين التي تستوجب على المؤمنين التعاون والتناصر والتواصل والتناصح، والسعي في الخير إمّا بجلب الخير والمصلحة أو دفع الشر والضرر، والتواصي على الحق وعلى التقوى.
2) على المؤمن الكامل الإيمان المتصف بأخلاق الإسلام وآدابه ألّا يسخر من غيره مستهزئاً ومحتقراً لما في ذلك من إظهار خُبث النفس وحقارتها وسوء تربيتها، إذ كيف يتصوّر تكوين مجتمع صالح يسخر بعض أفراده من البعض الآخر ويستهزئ، وقد يكون المستهزأ به خيراً عند الله من المستهزئ عملاً وتقوى وصلاحاً ممّا يزيد في عظم الذنب وخبث المعصية.
والمؤمن الحقيقي هو الذي لا يلمز أخاه ولا يعيبه، لأنّه في الحقيقة يعيب نفسه وينقص من قدرها حيث لا يشعر حين يعيب أخاه، لما نعلمه جميعاً من كون المسلمين كالجسد الواحد يتمّم بعضهم البعض الآخر.
كما يجب على المؤمن ألَّا يدعو وينادي أخاه بالألقاب التي يكرهها والتي فيها تنقيص من قدره لما ينشأ عن ذلك من عداوة وبغضاء وتنافر الأفراد والجماعات.
وأنّه حقًّا ممّا يعيب الإنسان ويقدح فيه أن يرتكب هاته الأعمال المنهي عنها والتي تنعته بصفة الفسق بعد إيمانه. والجمع بين الإيمان والفسق مستقبح لا ترضاه النفوس قويّة الإيمان، لذلك يجب على من تلبّس بها أن يتوب إلى الله ويكفّ عنها حتى لا يكون ظالماً متعدياً حدود الله بارتكاب العصيان بدل الطاعات المأمور بها.
3) والمؤمن الحق هو الذي يتجنّب الظنّ السيّئ بغيره وما ينشأ عنه من أوهام وتخيلات فاسدة ممّا لا خير فيه للفرد ولا للمجتمع، ومن إثم وذنب أمامه سبحانه.
وعلى المؤمن كذلك أن يتجنب استعمال حواسّه في الوقوف على سيئات الناس ومعايبهم للتشهير بها والتنقيص من قيمتهم وأقدارهم، وإلحاق السوء بهم ممّا لا خير وراءه ولا مصلحة للأمّة الإسلامية، كما يجب على المؤمن ألَّا يذكر أخاه في غيبته بما يستقبح ويستكره من الأعمال والصفات، إلَّا إذا كان في الغيبة مصلحة للفرد والأمّة فهي مباحة كالتشنيع على المُجاهر بالمعصية والشهادة في المنازعات والخصومات مثلاً.
وقد مثّل الله سبحانه المغتاب الناهش في أعراض الناس بآكل لحم أخيه الميت، فكيف يتصوّر من مؤمن أن يحبّ شيئاً حقُّه أن يكون مكروهاً منفّراً كما ينفر الإنسان ويكره أن يأكل لحماً وهذا اللحم هو لحم أخيه، وكون هذا الأخ ميتاً، ولا يخفى ما في هذا التصوير من بيان فداحة جرم الغيبة والتنفير منها.
واتقوا الله الذي تسع معرفته كل شيء، وتوبوا إليه من أعمالكم المتقدّمة المنهي عنها، فهو التواب القابل لتوبة عباده، الرحيم بهم.
4) وبعد أن بيّن سبحانه الصفات التي يجب على المؤمن أن يتجنبها لأنها تنافي الإيمان الكامل، شَرَع في بيان مرض يعمّ الناس أجمعين سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، فهو نداء للبشرية جمعاء، وهذا المرض هو التباهي بشرف الأصل، والفخر بلون البشرة أو ما نسميه حالياً بمرض العنصرية، الذي لا أساس له ولا مرجع، لأنّ الناس أمام الله سواسية، أصلهم واحد، وأبوهم آدم وأمّهم حواء، فلا فضل لقبيلة ولا لأمّة ولا لشعب ولا لجنس على كافّة البشر، وما خلقهم للتفاخر والتباهي بل خلقهم وكوّن منهم الشعوب والقبائل للتعارف والتعاون والتواصل، وإذا كان هناك فضل لأحد فبأعماله وخوفه من الله وبفعل الخير الذي يقدّمه للبشرية، لا بشرف آبائه ولون بشرته وما شابه ذلك، فهو سبحانه عليم خبير ببواطنكم لا يخفى عنه شيء من أعمالكم.
العبر المستخلصة من النص:
ـ يأمرنا الله سبحانه أن نتجنّب السخرية والاستهواء بغيرنا ولمزه وتعييبه والتنابز بالألقاب واجتناب الظن السيئ، وعدم التجسّس والغيبة ممّا لا مصلحة فيه.
ـ النهي عن التفاخر بالشرف والنسب وإنما التفاخر بالتقوى والعمل الصالح.
ـ إنّ مسؤولية بناء المجتمع الإسلامي العالمي تقع على عاتق الرجل والمرأة على السواء.
ـ خلق الله تعالى آدم وحواء وجعل من ذريَّتهما الشعوب والقبائل والأجناس والألوان، فالناس كلُّهم إخوة، لذلك فلابدَّ لجسور التوادد والتواصل من أن تبقى قائمة بينهم، فلا تفاضل بين لون وآخر، أو عِرق وآخر، بل مساواة بين الجميع أمام الله تعالى، الذي يُكرَمُ الناسُ لديه على درجة تقواهم، فمن نال شرف التَّقوى حصل على وسام مرضاة الله، والله أعلم بأعمال مخلوقاته خبير بنواياهم.
