معركة مؤاب
وصل يزيد بن أبي سفيان إلى تبوك في أواخر عام 12هـ، في الوقت الذي نزل فيه شرحبيل بن حسنة في بصرى، وأبو عبيدة في الجابية، وكان هرقل قد جهز قوة عسكرية قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة سرجيوس قائد منطقة غزة، وأرسلها إلى وادي عربة في فلسطين لحصار المسلمين المتقدمين باتجاه الشمال من الخلف، وقطع خطوط إمداداتهم مع المدينة.
كان من المفروض أن يتصدى خالد بن سعيد لهذه القوة، وقد أمره أبو بكر بأن يتقدم في تيماء دون أن يقتحم حتى لا يؤتى من خلفه، غير أن خالدًا توغل أكثر مما سُمح له، حتى إنه سبق جيش أبي عبيدة المرابط في الجابية، فبلغ مرج الصفر في ضواحي دمشق.
علم يزيد بتقدم جيش سرجيوس وهو في البلقاء، في مكان يقع شرقي البحر الميت، ثم شاهد طلائعه، فاصطدم به في مؤاب وتغلب عليه، وانسحب البيزنطيون في جو الهزيمة القاتم إلى داثن إحدى قرى غزة، حيث أعاد سرجيوس تنظيم صفوف قواته ليستأنف القتال [1].
كانت مؤاب أول مدينة بيزنطية في بلاد الشام تسقط في أيدي المسلمين، والواضح أنه كان من المجازفة أن يقوم هؤلاء بنشاطات عسكرية كبرى إلى الغرب من وادي عربة دون فتح هذه المدينة، إذ أمن هذا الفتح المركز المسيطر عسكريًا على المنطقة الواقعة جنوبي وادي الموجب، أو نهر أرنون، وسمح للمسلمين القيام بنشاطات عسكرية في وادي عربة، ثم في داثن، بعد أن أضحى جناحهم الشمالي محميًا، وأزاح كل الحواجز العسكرية الجدية من طريقهم حيث أضحى الانتشار في ربوع فلسطين يتم وفق إرادتهم.
وقد أدى بذل الحد الأدنى من الضغط في اللحظة الحرجة والمكان الصحيح إلى انتصار المسلمين مع تكبدهم الحد الأدنى من الخسائر، ويتحمل سرجيوس الذي ربما استخف بقوة المسلمين المسئولية، حيث كان استعداده العسكري غير واضح، ودخل المعركة بشكل عشوائي، وبدا واضحًا بعد اختراق المسلمين لجنوبي فلسطين أنه لم يكن ثمة خطة بيزنطية مدروسة ومتماسكة للدفاع عن بلاد الشام، وما اتخذه هرقل بعد ذلك من إجراءات لتجنب الكارثة، جاءت متسرعة، ولم تحل دون وقوعها.
معركة داثن
تحصن سرجيوس في داثن وخاض المعركة الثانية ضد المسلمين، فخسرها، وخسر حياته حيث قتل في المبارزة التي جرت بينه وبين ربيعة بن عامر، وذلك في "24 ذي الحجة 12هـ/ 1 مارس 634م".
عززت معركة داثن النجاح الذي حققه المسلمون إلى مدى أبعد شرقًا، وفي منطقة مختلفة، وخلفت الخسارة البيزنطية صدى قويًا تراوح بين الفرح الذي عم السكان اليهود بخاصة الذين عدوا انتصار المسلمين فاتحة زوال السيطرة البيزنطية، وبين الأسى الذي عم الدوائر الحاكمة في القسطنطينية، وبعض القبائل العربية في بلاد الشام، وتمثل هذه المعركة -إلى جانب الهدف الديني الأسمى للمسلمين- المقاومة الإسلامية للمحاولات البيزنطية لتضييق الخناق الاقتصادي عليهم، من واقع فرض السيطرة على المناطق الحدودية، والتحكم بمرور القوافل التجارية، بعد أن استعاد هؤلاء سيطرتهم على سواحل البحر الأحمر. وتابع يزيد زحفه بعد انتصاره، فاجتاز حوران، وغوطة دمشق حتى وصل إلى أبواب مدينة دمشق، وتمركز حولها، ومنع حاميتها من الاتصال بالقيادة المركزية في أنطاكية، ثم اتصل ببقية الجيوش الإسلامية [2].
