{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}
[5-6التكاثر]
من يتعلم علم اليقين؛ يرى جهنم في المعاصي، وقد يصل الأمر إلى أن بعض الناس يرون الخلائق على هيئتهم الباطنية، فنحن جميعاً مثل بعض ظاهرياً، ولكن الصورة الداخلية: يظهر فيها حقيقة الإنسان، ونيَّته، ولبُّه. فهناك أناس يعيشون في الدنيا ، وكل همهم الإقبال على شهوة الطعام والشراب، وهؤلاء يقول عنهم الله: {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [12محمد]
وهناك أناس ليس لهم همٌّ في الدنيا إلا شهوة الفرج، ويقول عنهم الله: {أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. [179 الأعراف]
فالذي عنده يقين؛ يمنعه هذا اليقين عن معصية الله عزَّ وجلَّ .
إذاً ما الذي يمنع الإنسان من المعاصي؟ لا يوجد شئ إلا حجاب العلم الإلهي، وحاجز النور الرباني الذي ينزل في القلب، ويمنعه من هذه المعاصي، ويريه هذه الطاعات ، ويعرِّفه أنها رياض الجنَّات ، فيرى المجلس الذي نحن فيه الآن ، ليس مجلس علم فقط ولكنه روضة من رياض الجنَّة، وهذه حقيقة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: {إذَا مَرَرْتُمْ برِيَاضِ الْجَنَّةِ فارْتَعُوا ، قالُوا وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قالَ حِلَقُ الذِّكْرِ}، وفى رواية: {مجالِسُ العِلْمِ}{1}
فالإنسان الذي يرى هذه المجالس روضة من رياض الجنة، ماذا يفعل؟ يجري ويسارع إلى هذه المجالس لطاعة الله عزَّ وجلَّ، ويرى هذه المشاهد - وهي كثيرة وكثيرة - يراها العارفون والواصلون والمتحققون بعد صفاء اليقين، وبعد عمارة قلوبهم بنور ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ، حتى أنك تسمع أن بعضهم يرى الشخص ويعرف إن كان جُنُباً أو طاهراً؟، ويقول له: قم واغتسل، ويرى الشخص ويعرف إن كان عاقاً لوالديه؟، أو باراً بهما؟، ويرى آخر ويعرف إن كان صادقاً؟، أو كذاباً؟، أو مغتاباً .... الخ.
يعرف هذا كله عندما ينظر في وجه الشخص الذي أمامه؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} [273البقرة]
وهذا في الأنبياء والمرسلين، وفي المقربين بعدهم إلي يوم الساعة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [75الحجر]
فهم الذين يرون بنور الله الأشياء الخفيَّة الموجودة في صدور ورؤوس عباد الله.
وهذه الحالات إذا تمكن فيها المرء: يرى في هذه اللحظات الصادقين والمرسلين والنبيين، لأنه قد بدأ يمشي على الطريق الصحيح الموصل إلي الله، يأتونه ليعلِّموه ويوصِّلوه ويبشِّروه؛ فكلما ينام، أو إذا قوى في عالم المثال، يرى نفسه مع نبيِّ من أنبياء الله، يتكلم معه، ويأخذ منه شيئاَ مما أعطاه له الله عزَّ وجلَّ.
فدائماً عندما ينام يجد نفسه مع فرد من الأفـراد الوارثين، أو مع ولى من المقربين، أو مع صدِّيق من الصديقين، فهو إذن ينام مع الأرواح النورانية؛ فيساعدوه، ويغذُّوه، ويعضدوه، ويبشروه؛ لكي لا تفتر عزيمته، ولا يكلّ ولا يملّ، ويظلّ في الإتجاه الصحيح إلي الله عزَّ وجلَّ. فإذا أكرمه الله عزَّ وجلَّ بالرؤية الصالحة: أصبح فيه قبساَ من نور القلوب، قال صلوات ربى و تسليماته عليه: {الرُؤْيَا الْصَالِحِةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ}{2}
فيكون فيه جزء من النبوَّة يدفعه إلي بقية الأجزاء، و بالتالي يعرج إلي الله، والمعارج إلي الله هي نفس المعارج التي عرج عليها رسول الله، ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [1 الإسراء]
فلو قال بنبيِّه أو برسوله، لكان الباب بالنسبة لنا مغلقاً، ولكنه تعــالى قال: {بِعَبْدِهِ}؛ أي أن كل شخص أصبح فيه صفات العبودية الكاملة لله يعرج بروحه إلي الله عزَّ وجلَّ، والفارق بينه وبين رسول الله هو أن الشخص العادي يعرج بروحه، أمَّا النبي فكان معراجه بالروح والجسد معاً، وفي سبيل عروجه إلي الله يمرُّ بسبع طرائق، وهي التي أشار إليها رسول الله بالسموات السبع.
