نكبة البرامكة في الخلافة العباسية
لقد أعطى الرشيد البرامكة سلطات واسعة، وأفسح لهم المجال في تسيير أمور الدولة، لكن البرامكة لم يحسوا إستعمال هذه السلطة، فضربوا على يد الرشيد وأسند والمناصب الهامة إلى الإتباع والأعوان والأنصار، كما أن شهرتهم فاقت شهرة الرشيد وتضاءل نفوذه مقارنة بنفوذهم، لكن هذا الوضع لم يستمر.
المبحث الأول : أثر وفاة الخيزران في إضمحلال نفوذ البرامكة وسلطتهم
لقد كان أوج عز البرامكة في حياة الخيزران أم هارون الرشيد ، فلما توفيت سنة 173هـ فقد البرامكة بوفاتها حليفا هاما، وتجلى ذلك بإسترداد الرشيد خاتمه منهم وسلمه إلى عدوهم الفضل بن الربيع قائلا له "وحق المهدي، أني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها" [1].
وفي سنة 179هـ عزل محمد بن خالد بن برمك من حجابته وقلدها الفضل بن الربيع، وفي سنة 183هـ صرف الفضل بن يحي عن الأعمال التي كان يتقلدها بخراسان وإستبدل مكانه بعلي بن عيسى بن ماهان الفارسي أحد ألد أعداء البرامكة [2].
هذا وقد عمل الرشيد على سحب مهمة الإشراف على الحرس من جعفر وتقليده لهرثمة بن أعين [3].
وقد فقد الرشيد ثقته يحي التي أولاه إياه حين آلت إليه الخلافة، وشعر يحي بإعراض الرشيد عنه، فشاور صديقا له من الهاشميين في أمره فقال له " إن أمير المؤمنين قد أحب جمع المال، وقد كثر ولده، فأحب أن يعقد لهم الضياع، وقد كثر على أصحابك عنده، فلو نظرت إلى ما في أيديهم من ضياع وأموال، فجعلتها لولد أمير المؤمنين وتقربت بها إليه، رجوت لك السلامة ولهم في ذلك من مكروهه، فقال يحي :" يا أخي ، جعلني الله فداك، لأن تزول عن النعمة أحب إلي من أزيلها عن قوم كنت سببا لهم" [4].
كما شعر البرامكة بتغير الرشيد عليهم، حيث يروي أن يحي بن خالد دخل مرة على الرشيد بغير إذن كعادته، وسلم فرد عليه الرشيد في فتور وإعراض، ثم إلتفت إلى أحد الجالسين ، وإسمه جبريل وقال له :" يا جبريل يدخل عليك وأنت في منزل أحد بلا إذنك ! فقال :" ولا يطمع في ذلك " فقال الرشيد :" فما بالنا يدخل علينا بلا إذن " ! فقام يحي وقال :" يا أمير المؤمنين، قد مني الله قبلك، والله ما إبتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء، كان أمير المؤمنين ، خصني به ورفع به ذكري ، حتى أني كنت لأدخل وهو في فراشه، مجردا حينا وحينا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذا قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة، وإن أمرني سيدي بذلك".
ولم يلبث الرشيد بعد هذه الحادثة أن أمر غلمانه بالإعراض عن يحي بن خالد وعن البرامكة جميعا[5].
ومن كل ما تقدم يتضح لنا أن نكبة البرامكة لم تكن أمرا مفاجئا وإنما سبقتها مقدمات مهدت لوقوعها، وفي ذلك يقول الأستاذ الخضري :" أن نكبة البرامكة ليست حادثة فجائية بل حادثة تقدمتها أسباب طويلة أنتج بعضها عن بعض " [6].
المبحث الثاني : أسباب نكبة الرشيد للبرامكة
إختلف المؤرخون وأصحاب السير والأنساب في العوامل والأسباب التي دفعت هارون الرشيد إلـى نكبة البرامكة في سنة 187هـ[7]، فيقول إبن كثير :" وقد إختلف في سبب ذلك على أقوال "[8]،ويقول الذهبي: " لقد إختلف في سبب مصرع جعفر "[9]، ويقول إبن وادران :" وقد إختلف في السبب الحامل للرشيد على ذلك إختلافا كثيرا " [10]، ويقول أيضا إبن الجوزي :" فأما سبب غضبه على جعفر الذي قتله لأجله فقد إختلف فيه، وفي سبب تغيره على البرامكة "[11]، كــما يقول الطبري في تاريخه :" أما سبب غضبه عليه جعفر الذي قتله عنده فإنه مختلف فيه "[12] ،ويقول الحنبلي :" وسبب قتله –جعفر – أمور إنضم بعضها إلى بعض " [13].