الدرس الثاني:
النص القرآني:
قال الله تعالى: ( إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُوفَكُونَ (95) فَالِقُ الاصْبَاحِ وَجَاعِلَ اليْلِ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ(96) وَهُوَ الْذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الْذِي أَنْشَأَكُم مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الْذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ اَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ اُنْظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ (99) ).سورة الأنعام الآية 95/99.
معنى المفردات:
-فالق الحبّ: شاقّه عن النبات، أو خالقه.
-فأنّى توفكون: فكيف تصرفون عن عبادته.
-فالق الإصباح: شاق ظلمته عن بياض النهار، أو خالقه.
-حسباناً: أي بحساب مقدّر نيطت به مصالح الخلق.
-فمستقرّ: في الأصلاب، وقيل في الأرحام.
-ومستودع: في الأرحام، وقيل في الأصلاب.
-خضراً: أخضرَ غضّاً.
-متراكباً: متراكماً.
-طلعها: هو أوّل ما يخرج من ثمر النخل في الكيزان.
-قِنوان: عراجين كالعناقيد تنشق عن الكيزان.
-دانية: متدلّية أو قريبة من المتناول.
-ينعِـه: حال نضجه وإدراكه.
المعنى الإجمالي للنص:
هذه الآيات تتضمّن أخطر حكم تكليفي خاطب الله تعالى به الناس جميعاً في مختلف الأزمنة والأمكنة، وهو الإيمان بربوبيّة وألوهية الله وحده: الإيمان بأنّه وحده الخالق، وهو وحده المحيي والمميت، وهو الضارّ والنافع، وهو المسبّب لأسباب الكون جميعاً، وهو الذي خلق في الأشياء طبائعها ورتّب لها وظائفها أي أنّه هو الذي ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثَمَّ هَدَى ) طه الآية 50، وهو الذي يجمع الناس كلّهم ليوم الجمع الذي لا ريب فيه، فريق في الجنّة وفريق في السّعير.
وتتضمّن أيضاً هذه الآيات الإقرار بأنّ الكون كلّه وما فيه من نجوم السماء ونجوم الأرض ( النّبات ) مسخّر للإنسان وحده. فنجوم السماء تهدي الإنسان في ظلمات البرّ والبحر، والكون كلّه يهديه في ظلمات الجهل لمعرفة الخالق الحق، الذي خلقه في أحسن تقويم، وهيأ له أسباب الحياة ليزداد في العرفان والارتقاء فيكتمل إيمانه ويطرد الشكّ عنه.
ـ ( إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُوفَكُونَ ): فالله وحده الذي خلق الحبّ والنوى من العدم فأنبت منه الزرع والثمر على اختلاف أنواعه وأصنافه وأشكاله وطعومه. وهو الذي يخرج النبات وهو مصدر الحياة من الحبّ الذي هو ميِّت كالجماد، ويخرج الخشب الميِّت من النبات الحي. وقيل يخرج الولد المؤمن من الكافر، والولد الكافر من المؤمن. ذلك هو فعل الله وحده فكيف تُصرفون عن الإيمان به وتعدلون عن عبادته إلى الباطل.
ـ ( فَالِقُ الاصْبَاحِ وَجَاعِلَ اليْلِ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ): الله خالق الضياء والظلام، وجعل الليل وما فيه من ظلام للراحة والسّكون من تعب ومشقّة العمل في النهار، والله يجري الشمس والقمر بحساب متقن لا يتغيّر ولا يضطرب، فهما سبب الصيف وما فيه من حرارة والشتاء وما فيه من برودة، قال الله تعالى: ( لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وُكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يَسِ الآية 40. والكلّ يجري بتقدير الله العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكلّ شيء.
ـ ( وَهُوَ الْذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ): فالله الذي خلق النجوم يهتدي بها الإنسان في ظلمات البرّ والبحر، وهي زينة السماء، وخلقها رجوماً للشياطين، فتلك آيات كافية للاهتداء إلى الحق وتجنّب الباطل.
ـ ( وَهُوَ الْذِي أَنْشَأَكُم مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ): والله وحده الذي خلق الإنسان من نفس واحدة قال تعالى: ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اِتَّقُواْ رَبَّكُمُ الْذِي خَلَقَكُم مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) النساء الآية 1. ثم جعله عضواً مستقلاً بذاته، مستقرّ على ظهر الأرض ثم مستودع في الدار الآخرة بعد إكمال مهمّته ووظيفته في الحياة الدنيا.
ـ ( وَهُوَ الْذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ اَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ اُنْظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ ) فالله الذي ضمن أسباب الحياة للإنسان من مشرب ومأكل مختلفاً ألوانه وطعومه وأشكاله وروائحه.
ثم ختم الله هذه الآيات الدّالّة على قدرته جلّ وعلا بالدعوة إلى استعمال العقل، والحثّ على التفكير في قدرة الخالق وحكمته ورحمته، لأنّ إعمال العقل هو السبيل الوحيد الموصل إلى الإيمان المنتج للسّلوك الحسن والعمل القويم.
العبر المستخلصة من النص:
ـ الإيمان بأنّ الله هو المسبّب لأسباب الكون جميعاً.
ـ الله وحده الذي يهدي الإنسان إلى الخير، وقد فطره على ذلك.
ـ التدبّر في الكون من أسباب الهداية.
ـ كلّ ما في الكون من شيء مسخّر للإنسان.
ـ تأمّل قوله تعالى في هذه الآية : ( فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِباً ) أي إنّ الله يخرج الحبّ من النبات الأخضر و هذا ما أدركه العلم من أنّ النبات ينتج المواد الغذائية بواسطة خلايا الورقة الخضراء، إنّ أحسن معمل لدى الإنسان لا يقارن بنشاط ذلك المعمل الموجود في الورقة الخضراء فتأمّل سرّ تعبير القرآن الدّقيق .