معركة مرج الصفر
رأى هرقل أن يضرب أولًا جيش خالد بن يزيد الزاحف باتجاه مرج الصفر، فاستنفر العرب المتنصرة مثل بهراء، وكلب، وسليح، وتنوخ ولخم، وجذام، وغسان، فتوافدوا وعسكروا في مكان قريب من آبل (بالأردن الآن)، وزيزاء والقسطل (بالبلقاء من الشام) بقيادة باهان، فاصطدم بهم خالد بن سعيد بعد أن استأذن أبا بكر، وانتصر عليهم، وفر باهان مع من تبقى من جنوده من ساحة المعركة [3].
كتب خالد بن سعيد بأنباء الانتصار إلى أبي بكر، وطلب منه إرسال المزيد من الإمدادات، فاستجاب لطلبه، ثم تسرع خالد فشق طريقه إلى مرج الصفر متجاوزًا القواعد العسكرية الضرورية للزحف، وبخاصة إرسال الطلائع لاستكشاف المنطقة، ورصد وجود تحركات العدو، مما أعطى الفرصة لباهان الذي كان يراقب تحركاته لمهاجمته، وعندما وصل إلى مرج الصفر بين الواقوصة ودمشق، قطع عليه خط الرجعة دون أن يشعر، ثم التف حول الجيش الإسلامي وفاجأه، فلاذ خالد بن سعيد بالفرار تاركًا جيشه تحت رحمة البيزنطيين، لكن عكرمة بن أبي جهل نجح في إعادة تنظيم صفوفه، وانسحب من ميدان المعركة، وعسكر على مقربة من الشام، وجرت المعركة في "4 محرم 13هـ/ 11 مارس 634م" [4].
وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى مسامع أبي بكر، فكتب إلى خالد بن سعيد، الذي وصف خالد بأنه قائد غير كفوء، يعنفه، ويتهمه بالجبن، والفرار طلبًا للنجاة، وأمره بأن يظل في مكانه.
الخطة البيزنطية لوقف الزحف الإسلامي
وضع هرقل خطة عسكرية لمواجهة المسلمين على أثر انتشارهم في أجزاء من بلاد الشام، تقوم على الأسس التالية:
- ضرب الجيوش الإسلامية منفردة.
- يتراجع البيزنطيون وفق خطة تكتيكية، ويتخلون للمسلمين عن مناطق الحدود الشمالية للجزيرة العربية.
- تتجمع وحدات الجيش الأول في فلسطين بعد تعزيزها، بقيادة تيودور أخي هرقل لمواجهة جيش عمرو بن العاص.
- تتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بقيادة وردان أمير حمص.
- يزحف الجيش الثاني من أنطاكية إلى حمص، ويباشر القتال مع كل جيش من الجيوش الإسلامية الثلاثة الأول والثاني والثالث بكشل منفرد، بحيث يستدرج كل جيش منها إلى القتال على حدة، فيهزمه ثم يميل إلى الآخر، وهكذا إلى أن ينتهي منها جميعًا، مستخدمًا أسلوب "المناورة بالخطوط الداخلية".
وبناء على ذلك، تراجع البيزنطيون بسرعة من أمام المسلمين متخلين عن الأراضي المتاخمة لحدود الجزيرة العربية، ثم استجمعوا قواهم في أنطاكية وفلسطين استعدادًا للتصدي للمسلمين، وهكذا نشأت أمام المسلمين حالة جديدة لم يكونوا يتوقعونها.
الخطة الإسلامية المقابلة
ازداد الموقف العسكري وضوحًا بعد استعدادات البيزنطيين وحشدهم الجند. ووقف القادة المسلمون في بلاد الشام على هذه التعبئة البيزنطية، فتشاوروا فيما بينهم، واستقر الرأي على اقتراح قدمه عمرو بن العاص ويقضي باجتماع الجيوش الإسلامية في مكان واحد، وقضت الخطة:
- بالجلاء بأقصى سرعة ممكنة عن المناطق التي فتحوها في الداخل، إذ المهم في الحرب ليس السيطرة على العواصم والبلدان، بل القضاء على جيوش العدو وسحق مقاومتها.
