امرأة من أهل الجنة
إن المتأمِّل لما كتبناه سابقًا من مقالات أين نحن من أطفال السلف؟!، تحاصره تساؤلاتٌ شتى عن تلك النماذج المضيئة، التي أثْرَت تراثنا الأخلاقي، ويأخذه شغفٌ كبير لمعرفة أي بطونٍ حملت بتلك النماذج الفريدة، التي أهدت للإنسانية قِيَمًا نبيلة، وتُلح عليه رغبة عارمة لمعرفة أي بيوتٍ أخرجت هؤلاء العظام رغم حداثتهم، وأي أمهاتٍ أرضعنهم الصلاحَ والتقوى قبل اللبن، ويجد المتأمل لذلك الفرقَ الشاسع بين ما كُنَّ عليه، وما هو كائنٌ من كثيراتٍ من أمهات اليوم.
إن تاريخنا الإسلامي مليءٌ بقصص نساء يَعجِز عن أفعالهن -للأسف- كثيرٌ من رجالات اليوم! وليس هذا مجال حديثنا؛ ولكن غايتنا الآن الإبحار في سيرة هؤلاء النسوة، وساعتها لن نجد غرابةً ولا دهشةً من معرفة لماذا تميز أطفال السلف؟، ولماذا تعثَّر أطفال الخلف؟.
ولنبدأ رحلتنا مع امرأة من أهل الجنة شاهدَها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم!
إنها امرأة من أهل الجنة تمشي على الأرض.
يا ألله! فما أروع أن يُبشر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إنسانًا بالجنة، فيعيش مطمئنًّا أنه حين يلاقى ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون، سيكون مأواه جنة عرضُها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين!
إنها إحدى نساء الأنصار، بايعت رسول الله فأوفت البيعة، إنها من أوائل من أدرك وأقر أنه "لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" على وجه البسيطة، إنها صحابية جليلة، قد لا يعرفها ولا يعرف قدْرَها الكثيرون على الرغم مما في سيرتها من عبرةٍ وقدوة.
إنها امرأة تركت زوجها من أجل الإسلام!
أسلمَتْ كغيرها من السابقين عندما سمعت عن دين الحق في يثرب قبل هجرة الرسول، وكان من أوائل من وقف في وجهها زوجها مالكٌ، الذي غضب وثار عندما رجع من سفره وعلم بإسلامها، ولما سمع مالك بن النضر زوجته تُردد بعزيمة أقوى من الصخر: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله"، خرج من البيت غاضبًا؛ بل خرج من المدينة كلها؛ لأنها أصبحت أرض إسلام لا مكان لكافر مثله بها، ومات بالشام، ضحت هذه المؤمنة بحياتها الزوجية، وبزوجها، وولدها الوحيد "أنس"؛ من أجل دينها وثباتها على مبدئها، ولم تتردد أو تتراجع!
حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كانت الأنصار ومن كان فيها من المهاجرين مشغولين باستقبال النبي -صلى الله عليه وسلم- فرحين مستبشرين بمقدَمِه صلى الله عليه وسلم فأقبلت الأفواج لزيارته صلى الله عليه وسلم فخرجت من بين هذه الجموع، ومعها ابنها أنس رضي الله عنهما فقالت: يا رسول الله، إنه لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار، إلا وقد أتحفتك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخذه فليخدُمْك ما بدا لك.
فكان ولدها هذا هو أنس بن مالك الذي اشتهر بخادم رسول الله، الذي لازم الرسول، وتعلم على يده، وروى عنه من الحديث الكثيرَ.
تقدم لخطبتها بعد وفاة زوجها الأول أبو طلحة زيد بن سهل، وكان لا يزال مشركًا، وعرض عليها مهرًا كبيرًا، فترده؛ لأنها لا تتزوج مشركًا تقول: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركًا، أمَا تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها آل فلان، وأنكم لو أشعلتم فيها نارًا لاحترقت؟ فعندما عاود لخطبتها قالت: "يا أبا طلحة، ما مثلك يُرَدُّ، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم، فذاك مهري، لا أسأل غيره".
فانطلق أبو طلحة يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم ويتشهد بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فتزوجت منه؛ وهكذا دخل أبو طلحة الإسلام، وحسُن إسلامه على يد زوجته تلك الصحابية الرائعة.
خرج زوجها أبو طلحة، وترك ولده وولدها مريضًا، فمات الولد في غياب والده، وعندما عاد أبو طلحة سأل عن ابنه المريض، لم تخبره بوفاته! بل تزيَّنت، وقدَّمت له العَشاء، ونال منها ما ينال الرجل من امرأته، وبعدها أخبرتْه بوفاة فِلْذَة كبدها وكبده، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتَهم أهل بيت، فطلبوا عاريتَهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسِب ابنك!
فغضب، وعجب كيف تُمَكِّنه من نفسها، وولدُها ميت؟! وخرج يشكوها لأهلها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبله النبي باسمًا، وقال: "لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا"[1]. فحملت بولدها عبد الله بن أبي طلحة من كبار التابعين، وكان له عشرة بنين كلُّهم قد ختم القرآن، وكلهم حمل منه العلم!
جاهَدَتْ مع الرسول في غزواته، ففي صحيح مسلم وابن سعد في الطبقات بسند صحيح أن أم سليم اتخذت خَنجرًا يوم حُنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر. فقالت: يا رسول الله، إن دنا مني مشرك بَقَرْتُ به بطنه! ويقول أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى"[2].
قال رسول الله عنها: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذِهِ الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ"[3].
وقال صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ، امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ"[4].
لنرى كيف كانت تضحيتها بزوجها وولدها في سبيل إسلامها، ولنرى حجم تقصيرنا، ولنجبر عيوبنا، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، فهل نحن فاعلون؟!
المصدر: الألوكة
[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، (1239).
[2] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة النساء مع الرجال، (1810).
[3] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أم سليم أم أنس بن مالك وبلال رضي الله عنهما، (2456).
[4] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه، (3476).
منقول