الدرس الثالث:
النص القرآني:
قال الله تعالى: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الْذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَاماً (63) وَالْذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً(64) وَالْذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اَصْرَفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً (66) وَالْذِينَ إِذَا أَنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يُقْتِرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالْذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً(71) وَالْذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرَاماً (72) وَالْذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمًّا وُعُمْيَاناً (73) وَالْذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ اَزْوَاجِنَا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً (76) قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77) ).سورة الفرقان الآية 63/77.
معنى المفردات:
-عباد الرحمان: مبتدأ خبره أولئك يجزون الغرفة، وإضافة العباد إلى الرحمان للتفضيل.
-هوناً: هيِّنين متواضعين غير متكبِّرين.
-قالوا سلاماً: قالوا قولًا سديداً فيه عفو وصفح وسلامة من الإثم.
-كان غراماً: كان ملازماً وثابتاً.
-لم يقتروا: لم يبخلوا ولم يضيّقوا على أنفسهم تضييق البخيل وضده يسرفوا.
-قواماً: وسطاً، أما القوام بكسر القاف فهو ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
-أثاماً: جزاءً وعقاباً.
-مهاناً: ذليلاً ومحتقراً.
-لا يشهدون الزور: لا يدلون بالشهادة الباطلة، أو لا يحضرون محاضر الكذب.
-اللغو: كل ما لا خير فيه من قول أو عمل.
-كراماً: معرضين عنه، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والمشاركة فيه.
-لم يخرّوا عليها صمًّا وعمياناً: خرّ بمعنى سقط، والمعنى أنهم إذا سمعوا آيات الله أقبلوا عليها واعين لها متبصرين بما فيها، ليس شأنهم شأن الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله أعرضوا عنها كمن لا يسمع ولا يبصر.
-قرّة أعين: تقرّ أعيننا بهم بمعنى تسكن وتهدأ.
-الغرفة: أعلى مواضع الجنّة وأفضلها.
-المستقر: محلّ الاستقرار.
-المقام: مكان الإقامة.
-ما يعبأ بكم ربي: لا يبالي بكم ربي، ولا يعتدّ بكم. من قولك لا أعبأ بالأمر أي لا أبالي به ولا أعتد.
المعنى الإجمالي للنص:
1) الآيات الكريمة المتقدّمة في صفات المؤمنين الذين يستحقّون أن ينعتوا بعباد الرحمان، وهاته الصفات كما وردت في النص القرآني الكريم، بعضها إيجابي يجب على المؤمن الحق أن يتصف بها، وبعضها الآخر سلبي يجب على المؤمن أن يبتعد عنها ويحاربها في نفسه وطبائعه.
فالصفات الإيجابية هي: التواضع، والحِلم، والتهجد ليلاً، والخوف من عذاب الله، والتذكر بآيات الله، ودعاء الله بصالح الأزواج والذرية.
والصفات السلبية هي: ترك الإسراف والتقتير، والبعد عن الشرك والزنى والقتل، والبعد عن شهادة الزور وما لا خير فيه ولا فائدة من اللغو.
2) هؤلاء المؤمنون المتصفون بصفات الكمال، المستحقّون للقب عباد الرحمان، هم الذين يجزون يوم القيامة بأحسن موضع في الجنّة وأفضله، جزاءً لهم على تحمّل مشاقّ الطاعات، ورفض الشهوات، وتحمّل مجاهدة النّفس ومحاربتها، ويلقّون فيها تحيّة من الله وسلاماً من الملائكة، وهم في هاته الغرفة خالدين، حيث طابت لهم، وحسنت مستقرًّا ومقاماً.
3) وختم الله سبحانه وتعالى هاته الآيات ببيان أنّه غنيّ عن الكلّ، وأنّه لولا عبادة بعض خلقه وإيمانهم واتباعهم لأوامره سبحانه ما كان ليعتدّ بهم ويبالي، لأنّ شرف الإنسان بطاعته ومعرفته، وبذلك يتميّز عن سائر المخلوقات الأخرى.
أما أنتم يا كفار قريش الذين كذّبتم ما جاء به رسولي، وخالفتم أوامري، واتبعتم شهوات أنفسكم الأمّارة بالسّوء، فسوف تساقون إلى جهنّم خالدين فيها جزاء تكذيبكم.
العبر المستخلصة من النص:
ـ النص القرآني الكريم يدعونا إلى الاتصاف بصفات الكمال، ونبذ النقائص والموبقات.
ـ التوسّل إلى الله بالدعاء واجب للوقاية من عذاب جهنّم الأليم.
ـ التوسّط في المعيشة واجب شرعي.
ـ الصبر طريق النجاح والنجاة.
الدرس الرابع:
النص القرآني:
قال الله تعالى: ( قُلْ تَعَالَوَاْ اَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمُ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مِنْ اِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الْتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ). سورة الأنعام الآية 151/ 153.
معنى المفردات:
-تعالوا: أقبلوا، وأصله أن يستعمله من كان في مكان عال ينادي به من كان أسفله.
-اتل: أقرأ.
-الإملاق: الفقر، وأملق إذا أنفق ماله حتى الفقر.
- الفواحش: ما عظم جرمه وذنبه من كبائر الذنوب.
-ما بطن: ما خفي واستتر.
-لعلّكم تعقلون: لعلّكم ترشدون.
-حتى يبلغ أشدّه: حتى يبلغ رشده ويصير قادراً على التصرّف في أمواله.
-الكيل: كال إذا عيّن كمية الشيء ومقداره بواسطة آلة معدّة لذلك.