- بالتراجع حتى جوار بصرى، مع تجنب الاشتباك بالعدو، والدخول معه في معركة غير متكافئة، على أن يتم تنظيم المرحلة التالية من العمليات فيما بعد.
تنفيذًا لهذه الخطة سار أبو عبيدة بن الجراح باتجاه بصرى، وجلا يزيد عن الغوطة، ورفع الحصار عن دمشق، ثم جلا شرحبيل بن حسنة رافعًا الحصار عن بصرى، واجتمعت الجيوش الثلاثة في جوار بصرى في حين أخذ عمرو بن العاص ينسحب تدريجيًا بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن ليتصل بزملائه.
بعد تنفيذ إجراءات التراجع والتجمع في جوار بصرى، كتب أبو عبيدة رسالة إلى أبي بكر يعلمه بقرار القادة ويطلب موافقته عليه، وفعلًا وافق أبو بكر على هذا القرار، وأدرك في الوقت نفسه حرج موقف المسلمين على الجبهة الشامية، وأنهم بحاجة إلى قيادة عسكرية فذة تخرجهم من هذا الوضع الحرج، وجدها في خالد بن الوليد الذي انتشرت أخبار انتصاراته على الفرس في العراق، فاستشار أصحابه، فوافقوه.
والواقع أن المسلمين في العراق حققوا هدفهم الآني، وهو السيطرة على إقليم الحيرة وغربي الفرات، وأزاحوا نفوذ القبائل النصرانية عن الفرات الأوسط، وبفعل ضعف رد الفعل الفارسي تجاه هذا التوسع بسبب النزاعات الداخلية، كان لا بد من ***** جبهة بلاد الشام، وبخاصة أن الجيوش الإسلامية هناك لم تحرز تقدمًا يذكر، وظلت تتمركز في مواقعها الأساسية عند حافة الصحراء على الرغم من أن التهديد الخطير الذي يمكن أن تشكله الفرق العسكرية البيزنطية في المنطقة لم يكن يتسم بالرجحان الشديد، واحتاج المسلمون إلى قوات إضافية للتوسع في مناطق المدن، وتمثل هذه الأفكار الخلفية لاستدعاء خالد بشطر الجيش، انطلاقًا من النظرة الصحيحة.
استدعاء خالد بن الوليد إلى الجبهة الشامية
كتب أبو بكر رسالة إلى خالد بن الوليد وهو في العراق يأمره بالتوجه إلى بلاد الشام، جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، أما بعد، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فإذا جاءك كتابي هذا فدع العراق، وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففًا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة، وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة, والسلام عليك"، وفي رواية: "إني قد وليتك على جيوش المسلمين، وأمرتك بقتال الروم، وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله، وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده" [5].
يتضمن الكتاب توجيهات الخليفة بوصفه القائد العام للجيوش الإسلامية، فقد حدد لقائده الهدف، وبيَّن له العناصر الضرورية للوصول إليه، ومنها: المكان الجغرافي، الإمكانات والموارد التي يمكن توفيرها، التحرك السريع، تولي قيادة الجيوش الإسلامية في بلاد الشام، محاربة البيزنطيين حتى النصر، إلا أنه ترك له حرية اختيار الطريق الذي سيسلكه، وأسلوب قتال عدوه؛ مبرهنًا عن بعد نظر في الشئون العسكرية.
انتقال خالد بن الوليد من العراق إلى بلاد الشام
كان خالد في الحيرة عندما تلقى أمر الخليفة بالتوجه إلى بلاد الشام؛ لنجدة الجيوش الإسلامية المرابطة هناك، وكان قد أنشأ لنفسه موقعًا ثابتًا موطد الأركان -نسبيًا- في غربي الفرات، لكنه لم يكن ينطوي منذ البداية على الرغبة في فتح إقليم لنفسه، والاستقرار فيه، ولا بد للعمليات العسكرية المتوقعة في بلاد الشام أن تكون موضع ترحيب منه، من واقع كونها تحديًا لكفاءته العسكرية؛ لذلك أطاع الأمر فورًا.