وعليه فإن نكبة البرامكة نتجت عن أٍسباب متنوعة متشابكة يمكن إجمالها فيما يلي :
1/ السبب السياسي :
لقد أظهر البرامكة ميولا سياسية خطرة على سلامة الدولة من خلال إطلاق يحي بن عبد الله بن الحسين العلوي، الذي خرج على الرشيد في بلاد الديلم، فبعث إليه الفضل بن يحي تحت خمسين ألف مقاتل، كما طلب يحي بن عبد الله من الفضل بن يحي أمانا بخط الرشيد، وكان ذلك ولما قدم يحي تلقاه الرشيد بحفاوة، وما لبث أن نقض الأمان الذي أعطاه يحي بن عبد الله وإستفتى في ذلك الفقهاء، ثم سلمة لجعفر بن يحي البرمكي فأطلقه [14].
وفي ذلك يقول الطبري :
" وذلك أن الرشيد دفع يحي إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي ، فسأله عن شيء من أمره، فأجابه أن قال :" إتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد صلى الله عليه وسلم فو الله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا "، فرق عليه،وقال له :" إذهب حيث شئت من بلاد الله ، قال " وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل، فأرد إليك أو إلى غيرك ؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر فوجده حقا، وإنكشفت عنده، فدخل على الرشيد وأخبره ، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال : وما أنت وهذا لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري إنكسر الفضل وجاءه جعفر فدعا بالغذاء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال : ما فعل يحي بن عبد الله؟ قال : بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال ، قال : بحياتي ؟ فأحجم جعفر، وكان من أدق الخلق ذهنا وأصفاهم فكرا، فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، وقال لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته، وعلمت أنه خيانة به ولا مكروه عنده، قال : نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي، فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد أن يتوارى عن وجهه، ثم قال : قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك، فكان من أمره ما كان "[15].
ويقول الدوري نقلا عن الطبري عند إيراده هذه الرواية :" ذكر أبو محمد اليزيدي، وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم " من قال أن الرشيد قتل جعفر بن يحي بغير سبب يحي بن إبن عبد الله بن الحسين فلا تصدفه "[16].
وهذه الروايات تبين كيف أن الفضل بن الربيع كان يراقب حركات جعفر عن طريق عيون من خدمه، فكانت بذلك هذه الحادثة وشاية بالبرامكة في أخص صفات الوزراء وهي الوفاء لملوكهم، مما جعل الرشيد يشك في وفاءهم وإخلاصهم له وللدولة، وتيقن من أن البرامكة يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهي تهمة أشد من تهمة الزندقة عند المهدي وهي التهمة التي إستعملها الربيع بن يونس والد الفضل ضد أبي عبيد الله وزير المهدي، وأدت بهذا الأخير بقتل إبن الوزير المذكور بتلك التهمة[17].
كما أن علي بن عيسى بن ماهان إتهم موسى بن يحي البرمكي عند الرشيد في أمر خراسان وأخبره بطاعته أهله ومحبتهم له، وأنه يكاتبهم ويعمل على الإنسلال إليهم، فوقر ذلك في نفس الرشيد وغضب منه حتى أمر بسجن موسى سنة 186هـ، ثم أطلق سراحه بتوسط من أمه، ووعد من يحي بأن لن يقوم إبنه بسوء [18].
2/ السبب المالي :
سيطر البرامكة على أموال الدولة وأنفقوها في وجوه شتى حسب ميولهم وقيدوا الرشيد في هذه الناحية، فيقول إبن خلدون " إنما نكب البرامكة ما كان من إستبدادهم على الدولة، وإجتحافهم أموال الحباية حتى كان يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوا على أمره وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه "[19].