-بالقسط: بالعدل وعدم النقصان.
-إلا وسعها: إلا ما في استطاعتها القيام به.
-لعلّكم تذكرون: لعلّكم تتعظون وتعتبرون.
-صراطي: طريقي ومنهاجي.
-السُبل: الأديان الأخرى.
-لعلكم تتّقون: لعلكم تبتعدون وتتجنّبون الضلال وتتمسّكون بالحق.
المعنى الإجمالي للنص:
النص القرآني المتقدّم تضمن ثلاث آيات في توضيح أصول الفضائل وأنواع البر وأصول المحرّمات والكبائر، ليكون المسلم على بيّنة من دينه، وما يجب عليه القيام به أو تركه وتحاشيه وليعرف أهداف هذا الدّين الحكيم وما يرمي إليه من مكارم الأخلاق وتكوين نفس المسلم تكويناً صالحاً.
وهي وصايا عشر، خمس منها بصيغة النهي والباقية بصيغة الأمر:
1) فمن المحرمات والذنوب العظيمة التي لا تُغفر الإشراك بالله، وعبادة ما لا يجدي نفعاً من الأصنام ومظاهر الطبيعة ونحوها، وترك عبادة الرحمان الذي تتمثّل فيه القدرة، وبين يديه مصير هذا العالم بما فيه من أراضي وسماوات، ولا يَخفي ما في هذا العمل من عدم تقدير الله حق قدره، لذلك نهى سبحانه عن الإشراك به. وأمر بالاقتصار على عبادته، لأنّه هو الذي يستحقّ غاية التعظيم.
2) الأمر بالإحسان إلى الوالدين لأنّهما السبب الظاهر في وجودنا، فالأم تلقى بسبب الحمل والوضع مشقّة، والأب يتحمّل من مصاعب الحياة أمرها، فلذلك يجب البرّ بهما وإعانتهما والترحّم عليهما بعد وفاتهما. ونظراً لمكانتهما وما يجب على الإنسان أن يقوم به نحوهما قَرن الله سبحانه الإحسان إليهما بعبادته، قال الله تعالى: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) الإسراء 23.
3) النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر كما كانت تفعل بعض القبائل في الجاهلية، لِما في ذلك من الذنب العظيم الذي لا يُغفر، ولِما يتمثّل كذلك في هذا العمل من إبادة للجنس البشري، وما كان حقّهم أن يفعلوا ذلك فالذي خلقهم وضمن أرزاقهم وما تقوم عليه حياتهم قد ضمن لهؤلاء الأولاد كذلك أرزاقهم.
4) النهي عن ارتكاب الفواحش والذنوب الكبيرة ممّا تأمر به القوّة الشهوية أو النفس الأمارة بالسوء في حالتي الخفاء والجهر. فالفواحش الظاهرة قد يبتعد عنها الإنسان حياءً من الناس، أو خوفاً من ملامتهم، أو خشيةً من سلطة القانون، أمّا الابتعاد عن الفواحش الباطنة التي لا يطلّع عليها الناس لاتصالها بخفايا النفس فهي مرتّبة تتجه بالناس إلى الصعود نحو المشارف العليا للكمال، والسلوك المثالي، وفي هذا قال الله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَما بَطَنَ) الأعراف 33.
5) النهي عن القتل ظلماً وعدواناً لما في ذلك من الإثم العظيم أمام الله وأمام المجتمع، ولا يجوز مطلقاً لأيّ أحد أن يقتل أحداً إلَّا لسبب أوجبت فيه الشريعة الإسلامية القتل ( كالقصاص والردّة..)، مستعيناً في الوصول إلى حقّه بالطرق القانونية وبولاية الأمر من حكام وقضاة.
6) النهي عن التلاعب بأموال اليتيم الذي كُلّف الإنسان بالسّهر على مصالحه ورعايتها، فالواجب يقتضي منه أن يؤدّي هاته الرسالة السامية على أكمل وجه، ولا يستغلّ فرصة وصايته ويعتدي على أموال اليتيم ويستغلّها لنفسه بل يجب أن يسهر على هذا المال بالإنماء والمحافظة حتى يبلغ اليتيم سنّ الرشد فيعامله بما يعامل به سائر المسلمين داخل المجتمع الإسلامي.
7) الأمر بعدم بخس الكيل والميزان، لأنّ النقص فيهما سرقة، والسرقة محرّمة في الإسلام، بل من الأحسن للإنسان أن يكون صادقاً وفيّاً في كيله وميزانه لما في ذلك من إعطاء الناس حقوقهم وبراءة ذمّته يوم المرجع والحساب حيث تجزى كل نفس بما عملت حسب استطاعتها لأنّه سبحانه لا يكلّف البشر إلَّا بما يستطيعون القيام به.
8) الأمر بأداء الشهادة على حقيقتها وبالعدل في الأحكام الصادرة عن الإنسان أثناء الفصل بين الناس.
وإن كان الظالم من ذوي القربى فلا يتردّد الإنسان في إعانته على الرجوع إلى الحق بإزالة ظلمه وعدوانه، ولا يخفى ما يسبب هذا المبدأ إذا حقّق من عدالة وإنصاف واستقرار أمن داخل المجتمع.
9) الأمر بالوفاء بالعهود لأنّ ذلك من كمال أخلاق الإنسان، سواء كان هذا العهد بينه وبين ربّه، أو بينه وبين نفسه أو إنسان آخر.
10) الأمر باتّباع سبيل الله القويم ودينه الواضح الجلّي. والنهي عن اتّباع مختلف الأديان والمناهج المضلّة عن الطريق الحق الموصلة إلى ما فيه رضا الله وإنعامه.