قسم خالد بن الوليد قبل مغادرته العراق جيشه إلى قسمين، اصطحب معه تسعة آلاف، وهم الذين قدموا معه يوم جاء إلى العراق، وترك ثمانية آلاف بقيادة المثنى بن حارثة، وهم الذين كانوا معه في العراق [6]. وكان عليه أن يتحرك بسرعة ليقطع المسافة بين الحيرة في العراق، وبصرى في بلاد الشام بأقل مما يمكن من الوقت، والمعروف أن المسافة بينهما لا تقل عن ستمائة ميل، واختار طريق عين التمر - قراقر - سوى - أرك -تدمر- القريتين -الغوطة- بصرى.
ويتميز هذا الطريق بأنه خال من قلاع الفرس والبيزنطيين ومسالحهم، ويصل بسالكه إلى بصرى دون أن يتعرض لهجمات العدو، لكنه يمر بمفازة قاحلة طويلة تحتاج إلى مسيرة خمسة أيام بلياليها، لا ماء فيها ولا كلأ، وتنتشر عليها بعد "سوى" قبائل متحالفة مع البيزنطيين، وبعد اجتيازها مغامرة قد تكون مميتة إن لم ينتصر من يغامر فيها على سراب رمال الصحراء وعلى عطشها ولهيب شمسها خمسة أيام متتالية، إنه طريق خطر على الرغم من قصر مسافته.
خرج خالد من الحيرة في "8 صفر 13هـ/ 14 إبريل 634م"، وأرسل رسالة عامة إلى المسلمين في بلاد الشام يخبرهم بأمر الخليفة بنجدتهم، ورسالة خاصة إلى أبي عبيدة يخبره بأمر الخليفة تعيينه قائدًا عامًا لجيوش المسلمين في هذه البلاد. كان أبو عبيدة في الجابية حين أتاه عمرو بن الطفيل مبعوث خالد بالرسالتين، فقرأ على المسلمين الرسالة الأولى، واحتفظ لنفسه بالرسالة الثانية، وعلق عليها قائلًا: "بارك الله خليفة رسول الله فيما رأى، وحيَّا خالدًا بالسلام" [7].
اجتاز خالد مع قواته المفازة بمعاونة الدليل رافع بن عميرة الطائي، فكان يسير في الليل مهتديًا بكوكب الصبح ويستريح في النهار، ولتأمين الماء للحملة خصص خالد -بناء على اقتراح رافع- عددًا من الإبل السمان، فأعطشها أيامًا، ثم أوردها الماء حتى امتلأت أجوافها، ثم قطع مشافرها حتى لا تجتر، كما اصطحب كل جندي معه معدات المياه المنفردة، فكان كلما نزل مكانًا للراحة ينحر عشرًا من تلك الإبل، ثم يشق بطونها، ويأخذ ما فيها من الماء فيروي الخيل منه، ويطعم أفراد الجيش من لحومها، ويرتوي هؤلاء مما حملوا من الماء على ظهور الإبل، ثم يتابع سيره إلى أن أشرفت المفازة على نهايتها، وأشرفت الإبل على النفاذ، كما نفذ الماء المحمول على ظهورها، وأضحى الجيش عرضة للهلاك عطشًا، وكان فجر اليوم الخامس حين بلغ الجيش موقع سوى، فخشي خالد أن يهلك أفراده عطشًا، فنادى رافعًا، وسأله عن الماء فطمأنه قائلًا: "خير، أدركتم الري، وأنتم على الماء"، ودلهم على بئر ماء مطمور، فحفروا ونبع الماء، فشرب الجند والإبل والخيل، واستراح أفراد الجيش برهة في سوى، ثم تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى تدمر، وصالح أهل مصيخ بهراء وأرك خالدًا، بعد أن اصطدم بهم [8].
تجنب خالد حين حاذى إقليم الجزيرة الفراتية أن يصطدم بالبيزنطيين الذين كانوا يحتلونه، واجتهد، حين أشرف على بلاد الشام، وأراد أن يتوغل فيها؛ ألا يترك خلفه مواقع قائمة للبيزنطيين، أو لحلفائهم من العرب، فإن الشام غير الجزيرة.
