لما سمع أينشتاين بخبر موته لم يصدق، ثم قال: "كلا.. كلا، لا تقولوا: إنَّ مشرَّفة مات .. إنها خسارة جسيمة"!! ووصفه بواحد من أعظم علماء الفيزياء [1]. ونعته الإذاعة في أميركا على أنه "واحد من سبعة علماء في العالم يعرفون أسرار الذرة" [2]!!
إنه العالم المصري المسلم الدكتور علي مصطفى عطية أحمد مشرفة .. من روّاد علوم الرياضيات والفيزياء..
مصطفى مشرفة .. نشأته ورحلته العلمية
وُلِدَ مشرفة سنة (1316هـ= 1898م) في حي المظلوم بمدينة دمياط. وكان والده من ذوي أليسر والجاه، وهو ما جعل مشرفة يقضي سنواته الأولى في رغد من العيش وهناءة البال، غير أن تلك الحياة الرغدة لم تدم طويلاً، ففي سنة 1909م توفي والده بعد تعرضه لأزمة مالية أودت بكل ما تملك الأسرة، وكان ذلك قبل امتحان الشهادة الابتدائية لمشرفة بثلاثة أشهر، ولكنه تغلب على الصدمة ونال الابتدائية بتفوق وكان ترتيبه الأول على القُطْر المصري!!
انتقلت الأسرة بعد ذلك إلى القاهرة، وقبل امتحان البكالوريا بشهرين توفيت والدته، ولكنه بنفس العزيمة حصل على شهادة البكالوريا بتفوق، وكان ترتيبه الثاني على القطر المصري، وذلك سنة 1914م [3]!!
آثر علي مصطفى مشرفة أن يلتحق بمدرسة المعلِّمين العليا؛ فحصل على دبلومها سنة 1917م، وكان ترتيبه الثاني على الدبلوم. وقد أهَّله هذا التفوق ليُختار ضمن بعثة علمية إلى إنجلترا، فالتحق بكلية "نوتنجهام" Nottingham بجامعة لندن، فحصل منها على درجة البكالوريوس في الرياضة مع مرتبة الشرف، وكان الحصول على هذه الشهادة يحتاج أربع سنوات من الدراسة، إلا أن مشرفة اختصرها في ثلاث سنوات فقط، فحصل عليها سنة 1920م [4]!!
وفي فبراير سنة 1923م حصل مشرفة على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم (ph. D.) من جامعة لندن في أقصر مدة تسمح بها قوانين الجامعة، وأصبح عضوًا في الجمعية الملكية البريطانية، وأخذ يحاضر العلماء من أعضاء الجمعية ولم يتجاوز بعدُ الخامسة والعشرين من عمره [5]!!
على أن آمال مشرفة في الحصول على درجة "الدكتوراه في العلوم (D. Sc) ظلت تُلِحُّ عليه، فواصل ليله بنهاره في صيف سنة 1923م حتى انتهى من إعداد أطروحة دكتوراه العلوم في شهر سبتمبر، فعرضها على أستاذه السير ريتشاردسون (أكبر علماء الطبيعة في عصره)، ولم تكن جامعة لندن تسمح بدخول امتحان هذه الدرجة إلا بعد مرور عامين -على الأقل- من حصول الطالب على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم.
وتقدم مشرَّفة -بناء على نصيحة أساتذته- يلتمس إذنًا خاصًا من مجلس إدارة الجامعة يمكِّنه من دخول الامتحان في أقرب فرصة؛ نظرًا لأنه نشر أبحاثًا عملية جليلة القدر، وفي الحادي والعشرين من نوفمبر سنة 1923م وافق مجلس إدارة جامعة لندن للدكتور مشرفة على أن يؤدي هذا الامتحان بصفة استثنائية في الرابع والعشرين من يناير سنة 1924م، وأدَّى مشرفة الامتحان في الموعد المحدد، وأُعلِنَت نتيجةُ الامتحان في مارس سنة 1924م بحصول الدكتور مشرفة على الدكتوراه في العلوم؛ وبذلك أصبح مشرفة العالِم الحادي عشر في العالَم الذي يحصل على هذه الدرجة، وأول عالم مصري يحصل على هذه المكانة الرفيعة [6]!!
رجع مشرفة إلى مصر؛ وعُيِّن مدرِّسًا للرياضيات التطبيقية بكلية العلوم بجامعة القاهرة، ثم مُنِح درجة "أستاذ" في عام 1926م رغم اعتراض قانون الجامعة على منح اللقب لمن هو أدنى من الثلاثين!!