الفوائد المستخلصة من النص:
ـ النص القرآني تضمّن عشر وصايا: النهي عن الإشراك بالله، وقتل الأولاد خوفاً من الفقر، وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما خفي، وقتل الغير ظلماً وعدواناً، والتلاعب بأموال اليتيم، والأمر بالإحسان إلى الوالدين، وعدم النقص من الكيل والميزان، واتّباع سبيل الله المتمثّل في الإسلام.
من هدي السنّة النّبويّة
قال الرسول صلى الله عليه وسلم
( نَظََّر اللهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَحَفِظَهُ حَتّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَحْفَظُ لَهُ مِنْ سَامِعٍ )
رواه أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
الدرس الأول:
نص الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى: ( يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )، وَقَالَ تَعَالَى: ( يَأَيُّهَا الْذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثٌ أَغْبَرْ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ ).رواه مسلم.
التعريف براوي الحديث:
هو الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر الدوسي المكنّى بأبي هريرة، وهو من كبار الصحابة الذين حفظوا للأمّة الإسلامية هذا الركن العظيم ( السنّة النبويّة ) وقد رضي الله عنه، وهو من أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّه كان يلازمه ملازمة تامّة حتى شهد له الرسول الكريم بالحرص على الحديث، ودعا له بثبات الحفظ، فلم يسمع شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حفظه. أسلم سنة سبعة للهجرة عام خيبر، روى عن الرسول عليه الصلاة والسلام 5374 حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثمائة وانفرد البخاري بثلاثة وسبعين. ولَّاه عمر رضي الله عنه على البحرين ثم المدينة المنوّرة، فمكث فيها حتى توفي سنة 57 هـ ودفن بالبقيع رضي الله عنه وأرضاه.
معاني المفردات:
-طيّب: جميل ومطهر ومقدس ومنزه عن العيوب والنقائص.
-المؤمنون: الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
-المرسلون: الذين أرسلهم الله لهداية البشر.
-الطيبات: التي تستسيغها النفوس المعتدلة.
-أشعث: ثائر الرأس.
-أغبر: متغيّر اللون لطول سفره.
-يمدّ يديه: يرفعهما إلى السماء بالدعاء.
-فأنّى: فكيف.
المعنى الإجمالي للحديث:
في هذا النداء الخالص للمؤمنين أمرهم سبحانه وتعالى أن يأكلوا من طيّبات ما رزقهم وأن يؤدوا حقّ النعمة بشكر المنعم جلّ شأنه فيخلصوا العبادة والدعاء له وحده، وألَّا يخلطوا بين الحلال والحرام، لأنّ الذي يتوجّه إلى الله بالدّعاء الخالص يستوجب ذلك عليه أن يحرّر سعيه للكسب من الحرام، وأن يتحرّى الحلال في الطعام وفي الشراب وفي اللباس..قال الله تعالى: (يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) سورة البقرة 168.
ولا شك أنّ الكسب الحلال يبارك الله تعالى جهد صاحبه ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأنّ الكسب الحرام يمحقه الله ويبعثر ثروة صاحبه فلا ينال منه إلَّا الخيبة والخسارة في الدنيا وفي الآخرة.
لقد اختلط على الناس فهمهم لدين الله فلم يفهموا كنهه، يقعون في الحرام ثم يلجأون إلى الله عند الحاجة فيتضرعون له ليمدّهم من فضله ويعطيهم من رزقه وهم لا يعلمون أنّ الله طيّب لا يقبل إلا طيّباً.
فعلى المسلم أن يسعى للكسب من طريقه المشروع وأن يتجنّب الحرام. ومن يبذل طاقته، ويكدّ، ويكدح، فكدّه وكدحه في سبيل الله وهو صدقة ما بقي نفعه.
عن كعب بن عمرة قال: ( مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَاراً فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْهِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ). رواه الطبراني.
ما يستفاد من الحديث:
ـ ما كان خالص النفع فهو حلال طيّب، وما كان خالص الضرر فهو حرام خبيث.
ـ أفضل وأطيب أنواع الكسب عمل الرجل بيده.
ـ من أنواع الكسب الحرام: الربا، الاحتكار، القمار، التجارة بالمخدرات، تطفيف الكيل والتلاعب بالموازين، السرقة، أكل أموال الناس بالباطل...
ـ أثبت العلم الحديث أنّ الطعام الحلال المفيد الكامل له أثر طيّب على السلوك.
الدرس الثاني:
نص الحديث الشريف:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: ( إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشَرَ حَسَنَاتِ إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عنِْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) رواه البخاري ومسلم.
التعريف براوي الحديث:
هو الصحابي الجليل أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنه، بن عمّ رسل الله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهما. وُلد قبل الهجرة بثلاث وستين. كان من أغزر الصحابة علماً، دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( اللَّهُمَّ فَقِّّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ الحِكْمَةَ وَالتَّأْوِيلَ )، فكان يُسمَّى البحر لسِعَة عِلمه، وكان عُمَر رضي الله عنه يدنّيه من مجلسه ويستعين به ويستشيره. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 1660 حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. توفي رضي الله عنه وأرضاه بالطائف سنة 68 للهجرة ودفن بها.
معاني المفردات:
-الحديث القدسي: هو الحديث الذي يضيف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً إلى الله عزّ وجلّ.
-كتب: قدّر مقادير الحسنات والسيّئات.
-الحسنات: كل ما فيه خير.
-السيّئات: كل ما فيه شر.
- بيّنَ: وضّح وفصّل
-همّ: عزم ونوى.
-يعملها: يقوم بها في الواقع.
-كتبها: أمر الله الملائكة بكتابتها وتثبيتها.
