في ظل هذا التخوف أصدر حزب الشعب أوامره لمناضليه بالتظاهر بمناسبة عيد أول ماي* وهذه المظاهرات أظهرت بسالة واستعداد المناضلون للتضحية ، وشملت كل التراب الوطني مما دعى حركة أحباب البيان والحرية إلى دعوة مناضلي الحركة بالقيام بمظاهرات أخرى في الثامن ماي(3) تذكيرا لفرنسا والحلفاء بالوعد الذي أعطوه في حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة (1) بمناسبة الانتصار النهائي على النازية ، ورفعوا اللافتات كتب عليها " تحيا الجزائر " " أطلقوا سراح مصالي الحاج " " تحيا الجزائر المستقلة " . (2)
ووضعت يوم 8ماي 1945م وكان أشدها وأهمها حجما وخسائرا في القطاع القسنطيني وتطورت إلى أن أصبحت ثورة عارمة . (3)
فبالنسبة للجزائريين حانت ساعة التعبير عن المشاعر الوطنية وعن تعلقهم بالحرية وهذا النوع من التعبير كاف وحده في تفجير الموقف ، لأن الفرنسيون لا يتقبلونه خاصة وأنهم كانوا يتربصون بالجزائريين منذ مدة طويلة وكانوا ينتظرون بشوق ساعة انتقامهم من الجزائريين . (4)
إن مظاهر العنف الأولى جاءت من الشرطة لأنها أرادت أن تتعرض لنشر الروايات التي تدعو ّإلى الاستقلال وسقوط الاستعمار وإطلاق سراح مصالي الحاج ، وقد بذلت الشرطة كل ما في وسعها لكي لا تقع الاستعراضات برفع الأعلام الجزائرية ، ووقعت مشادات عنيفة في كل التراب الجزائري . (5)
كان أول ضحية على يد أحد رجال الشرطة وهو الشاب سعال بوزيد في سطيف الذي كان يحمل العلم الوطني بعد أن أصر على الاحتفاظ به في وسط هتفات المتظاهرين
(6) أدى هذا العمل إلى انفجار الجماهير الجزائرية التي أقبلت متظاهرة معبرة عن فرحتها وانقلب الفرح إلى مأتم حيث هاجمت الشرطة المتظاهرين ومعها الأوروبيون المدنيون ولم يجد الجزائريون من وسيلة للدفاع عن أنفسهم إلا الالتجاء إلى العصي وإلى أي سلاح عثروا عليه .(7)
وفي هذه الأثناء ازداد القمع حيث طورد المسلمون من المدن وتجمع الأوروبيون إزاء الخطر العربي ، وانهمكت قوات الشرطة في الأعمال الانتقامية من المسلمين ، وجاء الجيش الفرنسي لنجدة الشرطة ، وكانت البحرية والطيران في حالة انتظار لتدخلا في العمليات ضد الجزائريين ، فكانت العودة إلى وسائل الحرب التي استخدمها بيجو.*(1)
نتائج مجازر 8 ماي 1945 م :
كانت تلك الحوادث دامية ومأسوية ، ففي هذا الصدد يقول شارل أندري جوليان في كتابه " إفريقيا الشمالية تسير " " لقد كان القمع ضاريا لا يرحم ، وفي الحقيقة خال من الإنسانية لأنه كان فاقدا للتمييز ...." وقال صحافي أخر " أبدا .... في الحقيقة ........ منذ عام 1942 م ومنذ المارشال سانت أرنو لم تعرف الجزائر حتى في أيامها السوداء في تاريخها قمعا أكثر ضراوة ضد شعب لا يملك وسائل الدفاع في الطرقات ، في الدروب ، في الحقول ، في الشعاب ، في الأودية ، ليس هناك إلا جثث مبقورة ...هنا وهناك قرى بكاملها سحقت ، مبادئ الإنسانية ، انهارت تحت الرصاصات القاتلة . (2)
كان عدد الضحايا كبيرا جدا ، فقد قدم نحو 45 ألف.