فتح تدمر
كانت تدمر من المراكز العسكرية المحصنة، فحاصرها المسلمون من كل جانب، وقد تحصن بها أهلها، فهددهم خالد، وقد أصر على فتحها، ويبدو أنهم أدركوا حرج موقفهم في ظل غياب الدعم البيزنطي، فمالوا إلى طلب الصلح، وفتحوا أبواب مدينتهم للمسلمين.
فتح القريتين وحوارين
واصل المسلمون سيرهم حتى وصلوا إلى القريتين (من أعمال حمص)، فاعترضهم أهلها، وجرى اشتباك بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، ثم مروا بحوارين، فتحصن أهلها وراء أسوارهم، وطلبوا مساعدة عاجلة من المدن والقرى المجاورة، فجاءهم جيشان الأول من بعلبك، والثاني من بصرى، يبلغ عددهما أكثر من أربعة آلاف مقاتل، لكن المسلمين اصطدموا بهما قبل أن يصلا وشتتوهما، واضطر أهالي حوارين (من قرى حلب) إلى قبول الصلح [9].
في الاتجاه إلى غوطة دمشق
توجه المسلمون بعد حوارين باتجاه الجنوب قاصدين غوطة دمشق، فاعترضتهم قبيلة غسان بقيادة الحارث بن الأيهم، وجرى اشتباك بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، وتراجعت غسان إلى حصون دمشق، وواصل المسلمون تقدمهم حتى بلغوا الثنية، ووقفوا على التل المعروف بهذا الاسم، ونشروا عليه الراية السوداء المسماة بالعقاب وهي راية النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا سمي المكان بثنية العقاب. وأغاروا على بعض قرى الغوطة، وعسكروا أمام الباب الشرقي لدمشق على دير صليبا، وفي رواية أن خالدًا عسكر على باب الجابية الغربي، وأجرى مباحثات مع أسقف المدينة، وعامل هرقل منصور بن سرجون أسفرت عن معاهدة صلح.
وكتب خالد كتاب الصلح "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطي خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانًا على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء والمؤمنين، لا يفرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية"، والواضح أن دمشق لم تكن هدف خالد الآني، إنما أراد أن يحمي مؤخرة جيشه عندما يستأنف الزحف باتجاه الجنوب.
واجتاز المسلمون الغوطة من الشمال إلى الجنوب حتى وصلوا إلى قناة بصرى، وكانت لا تزال بأيدي البيزنطيين، وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد، فاجتمعت الجيوش الإسلامية الأربعة أمامها، ويذكر بأن خالدًا قطع المسافة بين الحيرة وبصرى في ثمانية عشر يومًا [10].
فتح بصرى
في ظل هذه الظروف، ومع تنامي خطر الاصطدام مع البيزنطيين، حاول خالد أن يأخذ زمام المبادرة في الوقت الذي كان فيه عمرو بن العاص يتراجع بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن، يرهقه جيش تيودور، ووجد خالد نفسه أمام خيارين:
الأول: تجميع الجيوش الإسلامية الأربعة في بصرى بعد الإيعاز إلى عمرو بن العاص بالإسراع نحوهم، والانضمام إليهم، ثم انتظار جيش أنطاكية البيزنطي الزاحف باتجاه الجنوب بقيادة وردان حاكم حمص، والاشتباك معه في ذلك المكان.
الثاني: الإسراع لنجدة عمرو بن العاص، والاشتباك مع جيش تيودور، حتى إذا فرغوا منه عادوا ليقاتلوا جيش أنطاكية، بعد أن يكونوا قد ضمنوا مؤخرتهم، ووطدوا أقدامهم في فلسطين.
وتقرر اعتماد الخيار الثاني، وهو الأخطر والأصعب، وترتب على هذا الاختيار فتح بصرى أولًا للانطلاق منها نحو الهدف، لذلك شدد المسلمون الحصار عليها، وأجبروا أهلها على طلب الصلح، فكانت أول مدينة فتحت صلحًا في بلاد الشام، وأول جزية وقعت في هذا البلد في عهد أبي بكر، وفقًا لرواية البلاذري [11].