-عنده: أي في الملء الأعلى، و"عنده " للتشريف.
-كاملة: من غير تنقيص.
المعنى الإجمالي للحديث:
من فضل الله تعالى على هذه الأمّة ورحمته الواسعة بمضاعفة الحسنات والتجاوز عن السيّئات. فإذا قصد المسلم الخير ولم يفعله كتب الله له بذلك حسنة واحدة لقاء نيّته الحسنة وسريرته الطيّبة، وإذا فعل الخير وحقّقه في الواقع فله بذلك أفضل الجزاء وأجزل الأجر ويضاعفه الله له أضعافاً كثيرة ما لا يعلمه إلا الله العليم القدير. أمّا إذا همّ بفعل سيّئ ثم تجّنبه خشية من الله فله بذلك حسنة تشجيعاً له على ترك المنكر، أمّا من يفعل السّوء ويصنعه في الواقع فيؤذي به نفسه أو غيره فمن عدل الله أنّه لا يمدّ له في الوزر وإنّما يكتب له بذلك سيّئة واحدة، وليس ذلك تشجيعاً على المنكر وإنّما ترغيباً في التوبة والرجوع إلى الله الذي يستطيع العذاب ويصفح ويغفر، وإن تاب العبد المذنب عفا الله عنه وبدّل سيئاته حسنات، انظر إلى فضل الله وكرمه في قوله: ( مَثَلُ الْذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَّشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة 261. ومن فضل الله كذلك أنّه جعل الحسنات سبب إزالة السيّئات فقال الله تعالى: ( إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود الآية 114. فالحديث يحثّ على العفو والصفح وسعة الصدر، وهو دلالة واضحة على فضل الله وعدله ورحمته بعباده.
ما يستفاد من الحديث:
ـ فضل الله على هذه الأمّة ورفع الإصر عنها.
ـ عدم الإصرار على المعصيّة، والاستعاذة بالله تعالى من كلّ وسواس أو هاجس.
ـ الترغيب في العمل الصالح ولو كان قليلاً، فإنّ الله تعالى يضاعف الأجر الصغير حتى يُصبح كبيراً.
الدرس الثالث:
نص الحديث الشريف:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَهُ حَسَناً وَنعْلَهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُ الجَمَالَ، الكِبْرُ بَطْرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ). رواه مسلم.
التعريف براوي الحديث:
هو الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي، حليف بني زهرة. أسلم قديماً. وكان رضي الله عنه صاحب الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة المنوّرة. وكان أوّل من جهر بالقرآن عند مقام الكعبة، قرأ سورة الرحمن. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكرمه، وكان مشهوراً بأنّه صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليّ قضاء الكوفة في خلافة عمر رضي الله عنه، وصدراً من خلافة عثمان رضي الله عنه، ثم رجع إلى المدينة المنوّرة.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 848 حديثاً، أخرج البخاري ومسلم منها أربعة وستين، وانفرد البخاري بواحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين.
توفي رضي الله عنه سنة 32 هـ بالمدينة المنوّرة ودفن بالبقيع.
معاني المفردات:
-مثقال ذرّة: وزن أصغر شيء.
-كِبر: الكبر هو الارتفاع على الناس واحتقارهم، ودفع الحق.
-رجل: قيل الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم هو مالك بن مرارة الرهاوي، وقيل معاذ بن جبل، وقيل عبد الله بن عمرو بن العاص..
-حسن: جميل ولائق.
-نعله: النعل هو الحذاء.
-جميل: صاحب الأسماء الحسنى وصفات الكمال. وذو النور والبهجة.
-بطر الحق: ردّه وعدم الإذعان له.
-غَمْط الناس: احتقارهم وازدراؤهم.
المعنى الإجمالي للحديث:
التكبّر من كبائر الإثم التي نهى عنها الإسلام وحذّر منها أشدّ تحذير، وهو من العوامل التي تُبعد الإنسان عن الهداية إلى الطريق المستقيم، وتتسبّب في السُخط الإلهي، قال الله تعالى:
( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الْذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ ) الأعراف 146.
وقال عزّ وجلّ: ( إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ ). النحل 23. وقال جلّ وعلا: ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ). غافر 35.
والكبر من آفات المجتمعات في كلّ عصر ومصر لأنّ أضرارها لا تحصى:
فهو الأنانية الطاغية التي تصرف عن محبّة الغير وتقديم الخدمات للمجتمع. وهو المولّد للضغائن والمنازعات بين أفراد المجتمع. وهو الذي يصمّ الآذان عن كل نصيحة من الغير فيجرّ إلى الخسران المبين.
والتكبر على الناس يجرّ إلى التكبر على الله، وهناك الهلاك الأكيد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَكَبَّرُ وَيَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَى يُكْتَب فِي الجَبَّارِين فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُم). رواه مسلم.
وأهمّ أسباب التكبر:
اعتقاد الإنسان أنه مميّز على غيره بالعلم، أو المال، أو النسب، أو الجاه، أو القوة، أو كثرة الاتباع.
وعلاج الكبر أن يعوّد الإنسان إلى نفسه بأن يتأمّل في منشأ خلقه، فهو من تراب ومن ماء مهين، ثم يموت فيقبر حيث يعود جيفة نتنة، قال الله تعالى: ( قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيْ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمِّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرُ ). عَبَسَ 17/21.
ومظاهر التكبّر كثيرة أهمّها:
ـ استعظام النفس، واحتقار الغير، ورفض الانقياد بالحق والرضوخ له.
ـ الاختيال في المشية، قال الله تعالى: ( وَلَا تُصَاعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً اِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ). لقمان 18.
ـ رفض النصيحة والاستنكاف عن الحق، قال الله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِيسَ المَهَادِ ). البقرة الآية 204/206.