ألف ميت اعتبرهم التاريخ الجزائري من بين الشهداء الأوائل وألقي القبض على حوالي6000 جزائري وحكم على 99 منهم بالإعدام (نفذ منها 22) و64 بالأشغال الشاقة الأبدية والآخرون بمئات السنين سجنا .
هذه الحوادث وهذه الحصيلة بينت للشعب الجزائري الوجه الحقيقي للاستعمار الذي صمم بأن لا يسمح بأي تعبير سياسي يرمي إلى إعادة السيادة الجزائرية وإلى استقلال الجزائر(3) عندما اكتشف الاستعمار أن الشعب الجزائري نبذ سياسة الإصلاحات الجزئية ، وسياسة الإدماج وبدأ يقترب من أنصاره فكرة الاستقلال ، الذين اقتنعوا بدورهم بضرورة اللجوء إلى الكفاح المسلح كسبيل وحيد لاستعادة حرية الجزائر واستقلالها .(4)
الحركة السياسية بعد 8ماي 1945 :
إضافةإلى ما سبق أسفرت حوادث 8 ماي على انهيار الوحدة الوطنية التي عاشتها البلاد في " حركة أحباب البيان والحرية" ، فحزب الشعب الجزائري بقيادته ومناضليه تأكد بعد حوادث 8 ماي بأن الحرية تؤخذ ولا تعطى وأن فرنسا غير مستعدة للتنازل عن الجزائر مهما كانت الظروف حتى لو اقتضاها ذلك تجنيد وتجميع قواتها العسكرية الموزعة في المستعمرات الأخرى ومع تأكيداته وجد الحزب نفسه مترددا يتأرجح بين مواصلة العمل السري الذي نشأ عليه منذ حله عام 1939م ، وبين النزول إلى الميدان علانية ككل الأحزاب الشرعية التي مكنها غطاءها الشرعي من التحرك في نطاق واسع.(1)
أما فرحات عباس وأنصاره ممن كانوا لا يؤمنون بالعنف ويعتبرون المطالبة بالاستقلال التام نوع من التهور فقد اعتبروا حوادث 8 ماي 1945 مغامرة قامت بها عناصر من حزب الشعب الجزائري ، اتخذتها الإدارة الفرنسية ذريعة لضرب الحركة الوطنية ولحل حركة أحباب البيان والحرية وعليه لا يمكن التمادي في العمل جنبا إلى جنب مع مناضلي حزب الشعب الجزائري داخل حركة واحدة ،واستخلص عباس من حوادث 8ماي بأن التطرف لا يجدي ولا يساعد الجزائريون في الحصول على حقوقهم والمجالس الشرعية الفرنسية أو المؤسسات الفرنسية هي أفضل وسيلة لعرض القضية الجزائرية وللدفاع عنها .
بينما عادت جمعية العلماء المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية وبعد حوادث 8 ماي إلى نشاطها برئاسة جديدة تولاها الشيخ البشير الإبراهيمي وقد ركزت نشاطها على تأسيس شبكة واسعة من المدارس الحرة في القرى والمدن والمداشر *، وعلى بناء المساجد الحرة التي عرفت إقبالا شعبيا ، وتوجت نشاطها الثقافي والديني بتأسيس معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة في عام 1949م .(2) أما الحزب الشيوعي الجزائري pcf فقد مر بعدة مراحل
أولا كان يحاول إيجاد أرضية جزائرية مع المحافظة بارتباطه مع الحزب الشيوعي الفرنسي pcf ولم يتمكن من ذلك إلا بعد اشتراكه في المؤتمر الإسلامي سنة 1936م الذي ساعده على الاحتكاك بالأوساط الشعبية ، فهو الحزب الوحيد الذي لم يندمج مع أحباب البيان والحرية والوحيد الذي كان مدافعا عن القمع الفرنسي خلال حوادث 8ماي 1945م ،ولذلك ابتعد عن الساحة الشعبية .(3)
إذن كخلاصة فإن حوادث 8ماي 1945م كانت بمثابة نقطة تحول ايجابية في تاريخ الحركة الوطنية بصفة عامة وحزب الشعب الجزائري بصفة خاصة.(1)فأحداث 8ماي من هذا المنطلق شأنها شأن الأعمال العظيمة والتحولات العميقة في حياة الشعوب ،كانت مفاجئة في اندلاعها ،محدودة في مجالها الجغرافي ،وبعدها الزمني لكن خطيرة في نتائجها بعيدة الأثر في التطورات التي ترتبت عنها مما جعلها في ذاكرة التاريخ ،مهدت لعهد جديد وبداية ملحمة خالدة في تاريخ الشعب الجزائري كان الفاتح من نوفمبر 1954 م منطلقا لها .(2)
إذن فمجازر 8ماي جعلت الشعب يبقى مجندا في سبيل انتصار مطامحه الوطنية ،كما انطلقت الحركة على أسس جديدة على عكس ما كان يتوقعه المستعمر بأنه بتلك المجازر قضى على الحركة الوطنية .