معركة أجنادين
ارتد عمرو بن العاص نحو أجنادين الواقعة بين الرملة وبيت جبرين، وتوقف فيها ينتظر وصول جيش تيودور الذي كان يتقدم نحوه متمهلًا، وهو مطمئن إلى قوته وضعف عدوه، فوصل أيضًا إلى هذه البلدة، وانضم إليه نصارى العرب وأهل الشام، آملين أن ينالوا نهائيًا من المسلمين، ويخرجوهم من فلسطين، وكان مثل هذا العمل سيؤدي إلى إحراج المسلمين المنتشرين في المناطق الواقعة شرقي البحر الميت ونهر الأردن، ووضعهم في موضع مكشوف على نحو ينذر بالخطر، إذ كانت القوى الإسلامية بعيدة عنهم، ولعل وردان الذي تشير إليه بعض الروايات على أنه كان القائد العسكري في حمص، كان أيضًا في القيادة.
عقد خالد بن الوليد مجلسًا عسكريًا عندما علم بزحف البيزنطيين تقرر فيه تجميع القوى الإسلامية، والصمود في أجنادين، وجرى اللقاء في هذه البلدة يوم السبت في "27 جمادى الأول 13هـ/ 30 يوليو 634م"، دارت فيه الدائرة على القوات البيزنطية [12].
كانت معركة أجنادين مكشوفة، وأدت إلى جعل البيزنطيين أقل حماسة عما كانوا عليه من قبل لمجابهة المسلمين في الأماكن المكشوفة، والواقع أن الخوف كان يسبق القتال المكشوف، وقد نال المسلمون حرية نسبية مكنتهم من فتح معظم المدن دون مقاومة، وشل حركة المواصلات بين المدن. واضطرت القيادة البيزنطية إلى تغيير خططها العسكرية، بالاعتماد على المدن المحصنة كقواعد حماية لجنودها، والانطلاق لمناوشة المسلمين مع تجنب خوض معارك مكشوفة، مما قلص حركية القوى البيزنطية، وجعل المبادرة بيد المسلمين، إذ إن توزيع القوى في مدن مستقلة حال دون التعاون فيما بينها حيث شغلت كل مدينة بالدفاع عن نفسها، وأضعف قدرتها على مجابهة خصومها، وخلقت في نفوس سكانها عقلية دفاعية، ومع ذلك فقد كانت هزيلة مما يسر للمسلمين فتحها. وكان هرقل قد جمع سكان دمشق، وأمرهم أن يقفلوا الأبواب إقفالًا وثيقًا، وأن يأتمروا بأمر القائد الذي سيعينه عليهم، وشجعهم على الاهتمام بالدفاع عن أنفسهم.
بعد أجنادين
اختلف الرواة والمؤرخون حول ما حصل بعد أجنادين، ويقول الطبري في ذلك: "ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل هذا الاختلاف الذي ذكرته في وقته لقرب بعض ذلك من بعض"، ويمثل التاريخ الحولي للأحداث التي سوف أتحدث عنها إحدى المشكلات، التي لم يجر التوصل إلى حل لها في تاريخ صدر الإسلام، والروايات الواردة عند المؤرخين المسلمين متناقضة فيما بينها، وسوف انتهج خلال هذا البحث الترتيب الذي أراه أقرب إلى الصحة، والواقع من خلال النقد التاريخي للمصادر كلما أمكن ذلك.
يروي الأزدي أن خالدًا سار بالمسلمين بعد أجنادين إلى دمشق، وذكر المدائني وسيف أنه بعد أجنادين كانت اليرموك ثم دمشق وفحل معًا، في حين تذكر روايات كثيرة أخرىأنه بعد أجنادين كانت فحل بالأردن، غير أن منطق الأحداث من خلال ترجيح الروايات التي أوردها الأزدي بفعل أنها أوثق بصفة عامة، كما أنها مقبولة، يحملنا على الاعتقاد بأن المسلمين قصدوا دمشق بعد أن انتهوا من معركة أجنادين [13].