ـ محبّة أن يسعى الناس إليه ولا يسعى هو إليهم وأن يمثّلوا له قياماً إذا قدم أو مرّ بهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَثّلَ لَهُ الرِّجُالُ قِيَاماً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مَنَ النَّارِ ) رواه أبو داود.
ـ محبّة التقدّم على الغير في المشي أو في المجلس أو في الحديث أو نحو ذلك.
ما يستفاد من الحديث:
ـ عندما تكبّر إبليس ولم يذعن لأمر الله ابتلاه الله بالذلّة وطرده من الجنّة مهاناً.
ـ الكبر ينمّ عن خِفَّة في العقل.
ـ حقيقة التكبّر إنكار الحق وسلب حقوق الناس.
ـ ليس من الكبر الاعتناء بالمظهر.
الدرس الرابع:
نص الحديث الشريف:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى .) رواه البخاري ومسلم.
التعريف براوي الحديث:
هو النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري المكنّى بأبي عبد الله، وهو أوّل مولود في الإسلام من الأنصار، وُلد بعد الهجرة بأربعة أشهر ولأبيه صحبة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، تولّى قضاء الشام، ثم استعمله معاوية رضي الله عنه على الكوفة، وكان من الخطباء المشاهير. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مئة وأربعة عشر حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على خمسة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بأربعة.
قُتل رضي الله عنه بالشام سنة 64 هـ، ودُفن هناك.
معاني المفردات:
-مَثَل: صفة وحال.
-توادّهم: تزاورهم وتواصلهم الجالب للمحبة.
-تراحمهم: أن يرفق بعضهم على بعض بسبب أخوّة الإيمان.
-تعاطفهم: أن يعاون بعضهم بعضاً عند الشدائد.
-سائر الجسد: باقي الجسم.
-الحمّى: الحرارة المرتفعة التي تسري في جميع البدن وتؤلمه.
المعنى الإجمالي للحديث:
يمثّل الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذه الصفات الثلاث بالجسد الواحد، فكما أنّ الجسد إذا مرض منه عضو تألّم له الباقي، فلم يذق نوماً، سرت إليه حرارة الحمّى، فآلمته، فكذلك المؤمنون حقيقة إذا نابت واحد منهم نائبة شعر بألمه الباقون، فسرعوا بما فيهم من العواطف لدفع الألم عنه، وجلب الخير له، فالمسلمون في مجموعهم كشخص واحد وكل فرد منهم بالنسبة للمجموع كالعضو بالنسبة للشخص، فالخير يصيب الواحد منهم كأنّما أصاب كلهم، والشرّ ينوبه كأنما ناب جميعه، فليعتبر بهذا الحديث بعض الأمم الإسلامية التي لا تألم لما يصيب جارتها، بل ربنا ساعدت عدوّها على القضاء عليها.
فالمؤمنون شأنهم التعاون والتناصر، والتظاهر والتكاتف على مصالحهم الخاصّة، والمصالح العامّة قال الله تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ العُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ). المائدة الآية 2. ذلكم هو سلاح الائتلاف والاتحاد والوفاق، سلاح ضمّ اليد إلى اليد، والأخ للأخ، وترك النزاع جانباً.
ما يستفاد من الحديث:
ـ حثّ المسلمين على التعارف والتواصل.
ـ التعاون بين المسلمين سبيل النجاح والنجاة.
ـ التعاون بين المسلمين سلاح ماض وجيش غلاب وعدّة عتيدة.
ـ من ثمار الإيمان الشعور بألم المسلمين.
الدرس الخامس:
نص الحديث الشريف:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الجَلِيسُ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذّيكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيِّبَةً وَنَافِخِ الكِيرِ إِمَّّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحاً خَبِيثَةً). رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ، وَمَثَلُ الجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الكِيرِ إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ ). رواه أبو داود والنسائي.
التعريف براوي الحديث:
* هو الصحابي الجليل أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ( نسبة إلى الأشعر قبيلة باليمن). قَدِم مكّة وأسلم وعاد إلى قومه وأسلم معه نحو خمسين رجلاً من قومه. وكان حَسَن الصوت بالقرآن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّكَ أُوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ).استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن، وساحل اليمن. وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على البصرة والكوفة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 360 حديثاً، اتفق البخاري ومسلم مها على تسعة وأربعين، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر. توفي رضي الله عنه وأرضاه بالكوفة سنة 50 هـ عن ستين سنة.
الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر الخزرجي الأنصاري، أمّه أمّ سليم رضي الله عنها، أهدته أمّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، لازم خدمته عليه الصلاة والسلام عشر سنين، تعلّم منه الأخلاق والمثل العليا، وكان حَسَن الصلاة وكثيرها، قال أبو هريرة فيه: ما رأيت أحداً أشبه بصلاة النبيّ من أنس. دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( اللَهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ ).
روى عن النبي عليه الصلاة والسلام الكثير من الأحاديث بلغت ألفين ومئتين وستة وثمانين حديثاً، اتّفق الشيخان منها على مئة وثمانية وستّين حديثاً، وانفرد البخاري بثمان، ومسلم بسبعين. توفي رضي الله عنه عن عمر تجاوز المئة وذلك سنة 93 هـ.
معاني المفردات:
-مَثَل: صفة وحال.
-الجليس: المجالس القاعد معك.
-المسك: نوع جيد من الطِيب يؤخذ من الغزال.
-صاحب المسك: بائع الطيب وإن لم يكن مسكاً.
-يحذيك: يعطيك.
-تبتاع: تشتري.
-أصابك: حلّ بك.
-الكير: جراب من جلد تنفخ به النار.