وكان بذلك أول أستاذ مصري في كلية العلوم، ولمّا يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره!! وقد اعتُمِدَ عميدًا للكلية في عام 1936م، وانتُخِبَ للعمادة أربع مراتٍ متتاليات، كما انتُخِبَ وكيلاً للجامعة سنة 1945م [7].
وقد تمتعت كلية العلوم في عصره بشهرة عالمية واسعة؛ حيث عني عناية تامة بالبحث العلمي وإمكاناته، فوفَّر كل الفرص المتاحة للباحثين الشباب لإتمام بحوثهم، ووصل به الاهتمام إلى مراسلة أعضاء البعثات الخارجية، وسمح لأول مرة بدخول الطلبة العرب الكلية، وكان من أهم أعماله أيضًا أنه أنشأ قسمًا للترجمة العلمية بالكلية؛ لأن الدراسة كانت باللغة الإنجليزية، وكان يهدف من وراء ذلك إلى ترجمة المراجع العلمية إلى اللغة العربية، حتى يمكن تمصير الكلية والمعاهد العليا بوجه عام، وحتى تكون اللغة العربية هي لغة التعليم بدلاً من الإنجليزية. كما حوّل مشرفة الدراسة في قسم الرياضيات التطبيقية الذي يرأسه والرياضيات البحتة باللغة العربية [8]!!
مصطفى مشرفة .. سمْتُه وثقافته
أبرز ما كان يميز مشرفة ما كان من تمسكه بدينه منذ صغره، وبعد سفره، وقد تجسَّد ذلك في حفظه القرآن الكريم والصحيحين، واستشهاده بذلك في سائر كلامه، كما عُرِف عنه مواظبته على أداء فروض الدين، وكان يحتفظ في جيبه بمصحف صغير على الدوام، وكان يؤتي الزكاة مضاعفةً ما استطاع، وفي الخفاء، ولما مات جاءت مجموعة من الطلبة الصوماليين يواسون أسرته، وهم يبكون على مشرَّفة وعلى مستقبلهم الذي ظنوه سيضيع بوفاة عائلهم الذي تكفَّل بنفقات تعليمهم من دون أن يعلم أحدٌ عن ذلك شيئًا، ولم يكن هذا التدين غريبًا عن مشرفة وهو العالم الذي تعمق في العلوم، ووقف على أسرار الكون وخلق الله [9].
وكانت ثقافة مشرَّفة الدينية مثلاً فريدًا، ليس عند العلماء الذين تستهويهم الثقافات الدينية، ولكن عند علماء الدين أنفسهم، فقد حفظ مشرفة الكتب السماوية الثلاثة، واستطاع أن يدرس الديانات السماوية دراسة مقارنة، وكان عقله جاهزًا في كل حين لاستحضار الصورة الكاملة للمفاهيم الدينية المختلفة في أية قضية من القضايا، ولم يكن مشرفة يبهر علماء الأديان بثقافته تلك فحسب، وإنما كان يناظرهم ويقارعهم الحجَّة وينتصر عليهم في كثير من الأحيان!!
والذين يتتبعون مشرفة في حياته كلها يجدون في نفوسهم إحساسًا قويًّا بأن مشرفة عمل ودرس، وسعى وجاهد، وقرأ وبحث، وكشف وكتب وحاضر ابتغاءَ مرضاةِ الله، على أن الأمر في مثل هذه النية لا يقف عند الإحساس الذي يجده المتتبعون، وإنما حفظ لنا الدهر عبارةً في خطابٍ كتبه مشرَّفة إلى صديقٍ لوالده يقول فيه: "أَمَا وقد تطوَّرت في طَوْر جديد من أطوار حياتي أسأل الله أن يجعله سبيلاً إلى تقواه، ومعينًا على طاعته، ومقرِّبًا من جنة رضوانه" [10]!!
وقد أجاد الدكتور مشرفة اللغة الإنجليزية، لا إلى الحد الذي يعبر عنه الناس فيقولوا: "أتقنها كواحد من أهلها" فحسب، ولكن إلى الحدِّ الذي شجع الإنجليز أنفسهم على اختياره رئيسًا لجمعية المناقشات في الكلية الملكية، وكان مشرفة بالطبع أول أجنبي يُختار لهذا المنصب، وقد عُرِفَ مشرفة في هذه الجمعية بلقب Pat وهو اختصار للاسم الأيرلنديPatrick وقد اختار له الإنجليز هذا الاسم تقديرًا لقدراته وملكاته الجدلية [11].