الاصطدام في مرج الصفر
توجه المسلمون إلى دمشق بعد أن فرغوا من أجنادين عبر الجولان، ولما وصلوا إليها ضربوا عليها حصارًا مركزًا، فعكسر خالد تجاه دير صليبا، والذي عرف فيما بعد بدير خالد، وهو على مسافة ميل من الباب الشرقي، وعسكر أبو عبيدة على باب الجابية في حين نزل يزيد على جانب آخر من دمشق، ولم يشترك جيش شرحبيل في الحصار، ويبدو أنه بقي في الجنوب لحماية مؤخرة المسلمين.
كان هرقل لا يزال يحشد قواته، ويدفعها لقتال المسلمين، فأرسل جيشًا بلغ تعداده خمسة آلاف مقاتل بقيادة درنجار (رتبة عسكرية لقائد خمسة آلاف، وليست اسمًا لشخص) لمساعدة أهل دمشق، وانضم إليه عدد كبير من حامية حمص، فاضطر المسلمون أن يخففوا الضغط عن دمشق، وساروا نحو مرج الصفر لاعتراض القوة البيزنطية التي لا بد وأن تمر من هذا المكان للوصول إلى المدينة، وجرى قتال بين الطرفين في "17 جمادى الآخرة 13هـ/ 18 أغسطس 634م"، أسفر عن انتصار المسلمين، فقتلوا عددًا كبيرًا من البيزنطيين، وفر من نجا من المعركة في كل اتجاه.
عاد المسلمون بعد انتهاء المعركة إلى دمشق، فنزل خالد على الباب الشرقي، وأبو عبيدة أمام باب الجابية، ويزيد على بعض أبوابها، وعمرو بن العاص على باب آخر، وجاءهم وهم على هذا الحال، نعي الخليفة أبي بكر الذي توفي مساء الثلاثاء في "21 جمادى الآخرة 13هـ/ 22 أغسطس 634م"، وعزل خالد عن قيادة جيوش الشام، وتعيين أبي عبيدة بدلًا منه [14]، لكن أبا عبيدة أخَّر إشاعة نبأ العزل؛ لأن المسلمين كانوا في صدد تحضير فتح دمشق، ولم يشأ أن يحدث هذا التبديل أي بلبلة في صفوف الجيش الإسلامي، ولهذا كان هناك نوع من الأزدواجية في الإمارة على الجيش لدى محاولة فتح دمشق.
[1] البلاذري: ص117، الطبري: ج3 ص406. وكانت مؤاب تشكل نقطة تجمع، وشكلت في الماضي خط الدفاع الروماني المتأخر في أطراف فلسطين الرومانية.
[2] البلاذري: ص117، الطبري: ج3 ص406.
[3] الطبري: ج3 ص388-391.
[4] الطبري: ج3 ص390، 391، ابن عساكر: ج2 ص104، كمال: ص229.
[5] الواقدي: ص24، 25
[6] يذكر الطبري أن خالدًا قدم على المسلمين في تسعة آلاف، ج3 ص394، وقارن بالبلاذري الذي يذكر ثلاثة أرقام هي ثمانمائة وستمائة وخمسمائة، ص118.كمال: ص323، 324.
[7] الأزدي: ص71، الواقدي: ج1 ص25. قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق، ياقوت: معجم البلدان، ج4 ص317. سوى: اسم ماء لبهراء من ناحية السماوة، ياقوت: ج3 ص271. أرك: مدينة صغيرة في طرف برية حلب قرب تدمر، وهي ذات نخل وزيتون، ياقوت: ج1 ص153.
[8] البلاذري: ص118، 119. الطبري: ج3 ص409، 410، ابن عساكر: ج2 ص87، 88.
[9] البلاذري: ص119.
[10] البلاذري: ص119، الطبري: ج3 ص410، 411، 417.
[11] فتوح البلدان: ص120.
[12] الطبري: ج3 ص418، وقارن بالبلاذري ص121، يذكر الواقدي أن عدد جنود الروم بأجنادين كان تسعين ألفًا، ج1 ص66، ابن عساكر: ج2 ص98، 99.
[13] تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص442، 434، 435. فتوح الشام: ص94.
[14] البلاذري: ص125. تاريخ خليفة بن خياط: ص65. الطبري: ج3 ص419، 420، ص434، 435.