المقالة الواحدة والعشرون : هل الرياضيات علم عقلي بحت ؟ جدلية
طرح المشكلة : تختلف الرياضيات عن العلوم الحسية في كونها تستمد موضوعها من
التصورات الذهنية الإنشائية لقضايا مجردة تتعلق بالمقادير الكمية في حين أن العلوم
الأخرى تقوم على وصف الأشياء الواقعية الحسية الموجودة فعلا . و هذا يجعل
الرياضيات لا تبحث في موضوعاتها من حيث هي معطيات حسية بل من حيث هي رموز
مجردة مجالها التصور العقلي البحت فإذا كان مدار البحث الرياضي هو المفاهيم أو
المعاني أو الرموز الرياضية فهل هذه المعاني أشياء ذهنية من ابتكار العقل لا غير ؟
أو بمعنى آخر هل الرياضيات إبداع عقلي خالص لا صلة لها بالتجربة الواقعية ؟
محاولة حل المشكلة :
الأطروحة الأولى والبرهنة عليها : الرياضيات علم عقلي لا صلة له بالواقع : يرى
أنصار الاتجاه العقلي والمثالي أن مبادئ المعرفة فطرية . وأن المفاهيم الرياضية
موجودة في العقل قبليا (أي قبل التجربة) فعملية الجمع , والخط المستقيم والمثلث هي
معاني رياضية حاصلة في العقل بالفطرة . وقد حاول أفلاطون في محاورة مينون – وهو
عبد جاهل للهندسة استطاع أن يكتشف بنفسه كيف يمكن إنشاء مربع – إثبات أن العلم
قائم في النفس بالفطرة , والتعلم مجرد تذكر له وليس اكتسابا من الواقع , وهو ما نجده
عند ديكارت بمعنى يختلف عن أفلاطون قليلا حيث أن المعاني الفطرية ليست واضحة
بذاتها بل حاصلة في النفس بالاستعداد والقابلية . ولقد انفتحت مع ديكارت آفاق واسعة
أمام الرياضيات . فراحت تحلق في عالم التجريد وتشيد أبراجا ذهنية تزداد بعدا عن
الواقع الحسي , فالأعداد الكسرية , والدائرة ... ليس لها ما يقابلها في عالم الواقع ...
وقد تحولت الرياضيات كلها إلى عمليات جبرية لا تخضع إلا لقواعد المنطق حتى كادت
أن ترد إليه . كما أن الفكر العربي قد اعتبر الموضوعات الرياضية موضوعات عقلية يتم
استخلاصها عن طريق عمليتي التجريد والتعميم وفي هذا يقول الفارابي :" علم العدد
النظري يفحص عن الأعداد على الإطلاق ... وإن الهندسة النظرية إنما تنظر في خطوط
وسطوح وأجسام على الإطلاق والعموم " ... كما كانت للعرب إبداعات عديدة في هذا
الميدان حتى أن البعض منها ما يزال ذا صلة باسم مخترعيه مثلا اللوغاريتم الذي يرتبط
باسم الرياضي العربي الشهير الخوارزمي وهو مخترع علم الجبر .
مناقشة : لكن الرياضيات بمفاهيمها المختلفة وبكل ما تتمتع به من تجريد إلا أنها ليست
مستقلة عن المعطيات الحسية , فالدراسات المتتبعة للفكر الرياضي تكشف جوانبه
التطبيقية .
نقيض الأطروحة والبرهنة : الرياضيات علم يرتبط بالواقع وينطلق منه : يذهب أنصار
الاتجاه الحسي أو التجريبي إلى أن التفكير الرياضي كان مرتبطا بالواقع وأن الحضارات
الشرقية القديمة استخدمت طرقا رياضية في مسح الأراضي الزراعية وفي الحساب
فكانت الرياضيات وليدة الملاحظة والتجربة , فالهندسة في مصر القديمة نشأت على
صورة فن المساحة , كما أن البابليين استخدموا الهندسة والحساب في تنظيم الملاحة
والفلاحة والري .
وهكذا نلاحظ أن الرياضيات كانت في الأصل تجريبية خاضعة لتأثيرات صناعية عملية
وأن الأساس الذي بنى عليه اليونان صرحهم الرياضي النظري هو الرياضيات العملية
التي عرفتها الحضارات الشرقية القديمة . ولعل هذا ما دفع " جون لوك " إلى الرد على
ديكارت بأنه لا وجود لمعاني فطرية في النفس لأن الأطفال والبله والمتوحشين لا
يعرفونها . كما يؤكد " كوندياك " على أن الإحساس هو المنبع الذي تنبجس منه جميع
قوى النفس . مما يعني أن بداية الرياضيات كانت بداية حسية انطلاقا من تعامل الإنسان
مع الأشياء التي تحيط به كالعد بالأصابع أو الحصي وترتيب الأشكال ثم تدرج شيئا فشيئا
في تجريد الأعداد والأشكال فاكتسبت هذه الأخيرة صورتها المجردة فاستخرج الإنسان
قوانينها فأصبحت علما نظريا , وعليه يكون فن المساحة العملي قد سبق علم الهندسة
النظري , وفن الآلات قد سبق علم الميكانيك . فاهتدى الفكر البشري بصورة عملية إلى
معرفة خواص الأشكال والآلات قبل أن يتوصل إلى البرهان عليها .
مناقشة : لكن التصورات التي تربط كلا من الهندسة والحساب بالتطبيقات العملية
والحاجات الاجتماعية تختلف اختلافا جذريا عن التصور الجديد للعلم الرياضي الذي
أصبح موضوعه ماهيات ذهنية تتمتع بالاستقلال التام عن الواقع .
التركيب : إن الرياضيات كعلوم عقلية نظرية قامت في الأصل على أمور مادية تجريبية
ثم تمكن العقل بعد ذلك من تجريدها وانتزاعها من مادتها تدريجيا فأصبحت عقلية
خالصة . فعالم الهندسة اليوم لا يهمه أن يكون المثلث الذي يبحث فيه من الخشب أو
الحديد بل الذي يعنيه هو المثلث الذي تصوره وعرفه ووضع له مفهوما يصدق على كل
مثلث . يقول جورج سارطون : " إن الرياضيات المشخصة هي أولى العلوم الرياضية
نشوءا , فقد كانت في الماضي تجريبية ثم تجردت من هذه التأثيرات فأصبحت علما
عقليا " .
حل المشكلة : إن الواقع الحسي كان منطلق التفكير الرياضي , فلم يدرك العقل مفاهيم
الرياضيات في الأصل إلا ملتبسة بلواحقها المادية , ولكن هذا التفكير تطور بشكل
مستمر نحو العقلية الخالصة إذ انتزع العقل مادته وجردها من لواحقها حتى جعل منها
مفهوما عقليا محضا مستقلا عن الأمور الحسية التي كانت ملابسة له وبهذا أصبحت
الرياضيات بناء فكري يتم تشييده بواسطة فروض يقع عليها الاختبار دون النظر إلى
صدقها أو كذبها في الواقع , بل الصدق الوحيد المطلوب هو خلو هذا البناء من أي
تناقض داخلي وعليه فالرياضيات علم عقلي .
[منقول]