فكان الرشيد وأسرته يطلبون اليسير من المال فلا يتحصلون عليه، فيروي أن الرشيد طلب مرة من جعفر عشرة آلاف درهم فقال له لا توجد عندنا دراهم، مع العلم أن وارد الدولة بلغ في عهد الرشيد 530312000 درهما، ويروى أن الرشيد طلب مرة من يحي مليون درهما، وكان قد ورد من بلاد فارس ستة ملايين درهم، فلم يجب طلبه ثم أخذ يحي منها مليونا ونصفا ووزعها في عماله [20].
وبينما كان البرامكة يقترون على الخليفة، رغم غنى خزائن الدولة بالأموال، نراهم لا يبخلون على أنفسهم بما يحتاجون إليه، فقد إمتلكوا الضياع التي فاقت ضياع الخليفة نفسه، وأسرفوا في العطايا والهبات حتى أوغروا صدر الرشيد ونافسوه في الجاه والأبهة، حيث أن جعفرا بنى دارا أنفق عليها عشرون مليون درهم [21]، فكانت هذه غرامته على دار، فما بالك بنفقاته على الأثاث والرياش والخدم، وما غير ذلك، مما دفع الرشيد يقول :" أن ضياعهم ليست لولدي مثلها وتطيب نفسي لها"[22].
ويقول إبن كثير :" إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر [23].
ويروي أن الرشيد قال لمسرور أن البرامكة " قد نهبوا مالي وذهبوا بخزائني " ويروى أن الرشيد كان يقول :" أغنيناهم (أي البرامكة) وأفقروا أولادنا ولم تكن لأحد من أولادنا ضيعة من ضياع البرامكة"[24].
هذا ويمكن إلتماس ما أخذه البرامكة من أموال الدولة إذا نظرنا إلى واردهم السنوي وإلى عظم الهبات التي وهبوها، فيذكر أن مبلغ جباية البرامكة سنويا بلغت عشرون مليون درهم، ومقدار ما قبضه الرشيد من أموالهم بلغ ثلاثين مليونا وستمائة وستين ألف درهم، بالإضافة إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم فإن ذلك لا يوصف أقله ولا يعرف أيسره.
ويروى أن مسرورا لخادم وجد أكثر أموال البرامكة في شكل ضياع وجواهر، بينما أنفقوا أغلبها في العطايا والهبات والمكارم [25].
وقد وجد في خزانة لجعفر بن يحي في جرة ألف دينار قيمة كل دينار مائة دينار ودينار، وأمر جعفر بأن تضرب له في كل دينار ثلاثمائة دينار، كل هذا وذلك دفع بالرشيد إلى نكبة البرامكة وإستنكاره لتبذير البرامكة لأموال الدولة واستئثارهم بها [26].
3/ تعصب البرامكة للفرس :
لقد أظهر البرامكة ميولا وتعصبا للفارسية وقد تجلى ذلك في مواقف عدة منها تقريب يحي للفضل بن سهل المجوسي من المأمون، وقد قال له مرة " في كل أربعين سنة يحدث رجل يجدد الله به دولة وأنت عندي منهم "[27].
كما كان البرامكة متعصبون وحريصون على التراث الفارسي، ويعملون على الحفاظ على الآثار الساسانية القديمة من معاول الهدم والتخريب لتكون أحد رموز مجدهم حيث يروى أن أبا جعفر المنصور عندما عزم على بناء بغداد وجد أن مواد البناء تكلفه كثيرا من النفقات فعزم على هدم إيوان كسرى، وإستخدام أنقاضه في البناء، وقبل ذلك إستشار أبو جعفر المنصور خالد في ذلك فنهاه عن الهدم فقال المنصور لخالد :" أبيت إلا ميلا إلى العجمية "[28].
كما كان البرامكة يناوؤون من يبدي كرهه للعجم أمثال محمد بن الليث، ومحاولة البرامكة إبعاد العرب عن المناصر الهامة في الدولة تدل على تعصبهم للفرس، ويتجلى ذلك من خلال وشايتهم ضد القائد العربي يزيد بن مزيد الشيباني الذي أرسله الخليفة الرشيد لقتال الوليد بن طريف ورأى يزيد أن يتأنى في ذلك، فأوحى البرامكة إلى الرشيد أن يزيد إنما يتهرب من قتال الوليد لما بينهما من رحم، وبذلك هان يزيد في نظر الرشيد فغضب عليه.