دور العلم في حياة مشرفة
آمن مشرفة إيمانًا عميقًا بالعلم، وبأهمية تطبيقه في الحياة، وكانت هذه هي الفكرة الغالبة على أعماله ومؤلَّفاته، وكان مشرفة يستنهض الهمم في كل حين إلى العناية بأمر العلم والبحوث العلمية والتطبيقية واستغلال ثرواتنا البحرية والصحراوية، وتنظيم استغلال ثرواتنا الزراعية والتجارية، وكان الساسة يظنُّون مشرفة مغاليًا في دعوته، وما كان مشرفة مغاليًا، وإنما كان مقدرًا للأمر قدره الغالي [12].
وكان مشرفة يعمل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع اليوم، وكثيرًا ما كان يكتفي من النوم بثلاث ساعات: ساعة في العصر بين الرابعة والخامسة، ويقوم بعدها فيتناول الشاي مع أسرته، وساعتين بعد الفجر من الخامسة إلى السابعة أو من السادسة إلى الثامنة صباحًا، وكان المحيطون به يشفقون عليه من هذا الكفاح الذي لا يستريح معه، ولكنه كان معتقدًا أنه إن استراح فقد تقاعس، والتقاعس لا يليق بسيرة العلماء الذين كان يرى أن عليهم واجبًا نحو الإنسانية، ورسالة لا ينبغي أن يتخلّوا عنها طلبًا للراحة [13].
ولم يكن مشرفة من العلماء الذين يحول اشتغالهم بالعلم بينهم وبين الجمهور، ولعل في هذا سرًّا لدعوته الملحة إلى الاتصال بين معاهد العلم وجماهير الشعب، وهي الدعوة التي صدرت عن تقديره لمدى الفوائد الإيجابية التي تعود نتيجة لهذا الاتصال، وعن تقديره لمدى السلبيات التي تنتج عن غياب هذا الاتصال، والتي تتمثل على حد تعبيره في أن يتحول العلم إلى ضرب من ضروب السحر، ويتحول العلماء إلى نوع من الكهنة الذين يُقرَأ عنهم في تاريخ مصر القديمة [14].
وقد ترجم الدكتور مشرفة أفكاره في هذه الناحية إلى واقع عملي، فكان من السبّاقين إلى نشر الثقافة العلمية المبسطة عن طريق الإذاعة، ولم يسلك مشرفة في عمله هذا مسلكًا فرديًّا بغيةَ مجدٍ شخصي، وإنما استطاع أن ينظم سلسة من الأحاديث الدورية أطلق عليها اسم: "أحاديث كلية العلوم" يلقيها على الناس في الراديو أساتذة كلية العلوم، وكان مشرَّفة يعتقد أن قيام كلية العلوم بهذا العمل إنما هو جزء من رسالتها في إتاحة الفرصة أمام الجمهور المثقَّف للوقوف على أحدث الآراء العلمية، والإلمام بما كشف عنه الباحثون من خفايا الكون وأسرار الطبيعة، وكان يعتقد كذلك أن في هذه الأحاديث فرصة عظيمة لطائفة العلماء ليتحدثوا عن دراساتهم، ويعبروا عن وجهات نظرهم، ويتبسَّطوا في هذه الأحاديث بلغة سهلة، خالية على قدر ما يتيسر من المصطلحات الغربية، والرموز المريبة.
غير أن الهدف الأسمى الذي سعى مشرفة إليه من وراء هذه الأحاديث لم يكن إلا إشاعة العقلية العلمية في رُوح الشعب؛ حتى تصبح هذه العقلية عادة في تفكيرنا القومي، فإذا ما عنَّت للناس مشكلة من المشكلات استطاعوا التغلب عليها بالأسلوب العلمي، غير متأثرين بهوى نفسٍ أو غرض في التفكير.
وقد حرص الدكتور مشرفة في الوقت نفسه على أن يبين للناس في الأحاديث التي قام هو بإلقائها كثيرًا من الأمور الأساسية في العلوم، والاكتشافات الحديثة في دنيا الاختراع، والعناصر الرئيسية في التفكير العلمي، والعلامات البارزة في تاريخ البحث والصناعة. وقد اتسعت دائرة العلوم التي تناولتها هذه الأحاديث، كما تزايد عدد الأساتذة الذين شاركوا في هذا البرنامج الإذاعي حديثًا بعد حديث [15].
