[frame="8 10"]نحن جميعاً في أمس الحاجة إلى جمالات الحَبيب صلى الله عليه وسلم، وفي منتهى الشوق لبلوغها لتمام صورته وجمال تربيته الأخلاقية، فهو الذي ربَّاه مولاه، لم يربه أب ولا أم، ولا مدارسة في كتاب، ولا دراسة في معهد أو جامعة، ولا مجالسة لذوي وجاهة وجاه
وإنما كما قال صلى الله عليه وسلم مجيباً لخير رفيق وهو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما قال: يا رسول الله لقد طفت بلاد الشام وبلاد العجم وبلاد اليمن ولم أر مثل أدبك، فمن أدبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ أَدَّبَنِي وَأَحْسَنَ أَدَبِي، ثُمَّ أَمَرَنِي بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ}{1}
فالله فصَّل في قرآنه الأدب الذي يحبه من خلقه لينالوا قربه ورضاه، وبيَّن ذلك لحَبيبه ومُصطفاه صلوات ربي وتسليماته عليه، فقام بذلك، ونشَّأ نفسه على ذلك، وصار مثالاً كريماً طيباً لكل ذلك، ولمَّا وجد الله منه ذلك أثنى عليه ومدحه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم4
مدحه الله وأثنى عليه لحُسن تأدبه بكتاب الله، وصيرورته على الأدب الذي اختاره الله للمقربين في كتاب الله، فصار صلى الله عليه وسلم هو المثال الحي الناطق بحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله لكتاب الله. فهو كتاب الله المتحرك، وهو كتاب الله الظاهر بالمظاهر، ليتخلق به المقربون، وليتحقق بأوصافه المحبون، فينالوا ما نال، ويصلوا إلى غاية منتهى ما وصل إليه عند الله.
وبيَّن الله لأهل الكمال أصل هذه الأوصاف، وسر هذه الخلال التي بثَّها في كتاب الله، وكان عليها حَبيب الله ومُصطفاه، فقال عز شأنه في القراءة القرآنية الأخرى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقِ عَظِيمٍ}
(خُلُقِ) مضاف، و (عَظِيم) مضاف إليه، أي أنت على خُلُق العظيم، والعظيم هو الله عز وجل، أي أنت على أخلاق الله
فأصل هذه الأخلاق التي في كتاب الله هي أخلاق الله، التي جعلها نبراساً للصادقين والصالحين من عباد الله، بها يبلغوا أعلى مقامات قربه ورضاه جل في علاه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم محبباً في هذا المنهاج الكريم، ومُلمعاً إلى هذا المقام العظيم: {إن للـه مائة وبضعة عشر خلقاً من أتى بواحد منها دخل الجنة}{2}
قيل: " ويتعين على المؤمن التخلق بأخلاق الله تعالى والتعلق بأسمائه وصفاته "
ولذا كان أهل المقامات العالية من الأولياء والصديقين والشهداء والصالحين هم الذين بزُّوا وانفردوا في التخلق بأخلاق سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. وانظر في دواوين المقربين، وفي سِيَر الصالحين، تجد هذه الحقيقة رأى العين:
هذا الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهم أراد نفر من حُسَّاده أن يمتحنوا جمال أخلاقه: فأوعزوا إلى رجل سفيه أن يتبعه ويمشي وراءه يسبه ويشتمه، فمشى الرجل وراءه يسبه ويشتمه حتى وصل إلى قريب من منزله، وإذا بالإمام علي زين العابدين يلتفت إليه وقال له: يا هذا إن كان بقي عندك شيء فهاته حتى لا يسمعك الصغار فيُسمعونك ما تكره، فأُخزي الرجل، وكان الحاقدون والحاسدون يتَّبعونه، فقالوا: ما هذا؟ فقال رضي الله عنه:
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيبا
وهذه أخلاق الحسين، وهذه أخلاق عبد الله بن العباس ابن عم الحسين، وهي أخلاق النبي الأمي الذي علَّمه الله ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما.
تبع رجل عبد الله بن العباس وآذاه بقوله، فلما وصل قريباً من منزله نادى على خادمه وقال له: يبدوا أن هذا الرجل له حاجة فاقضي له حاجته، وأعطي له كذا – مبلغاً ضخماً من المال – وقال له: يا أخي خذ هذا فإن هذا ما معنا، وإن كان لا يفي بحاجتك، وإن كان معنا أكثر من هذا أعطيناك جزاء ما فعلت معنا. فما كان من الرجل إلا أن ظهر عليه الخزي، وظهر عليه الذل، لأن هذه معاملة الكرام الذين يقول الله في وصف إمامهم صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة: {وَلا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا}{3}
والحديث في هذا المجال عن الصالحين لا يسعنا الوقت فيه وإن جلسنا إلى مطلع الفجر، لأن هذا ميدانهم، وهذا مضمارهم في السباق إلى القرب من ربهم. وإياك أن تظن أن مضمار السباق هو العبادات: لكن مضمار السباق هو: الأخلاق على قدم سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، والتي هي منبعها وأصلها كتاب الله، وحقيقتها التخلق بأخلاق الله جل في علاه.