لذلك تعد حوادث 8 ماي 1945م الحد الفاصل بين ما كان يفكر فيه بعض الجزائريين في الحركة الوطنية من أمل نيل الاستقلال بطرق الكفاح السياسي والدبلوماسي والبعض أمنوا بأن أسلوب الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للاستقلال.(3)
العيد العالمي للعمال ، خلالها أستشهد شخصيات بالعاصمة وجرح 23 شخص .*
الرؤية : تحولات الأحزاب وتطورها بعد مجازر 8 ماي 1945 م ، السنة الأولى ، العدد الأول ، جانفي /فيفري 1996م . (3)
.الرؤية : تحولات الأحزاب وتطورها بعد مجازر 8 ماي 45 ، العينة الأولى، العدد الأول، جانفي 1996، ص (1)
عمار بوحوش : المرجع السابق ، ص 240 (2)
الجيلالي صاري ، محفوظ قداش :المرجع السابق ، ص 79 . (3)
محمد الطيب العلوي : المرجع السابق ، ص 207 . (4)
(5) الجيلالي صاري ، محفوظ قداش : نفسه ، ص 79 .
(6) ناصر الدين سعيدوني : " أحداث 8 ماي 1945م " ذكرى تضحيات جسيمة وعبرة كفاح مرير ، الذاكرة ، العدد الثاني ، ربيع 1995م ، المتحف الوطني للمجاهد .
محمد الطيب العلوي : المرجع السابق ، ص 207 . (7)
* تخريب وإحراق المشانئ ملاجئ الثوار ، وقنبلة القرى ليل نهار ، وقام الطيران – حسب جنرال فرنسي – في ظرف 15 يوم بعشرين غارة وتدخلت البحرية أمام شواطئ بجاية وجيجل ودكت ناحية خراطة كلها .
الجيلالي صاري ، محفوظ قداش : المرجع السابق ، ص 81 .(1)
محمد الطيب العلوي : المرجع السابق ، ص ، 208-209 .(2)
(3) الجيلالي صاري ، محفوظ قداش : المرجع السابق ، ص 81. 82 .
(4) سعيد بورنان : المرجع السابق ، ص 36 .
(1) محمد الطيب العلوي : المرجع السابق ، ص 241 .
* بلغت المؤسسات التعليمية ( جمعية العلماء المسلمين في عام 1949م أكثر من 420 مدرسة حرة في مختلف مناطق البلاد ) .
(2) محمد الطيب العلوي : نفسه ، ص 214- 216 .
(3) محمد الطيب العلوي : نفسه ، ص216 . 217 .
(1) الرؤية ، تحولات الأحزاب ، المرجع السابق ، ص 65 .
(2) ناصر الدين سعيد وني : ذكرى تضحيات جسيمة وعبرة كفاح مريرة ، المرجع السابق .
(3) يوسف مناصرية : القمع الدموي في 8ماي 1945م ونتائجه السياسية والاجتماعية ، الذاكرة ، المرجع السابق .
__________________
منقول