يبدأ الدور المعماري العثماني الأول مع بداية عهد السلطان أورخان الذي تسلطن سنة 726هـ / 1325م، وما تلاه من عهود السلاطين: مراد الأول، وأبايزيد الأول، ومحمد جلبي الأول، ومراد الثاني، ومحمد الثاني الفاتح الذي تسلطن سنة 855هـ / 1451م، وفتح القسطنطينية سنة 857هـ/ 1453م، ووافاه الأجل سنة 886هـ/ 1481م.
بقيت القسطنطينية عاصمة رومية بيزنطية أرثوذكسية تقاوم مَن يحاصرها بأسوارها وطبيعتها الجغرافية وجيوشها، ولكنها استسلمت للسلطان العثماني محمد الثاني الذي فتحها وسمّاها إسلامبول، والآسيتانة، وفروق، وسَمّاها من قبلُ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باسم: البخراء، وأخيرًا صار اسمها إستانبول. وحظيت باهتمام السلطنة العثمانية والدول الأُخرى، وأصبحت مركزًا حضاريا وعُمرانيا عالميا، فنالت نصيبها من منجزات الدور العمراني العثماني الأول الذي تطورت فيه العِمارة الإسلامية العُثمانية تطورًا راقيًا على كلّ صعيد معماري، وبلغ ذروته في عهد السلطان محمد الفاتح الذي بعد فتح القسطنطينية، وجعلها عاصمةً إسلامية من الناحية العلمية والمعمارية والعملية.
المنشآت العمرانية في عهد محمد الفاتح:
وكانت حصيلة ما بناهُ السلطان محمد الفاتح من الجوامع والمساجد في إسلامبول: 192 جامع ومسجد، كما بنى في بقية أرجاء السلطنة: 199 جامعٍ ومسجد، ناهيك عن المُنشأت الأخرى حتى بلغ مجموعُ ما بناه: 1992 منشأة عُمرانية إسلامية، وبهذا بلغت المُنشأت العمرانية الإسلامية العثمانية في أوروبا وأسيا آلاف المُنشأت، شملت بلغاريا ورومانيا واليونان ومقدونيا وصربيا، وكوسوفو والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وألبانيا، وأصبحت المدن الأوربية في تلك البلدان إسلامية الطراز المعماري.
وبلغ عدد المُنشآت التي قامت في أيام الفاتح: 391 جامع ومسجد، و52 مكتبًا لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، و53 مدرسة، ومكتبةً واحدة، ودار استشفاءٍ، ومستشفيين، وكلية طبٍ واحدة، و88 حمامًا، ودار توقيتٍ واحدة، ودارَ حديثٍ واحدة، وأربعَ دورٍ لسك النقود، وثكنتين عسكريتين، و13 قلعة، وترسانةً واحدة، وأربع تكايا و27 زاوية، و35 سوقًا مسقوفًا، و31 خانًا، و9 جسور، وقصرًا واحدًا، و10 مشاريعَ لجر المياه، و15 سبيلًا، و1000 دكانٍ، والعديد من المباني المتنوعة من دور الحكومة ودور الضيافة والترب.
وبلغ مجموع المباني التي وصلتنا معلوماتٌ عنها: 1992 بناء، ومازال الكثيرٌ من تلك الأبنية قائمٌ حتى الوقت الحاضر يُقدم شهادة واضحةَ عن تلك النهضة العمرانية التي قادها الفاتح إلى جانب النهضة العسكرية التي تجلت في فتح القسطنطينية التي استعصت على الفاتحين الأمويين والعباسيين والسلاجقة وأوائل العثمانيين.
لم تتوقف منجزات السلطان محمد الفاتح عند حدود الانتصارات العسكرية بل له منجزات ثقافية علمة وأدبية، وله منجزات صناعية وعمرانية، فبعد فتح القسطنطينية أمر الفاتح بتشييد جامع أبي أيوبٍ الأنصاري على الضفة الجنوبية الغربية لخليج القرن الذهبي، كما أمر بتشييد جامع الفاتح وملحقاته التي تضم دار تحفيظ القرآن، والحديث، ومدارس الصحن الثمانية، والمكتبة، وأمر بتشييد قصر طوب قابي الذي يعتبر في أيامنا من أروع المتاحف الإسلامية والعالمية، وبني الثكنة العسكرية التي جُددت وتحولت إلى جامعة في العصر الراهن، وحوَّل الفاتح مدينة إسلامبول من عاصمة بيزنطية رومية أرثوذوكسية إلى عاصمة إسلامية عالمية.