ففي السماء الأولى كان سيدنا آدم، وفي الثانية شاهد سيدنا عيسى، وفي الثالثة إدريس، وفي الرابعة شاهد سيدنا يوسف، وفي الخامسة سيدنا هارون، وفي السادسة سيدنا موسى، وفي السابعة شاهد سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وبعد ذلك وجد البيت المعمور؛ وهي السبع مراحل التي يمرُّ بها السالك حتى يكون قلبه بيتاً معموراً بأنوار الله وبأسماء الله وبجمالاته عزَّ وجلَّ.
فلما يُمَتَّع بالرؤيا المنامية والتزكية الروحية من الأنبياء و المرسلين؛ يخرج من طور الآدمية وصفاتها التي تنازعه لكي يتجمَّل بالجمال الروحاني، فلا يحرمه الله من شئ، بل يقول له خذ ما تريده، ولكن كما أريد أنا وليس كما تريد لنفسك.
فإذا أخذ كلَّ ما أُمِرَ وفق شرع الله، ومتأسياَ فيه بفعل النبي؛ أصبح يمشي على الصراط المستقيم، وعلى النهج القويم، فإذا أكرمه الله عزَّ وجلَّ واستطاع بنور البصيرة أن يخرج من صفاته الآدمية؛ مثل الغضب، الجهل، المنازعة .. الخ، ويتجمَّل بالصفات المحمَّدية، ويرقى عن رتبة الآدمية؛ فيحييه الله كما أحيى ( يحيى ) الحياة الإيمانية الروحانية، السليمة، ويُلْقى عليه روحاً من عنده، كما ألقى على عيسى عليه السلام: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [15غافر]
يُلقى عليه الله روحاَ من عنده؛ فيجعل حياته كلها روحانية نورانية، ويبدأ في مقام المدارسة؛ ليس للكتب ولكن للإشراقات الإلهية والعلوم الربانية في الكائنات، لأن الله عزَّ وجلَّ أودع في الكائنات من العلوم والكنوز ما يحتار فيه العقلاء والعلماء؛ ولكنه لا يبيحه إلا لمن صفت قلوبهم، وطهرت نفوسهم، وأصبحت قلوبهم مشرقة بنور الله عزَّ وجلَّ .
وبعد أن يدرس الآثار الكونية، والأسرار الربانية، والعلوم الوهبية ؛ يتجلى الله عليه بجمال روحاني، كالجمال اليوسفي الذي متّع به يوسف، فكل من يراه يحبُّه، وكل من تقع عينه عليه يريد أن يجالسه ويأتنس به، ويكون معنياً بقول الرسول صلى الله عليه وسلَّم: {إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِني أُحِبُّ فُلاَنَاً فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ فُلاَنَاً فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ}{3}
{1} رواه الإمام أحمد فى مسنده ، و الترمذى فى سننه عن أنس بن مالك ، وفى مجمع الزوائد وجامع المسانيد عن ابن عباس، وفى الترغيب والترهيب عن أبى هريرة وفيها: (المساجد).
{2} رواه أحمد وابن حبان والدرامي والحاكم ، عن رواة عدة منهم عبد الله بن عمر وابن عباس رَضِيَ الله عنهم - وفى بعض الروايات: «جُزْءٌ منْ أَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ »، وفى سنن أبى داود عن ابنِ عَبَّاسٍ: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم قال: ياأيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا المُسْلِمُ أوْ تُرَى لَهُ).
{3} جامع المسانيد و المراسيل عن أبى هريرة رضِيَ الله عنه، وتمامه: (وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدَاً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِني أُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضْهُ، فَيَبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبغْضَاءُ فِي الأَرْضِ)، ورواه ابن أبى شيبة وأحمد و الطبرانى عن أبى أمامة رضِيَ الله عنه.