والله وصف نبيه وأخلاقه في كتابه، حتى لم يُبق وصفاً لواصف:
كل ما نحتاجه أن نحاول أن نأخذ ملمحاً في آية وصفها بها ربه، أو فهماً في عبارة أثنى عليه به ربه، ولن نصل إلى منتهى الفهم، ولن نصل إلى غاية المراد في الآية، لكن كلٌ يأخذ على قدره بما شرح الله به صدره.
وما أخذ الأولون والمعاصرون ومن بعدهم إلى يوم الدين من بحار العلوم الإلهية التي أفاضها الله على قلب سيد الأنبياء والمرسلين إلا قدر نقطة صغيرة من محيط الله الأعظم الذي لا يحيط به الأولون ولا الآخرون، فلا يقول أحد: أنا بلغت الغاية في هذا الميدان، أو ما قلته في هذا الأمر لم يقله أحد من الأولين والآخرين.
الإمام ابن الفارض رضي الله عنه كان يتغنى دوماً في حب الله، وفي الثناء على مولاه، وفي مناجاة الله، فلما مات رآه أحد أحبابه في المنام وقال: يا سيدي لِمَ لم تمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في نظمك؟ والنظم هو الشعر الحكمي وهو غير الشعر العام، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً}{4}
فقال له الشيخ ابن الفارض:
أرى كل مدحٍ في النبيِ مقـصَّرا وإن بالغ المُثنِي عليه وأكثرا
إذا اللهُ أثنى بالذي هو أهله عليه فما مقدار ما تمدح الورى؟
إذا كان الله أثنى عليه، فمن يستطيع أن يقارب ثناء الله؟ حاشا لله، ولذلك كان الإمام أبو العزائم رضي الله عنه عندما يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبين على قدري بما شرح الله صدري. أما كمالات هذا الدري المنير الممنوحة من العلي الوهاب ففوق الإدراك والتصوير، وما أنا حتى أبين قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول:
على قدري أصوغ لك المديحا ومدحك صاغه ربي صريحا
ومن أنا يا إمام الرسل حتى أوفي قدرك السامي شروحا
ولكني أحبك ملء قلبي فأسعد بالوصال فتىً جريحا
فلا يوجد من الأولين ولا الآخرين إلى يوم الدين من يستطيع أن يوفي بعض قدر سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وإنما نطوف طوفاً على قدر الوقت، وما يسمح به الله للحاضرين على آيات كتاب الله تعالى التي تتحدث عن أخلاق سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
انظر إلى تأديب الله لحَبيبه صلى الله عليه وسلم، مرة يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{199} وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{200} الأعراف
ومرة يقول: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}المائدة13
ومرة يقول: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}الحجر85
كل هذه التوجيهات – وما أكثرها في آيات كتاب الله – تدلك على الغايات العظيمة التي منحها الله لحَبيبه ومُصطفاه، لتفقه أن الأخلاق الإلهية منحة ذاتية من رب البرية لمن اختاره من أهل الخصوصية، لا تحتاج إلى مدارس للتعليم، ولا مناهج للإتباع، وإنما حب صادق لله، وإخلاص القصد في وجه الله، بسِّر ذلك تُفاض هذه المنح عليك من حضرة الله.
ولذلك يقول الإمام الجنيد رضي الله عنه: "إنما قال الله لحبيبه ومصطفاه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} لأنه لم يكن له همة إلا في الله" فسر بلوغ المرتبة أنه لم يكن له همة إلا في الله، ولا نية إلا في وجه الله، ولا قصد إلا في رضاه، ولا يرجوا من الكونين سواه، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يقول ولا يفعل إلا طلباً لوجه الله، بسر ذلك أفاض الله عليه أوصافه الإلهية، وخصاله الربانية، لأنه لا يريد بذلك إلا وجه الله جل في علاه.
لكن الذي يتخلق بهذه الأخلاق يرجوا شيئاً من الخلق أو من الدنيا الفانية فهذا تصنع وتكلف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أَلا وَإِنِّي بَرِئٌ مِنَ التَّكَلُّفِ}{5}
{1} أدب الإملاء والاستملاء لابن السمعاني عن عبد الله بن مسعود {2} الأول فى الإحياءو تعريف الأحياء بفضائل الإحياء والثانى تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي وعون المعبود فى شرح سنن أبى داود {3} صحيح ابن حبان والحاكم في المستدرك {4} سنن ابن ماجة والبيهقي عن أُبي بن كعب الأنصاري {5} تاريخ دمشق لابن عساكر، والسابع من فوائد البحيري عن الزبير بن أبي هالة
[/frame]