وعلى الجانب الآخر كان مشرفة يتمنَّى للوظائف العامة أن يتولاها أساتذة الجامعات، ولم يكن من أنصار الرأي القائل بأنه على أساتذة الجامعات أن يترفَّعوا عن مثل هذه الوظائف، وكان يقول في الرد على ذلك: كيف يلام أساتذة الجامعة وهم صفوة المتعلمين في الأمة إذا طلبوا ذلك الجاه لكي يُسمَع صوتهم فلا يظلوا بعيدين عن تيارات الحياة في الأمة [16]؟!
آثار مصطفى مشرفة ومؤلفاته
لعلي مصطفى مشرفة أبحاثٌ متعددة في نظرية الكم، وتفسير كثير من الظواهر الفيزيائية، وكذلك في المادة والإشعاع، وكان من أول القائلين بأنه يمكن اعتبارهما صورتين لشيء واحد، تتحول إحداهما للأخرى، وقد اقترن اسمه بهذه النظرية. كما أن له نظرية في مجال الذرة سهلت فيما بعدُ اقتحام مجال العلوم الذرية، والدخول إلى أعماقها [17]!!
والحقيقة أن أبحاث الدكتور مشرفة بدأت تأخذ مكانها في الدوريات العلمية وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا؛ ففي الجامعة الملكية بلندن King’s College نُشِرَ له أول خمسة أبحاث حول النظرية الكمية التي نال من أجلها درجتي ( Ph.D دكتوراه الفلسفة وD.sc. دكتوراة العلوم)، كما أنَّ له 26 بحثًا مبتكرًا في الطبيعة.
وقد كان من مؤلَّفاته العديدة التي خلَّفها ما يلي:
1- كتاب الميكانيكا العلمية والنظرية، وقد ظهر هذا الكتاب سنة 1937م.
2- كتاب الهندسة الوصفية، وقد ظهر سنة 1937م.
4- كتاب الهندسة المستوية والفراغية، وظهر سنة 1944م.
5- كتاب حساب المثلثات المستوية، وظهر سنة 1944م.
6- كتاب الذرة والقنابل الذرية، وظهر سنة 1945م.
7- كتاب العلم والحياة، وظهر سنة 1946م.
8- كتاب الهندسة وحساب المثلثات، وظهر سنة 1947م.
على أن مشرفة كان له إسهاماته الخاصة في مجال إحياء التراث الإسلامي أيضًا، وكان من أشهر تحقيقاته: كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي، وهو الكتاب الذي ظل عمدة ومرجعًا لعلماء الشرق والغرب طيلة قرون عديدة، وقد قدم مشرفة لهذا الكتاب بمقدمتين: الأولى عن "الجبر قبل الخوارزمي"، والثانية عن "الخوارزمي وكتابه في الجبر والمقابلة"، ثم عرض كتاب الخوارزمي؛ فشرح الجزء الخاص بالجبر، وعلَّق عليه، وحلَّل مسائله، وعبر عن المعاني العلمية والفنية بعبارات الاصطلاح الحديث، أما المسائل التي لا ترتبط بصُلب العلم فقد اكتفى فيها بالنقل دون التعليق، وهكذا أخرج لنا مشرفة من كنوز العرب دُرَّة فجلاّها خير تجلية [18].
وفاته
وبعد أن أضاء جنبات الحياة العلمية وأثراها في عصره، تُوُفي الدكتور علي مصطفى مشرفة سنة 1950م؛ فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
[1] انظر أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص 179.
[2] انظر محمد الجوادي: مشرَّفة بين الذرة والذروة، مكتبة مدبولي، 2002م ص 56.
[3] أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص 179 - محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 52، 26.
[4] محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 27، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص 179.
[5] محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 28 .
[6] محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة 28، 29 .
[7] محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 30، محمد علي عثمان: مسلمون علموا العالم ص 70 .
[8] انظر محمد علي عثمان: مسلمون علموا العالم ص 70، ومحمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 136 .
[9] انظر محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 45 .
[10] انظر محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 46 .
[11] انظر المصدر السابق ص 48 .
[12] انظر المصدر السابق ص 39 .
[13] انظر محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 44 .
[14] انظر المصدر السابق ص 46 .
[15] انظر محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 47 .
[15] انظر المصدر السابق ص 50 .
[17] انظر أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص 179 .
[18] محمد الجوادي: مشرفة بين الذرة والذروة ص 186 - محمد على عثمان: مسلمون علموا العالم ص 73، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص 180 .
منقول