فتح القسطنطينية:
لم يكن عهد السلطان محمد الفاتح خاليًا من المعارك العسكرية الكبرى مع أعداء السلطنة العثمانية في الداخل والخارج، فعندما جلس على كرسي الحكم في أدرنة سنة 855هـ أعلنت إمارة قرميان تمردها بالتآمر مع البيزنطيين، فقاد السلطان الفاتح أولى حملاته وأخضع الإمارة المُتمردة، وأدرك خطورة بقاء البيزنطين في القسطنطينية التي بقيت كشوكة في قلب دولته الواسعة الأطراف في أوروبا وآسيا فقرر إنشاء القلعة المُسماة (روملِّي حصار) أو(بوغاز كيسين حصاري) على الضفة الغربية لمضيق البوسفور مقابل القلعة الموجودة على الضفة الآسيوية المُسماة (أناضول حِصار) التي شيدها من قبل السلطان يلدريم أبايزيد الأول والد جدِّه، وبوجود المدفعية العثمانية في القلعتين أصبح عبور البحرية المعادية في مضيق البوسفور مُستحيلًا مما أضعف مدينة القسطنطينية عسكريًا، وبعد تدشين القلعة سنة 856هـ عاد السلطان محمد الثاني إلى العاصمة أدرنة، وأمر بصناعة مدافع الميدان العملاقة؛ ومدافع الهاون التي لم تُعرف من قبل، ووجّه العمال إلى تسوية الطريق الواصلة بين أدرنة غربًا وإسطنبول شرقًا.
وبعد اكتمال التجهيزات قاد السلطانُ جيوشه واتجه من أدرنة نحو القسطنطينية، وحاصرها برًا وبحرًا، ولما اشتد الحصار أمر الإمبراطور قسطنطين بقطع رؤوس الأسرى المسلمين وإلقائها خارج الأسوار أمام الجيوش الإسلامية مما أثار حمية القوات الإسلامية فشددت الحصار. وتكررت الهجمات الإسلامية، وبدأت أوروبا بنجدة البيزنطين في القسطنطينية وتمرّد المنافق قرامان أوغلو، واتفق مع البنادقة على ضرب العثمانيين من الأناضول، وواكبت الحرب الديبلوماسيةُ الحربَ الميدانية، واستشار السلطان أهل الحلِّ والعقد فرأى بعضُهم قبولَ الصلح والفوز بالجزية، ولكن شيخ الإسلام (أق شمس الدين الدمشقي) عارض الصلح، وتلا ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتُفتَحَنَّ القُسطنطينية فلنِعْمَ الأميرُ أميرُها ولنِعْمَ الجيش ذلك الجيش".
وأخذ السلطانُ برأي شيخه، وامتطى جواده وتقدم إلى النسق الأمامي في الهجوم، وبدأت الملحمة التي أسفرت عن فتح القسطنطينية، ورفرفت الرايات الإسلامية العثمانية فوق أسوار المدينة، وآنذاك ترجل السلطان عن حصانه وخرَّ للرحمن ساجدًا، وأصبحت القسطنطينية إسلامبول، وأصبح محمد الثاني مُحمد الفاتح، وانتهت الإمبراطورية الرومية البيزنطية التي حاربت المسلمين منذ بدء الرسالة حتى سنة 857هـ / 1453م.
إسلامبول عاصمة للدولة الإسلامية:
دخل السلطان الفاتح مدينة إسلامبول وأعلن الأمان في المدينة، وصلى الجمعة الأولى في جامع آياصوفيا، وأمر بدفن الإمبراطور البيزنطي وقائد جيشه جستنيان، وبقية القتلى، بعدما أمر بدفن الشهداء، وأصبحت إسلامبول عاصمة للدولة الإسلامية العثمانية بدلًا من أدرنة، وبدأ اعمار المدينة فشيدت الأبنية الإسلامية، وأُعلِنَت الأفراح في جميع العالم الإسلامي، وحضر السفراء من الحجاز ومصر والهند لتهنئة السلطان الذي كان يتقن اللغة العربية والتركية والفارسية واليونانية والصربية والإيطالية، وتابع إرساء دعائم الإمبراطورية العثمانية على كافة الصُعُد الإنسانية، وازدهرت في زمنه العلوم بكل أنواعها، كما ازدهرت العِمارة الإسلامية.
منقول