مقالة فلسفية للسنة الثالثة ثانوي
شعبة علوم تجريبية - رياضيات - تقني رياضي - تسيير و اقتصاد
--
هل يمكن تفسير الظواهر الحية تفسيرا غائيا ؟
طرح المشكلة :
إن موضوع البيولوجيا هو الظواهر الحية ، التي تقوم بمجموعة من الوظائف تؤديها مجموعة من الاعضاء . وماهو ملاحظ ذلك التوافق الموجود بين تركيب العضو والوظيفة التي يقوم بها ، وهو ما جعل البعض يعتقد ان وظيفة العضو الحي هي الغاية التي جاء من أجلها ، مما يفترض الاخذ بالتفسير الغائي في البيولوجيا ، لكن هل التفسير الغائي كافٍ لفهم الظواهر الحية ؟ وهل هو تفسير مشروع من وجهة نظر الروح العلمية ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة : يرى البعض ، انه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية وتركيب الاعضاء الحية الا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها ، حيث ان كل عضو وكل جهاز انما جاء من أجل غاية معينة هي الوظيفة التي يؤديها . مما يعني التسليم بأن الوظيفة اسبق من العضو ؛ فالعين خلقت للإبصار والاذن للسمع ، والجهاز التنفسي خلق من اجل مد الجسم بطاقة الاحتراق ، والجهاز الهضمي من اجل تحويل المادة الغذائية الى احماض امينية .. وكل ذلك من اجل غاية اعظم هي المحافظة على توازن الجسم الحي .
1-ب- الحجة : وما يثبت ذلك ، ما تبدو عليه الاعضاء من تركيب محكم ينسجم مع الوظائف التي تقوم بها ، واذا اختل العضو تعطلت الوظيفة ولا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها ، كما يتجلى في اختصاص بعض الاعضاء ببعض الوظائف وعمل هذه الاعضاء ، بحيث يتحقق من عملها انتظام داخلي في العضوية كلها .
1-جـ- النقد : لكن التفسير بالغايات هو في حقيقة جواب عن السؤال (( لماذ ؟)) وهو سؤال فلسفي ، مما يعني ان التفسير الغائي يقحم اعتبارات فلسفية ميتافيزيقية لا علاقة للعلم بها ، وهذا يتناقض مع الروح العلمية التي تتطلب التفسير الوضعي الذي يفسر الظاهرة بظاهرة اخرى معلومة ، ويتناقض ثانيا مع هدف العلم الذي ينطلق من المعلوم لكشف المجهول وليس العكس .
2-أ- نقيض الاطروحة : وبخلاف ذلك ، يرى انصار الالية ان التفسير الغائي ليس مشروعا من الناحية العلمية ، حيث لا يمكن فهم الظواهر الحية الا اذا فسرناه بما هو معلوم ، أي بردها الى قوانين الفيزياء والكيمياء ، واعتبار الظاهرة الحية ظاهرة جامدة تعمل بصورة آلية وتخضع لمبدا الحتمية .
وهذا يعني ان العضو اسبق من الوظيفة ، فالطائر يطير لأن له جناحان والانسان يبصر لأن له عينان .. وان التوافق بين العضو والوظيفة تــمّ " صدفة " ، فالعضو مر بمراحل من التطور ولم صادف الوظيفة التي يقوم بها توقف عن التطور .
2-ب- الحجة : وما يؤكد ذلك ، أنه من الناحية الكيميائية أن المادة الحية تعتمد على نفس العناصر التي تتكون منها المادة الجامدة ، فالأكسجين يدخل في تركيب الجسم بنسبة 70% والكربون بنسبة 18% والهيدروجين بنسبة 10% وكذا الازوت والكالسيوم والفسفور بنسب متفاوتة .. ومادام الامر كذلك يمكن تفسيرها بنفس القوانين التي نفسر بها المادة الجامدة .
ثم ان عمليتي التنفس والهضم ليسا الا تفاعلين كيميائيين لا يختلفان عن التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل المختبر.
ومن الناحية الفيزيائية ، يمكن تطبيق قوانين الفيزياء على الظواهر الحية ، من ذلك مثلا قوانين الميكانيك بالنسبة الى القلب ، فهذا الاخير لا يختلف في عمله اثناء الدورة الدموية الصغرى والكبرى عن محرك السيارة .
كما ينطبق مبدا الحتمية على الظواهر الحية بنفس الصورة الصارمة التي ينطبق بها على المادة الجامدة ، من ذلك مثلا انتظام الحرارة في الجسم الذي يتم آليا مهما اختلفت الظروف المناخية ، فعندما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي يفرز الجسم شحنة من مادة الادرينالين في الدم فتنشط عملية التأكسد وترتفع حرارة العضوية ، ويحدث العكس بصفة آلية عندما ترتفع حرارة المحيط الخارجي . كما نجد الارتباط الآلي بين مختلف الوظائف ، ففي الهضم مثلا نجد سلسلة من الوظائف تبدا بوظيفة الاسنان ثم وظيفة اللعاب ثم وظيفة الإنزيمات او خمائر الهضم الى ان تتحول المادة الغذائية الى سائل .
2-جـ- النقد : في الحقيقة ليس صحيحا ان المادة الحية مماثلة للمادة الجامدة من حيث التركيب كما يزعم الآليون ، فمن بين 92 عنصرا تتكون منها المادة الحية تختلف عن المادة الجامدة في 14 عنصرا ، ولو كانتا متماثلتان لأمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الحية بنفس السهولة التي تم تطبيقه على المادة الجامدة ، لكن ذلك صادفته صعوبات وعوائق تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية .
كما نجد في موقف الآليين تناقضا ، ففي الوقت الذي يدعون فيه الى استبعاد التفسير الغائي باعتباره يتناقض مع روح العلم ، نجدهم يفسرون التوافق بين تركيب العضو ووظيفته بـ " الصدفة " ، والتفسير بالصدفة لا يقبله العلم ويرفضه العقل ، لأن الصدفة – كما قال بوانكاري – مقياس جهلنا .
3- التركيب : ان التفسير الغائي تفرضه طبيعة الكائن الحي ، ذلك لأن الظواهر الحية يسود اجزائها نوع من التكامل يظهر في صورة فكرة موجهة او غاية محددة ، وهي في ذات الوقت يمكن ان تنطبق عليها قوانين الفيزياء والكيمياء على غرار المادة الجامدة ، لذلك فالتفسير الغائي والالي كليهما ضروريان لفهم النشاط الحيوي .
حل المشكلة: وهكذا يتضح ، أن التفسير الغائي مشروعا متى بقي الباحث في اطار الظواهر الملاحَظَة ، ولم يتجاوز الى طلب اسبابها الميتافيزيقية .
--
بالتوفيق و النجاح ان شاء الله