-صاحب الكير: الحداد، الذي يصنع آلات الحديد.
-سواده: شرار ناره حيث يسود بعد أن ينطفئ.
المعنى الإجمالي للحديث:
يحثّ الرسول الأكرم على أن نحسن اختيار الصديق والرفيق حيث شبّه الرسول صلى الله عليه وسلم حال الجليس النافع والصديق الصالح بحال بائع المسك، فإنّك تنتفع به إذا اشتريت منه أو أهدى إليك بعض طيبه، وإذا لم يحصل ذلك فإنّك تشمّ رائحة الطيب الزاكية، وكذا الصديق الصالح تتبادل معه الحديث فيما يعود عليكما بخيري الدنيا والآخرة، أو يكون النصح والتوجيه من جانبه فقط فتنتفع بنصائحه وإرشاداته، أو لا يكون هذا ولا ذاك ولكن تنظر إلى وجهه وحال صلاحه فتتبع طريقته وتحاول أن تكون مثله فتزكو في نفسك محبّة الخير والصلاح.
وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم حال الجليس السيّئ الطباع والصديق الفاسد الأخلاق بحال الحدّاد الذي ينفخ الكير، فإنّه إذا طار شراره ووقع على ثيابك أحرقها بناره، وإذا لم يكن هذا فكفى أنّك تشمّ رائحة الدخان الكريهة وتضيق أنفاسك منها، وكذا الصديق الفاسد فإنّه قد يحملك أن تشاركه في أعمال الضرر والفساد وتسري عدوى الأخلاق الفاسدة إليك سريعاً فتصير عضواً فاسداً وإنساناً شرّيراً، وإذا أخذت الحذر والحيطة ولم تشاركه في فساده فإنّك لا تخلو من الضيق به ولا تسلم من التهمة وسوء السمعة بأنّك تصاحب الأشرار.
فرحم الله مسلماً كرّم نفسه وابتعد عن مواطن الشبهات واختار أصدقاءه ورفاقه من الطيبين المخلصين الطاهرين.
ما يستفاد من الحديث:
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل) رواه الترمذي، إن الصحبة الصالحة شرط لبلوغ مقام اليقين.
ـ إن الظَّفَر بصحبة صالحة في زمن الفتنة لممّا يعينك على صلاح حالك مع الله سبحانه وتعالى وتقويم خُلقك وسلوكك مع الخَلق.
ـ الصحبة الصالحة تقويك على الطاعة وتجنّبك المزالق والهفوات. تذكرك إذا نسيت، وتنصحك إذا انحرفت. إنّها ظَفَر لك في الدنيا وذخر لك في الآخرة.
الدرس السادس:
نص الحديث الشريف:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على دابة فقال: ( يَا غُلَام، إِنِي أُعَلِمُكَ كَلِمَاتٍ: اِحْفَظِ اللهِ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهِ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ). رواه الترمذي.
التعريف براوي الحديث:
قد سبق التعريف به في درس ( سعة فضل الله وعدله وقدرته تعالى ).
معاني المفردات:
-الغلام: الصبي الذي لا يتجاوز التسع سنين.
-أعلمك كلمات: أدلّك إلى أمر ينفعك الله به.
-احفظ الله: اتّق الله وتعرّف عليه.
-يحفظك: يقيك من الشرور والمهالك.
-سألت: دعوت، وأردت السؤال.
-استعنت: طلبت الإعانة والمساعدة.
-الأمّة: جميع الخلق.
-ينفعوك: يحقّقون لك ما تريد.
-بشيء: ولو بسيط وقليل.
-كتبه الله: قدّره الله وقضاه.
-رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف: أي أنّ ما قضاه وقدّره الله للإنسان لا يستطيع أي مخلوق تغيّيره.
المعنى الإجمالي للحديث:
هذا الحديث الذي أمامنا تعبير عجيب يحمل في بساطته حقيقة التوّكل على الله وحده الذي هو أعلى درجات الإيمان، ويكون ذلك بعلم واع لصفات الله العلى وأسمائه الحسنى، وفهم دقيق لتعاليمه العادلة التي أنزلها لعباده، وترجمتها إلى واقع منظور، من خلال التوسّل إلى الواحد القهار في المنشط والمكره بالدعاء والتضرّع، والاستعانة به وحده، لأنه ليس لأحد من خلقه أن يضرّ أو ينفع، أو يزيد أو أن ينقص في الصحيفة التي كتب الله فيها أقدار خلقه.
وعلى المؤمن بالله أن يعلم أن جميع الخلق لا يملكون له ضراً ولا نفعاً وإن حاولوا بأقوالهم وأفعالهم. فإذا أطاع الله في الرَّخاء واتبع هديه كان معه عند الشدّة والحاجة ويجعل له مخرجاً وفرجاً.
هذا الإيمان الكامل يحصّن الفرد من وساوس نفسه، ويقيه من مشاكل الدنيا النفسية والاجتماعية التي لا تنتهي، ويريح ذهنه من تعب الشرود، وعقله من عناء التفكير في إرضاء الغير، ويحرّر توجهه لله الخالق المنعم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ تَعَرَّف عَلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَاعْلَم أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبكَ وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئكَ وَاعْلَم أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرَبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً ) رواه الترمذي.
ما يستفاد من الحديث:
ـ إنّ كمال الإيمان ثمرة العلم والتصديق بالقلب والتوكّل على الله وحده وإذا قوي صار يقيناً، وثمرته العمل الحسن والسلوك الطيّب.
ـ التعرّف على الله والاتصال به من أهمّ الوسائل لقضاء الحاجات.
ـ الاستعانة بالخلق فيما يقدرون على حوائج الدنيا لا يتعارض مع التوكّل على الله.
يتبع....