ويذكر أن الفرس إجتمعوا مع يحي بن خالد، وطلبوا منه تأخير النوروز – موعد الجباية في فصل الصيف – نحو الشهرين ليوافق موعد الجباية نضوج الحاصل، كما إعتاده الفرس زمن الساسانيين، فعزم يحي على ذلك، الأمر الذي جعله محل ألسنة أعدائه وقولهم عند بتعصبه للمجوسية [29].
هذه السياسة التي سار فيها البرامكة، نتج عنها تكتلا عربيا ضدهم ولعل أبرز من يمثل هذه الكتلة المعادية لهم هو الفضل بن الربيع بن يونس حاجب الخليفة الذي أوغر قلب الرشيد عليهم، أيضا زبيدة زوج الرشيد، التي كانت هي الأخرى تكن كرها شديدا لهم وخاصة جعفر بن يحي الذي لعب دورا كبيرا في بيعة المأمون بعد إبنها الأمين وكانت بذلك إحدى من حرض الرشيد عليه وإيصاله إلى ما نزل به.
4/ تعاظم نفوذ وسلطان البرامكة :
فاق نفوذ البرامكة نفوذ أي وزير في العصر العباسي، فقد إحتكروا مناصب الدولة الهامة، وأخذوا يقدمونها لأقاربهم وحلفائهم ويقصونها عن خصومهم، وفي ذلك يقول إبن خلدون "وعمّروا مراتب الدولة ووخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم "[30].
وقد كان الرشيد متفطنا لتعاظم نفوذ البرامكة يوما بعد يوم، فقد كانت أخبارهم لا تنقطع عنه بواسطة أعوانه، إذ بدأت مشاعره تتبدل تجاههم شيئا فشيئا ، فأصبح يخشى على مركزه بإعتباره خليفة للمسلمين منهم بعد أن أحكموا سيطرتهم على أجهزة الدولة وأضحى الناس يلهجون بذكرهم ويشيدون بخصال فعالهم، حيث يقول إبن خلدون في ذلك :" وعظمت الدالة منهم وإنبسط الجاه عندهم وإنصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب وقصرت عليهم الآمال " [31] وتتفق أغلب الروايات التاريخية على أن البرامكة ظهر منهم من الإدلال وكثرة الأتباع والأشياع مالا تحتمله نفوس الملوك وقد كان الرشيد يصرح لبعض حاشيته أحيانا عن إستبداد البرامكة بالأمور دونه، وفي ذلك يذكر المؤرخون أن أحد أطباء الرشيد قال " دخلت يوما على الرشيد وهو جالس في قصر الخلد، وكان البرامكة يقيمون في الجهة المقابلة له، وبينهم وبينه عرض دجلة، فلما رأى الرشيد إعتراك الخيول، وإزدحام الناس على باب يحي بن خالد، قال " جزى الله يحي خيرا، تصدى للأمور، وأراحني من الكد ووفر أوقاتي على اللذة، وبعد مضي بسنين دخل عليه الطبيب فقال له الرشيد " إستبد يحي بالأمور دوني فالخلافة على الحقيقة له وليس لي منها إلا إسمها "[32].
بالإضافة إلى ما سبق، فكانت علاقة جعفر بالرشيد تستند إلى العواطف، والتي هي بدورها معرضة للتقلب، وقد أدرك يحي ذلك فشكا إلى الرشيد قائلا " يا أمير المؤمنين، إني أكره مداخل جعفر، وليست آمن أن ترجع العاقبة علي في ذلك منك، فلو أعفيته، وإقتصرت على ما يتولاه من جسيم أعمالك، لكان أحب إلى وأولى بتفضلك وآمن عليه عندي "[33].
5/ إتهام البرامكة بالشعوبية والزندقة والمجوسية :
لقد إصطلح اللغويين على أن الشعوبية تعني شعبا أو شعوبا [34]، وإستنتج بعضهم على أنها تدل على العناصر غير العربية.
وقد أجمع المؤرخون في ظل الدولة الإسلامية على أن الشعوبية فرقة تتعصب ضد العرب وتحتقرهم[35].
ويعرف هولوجودت فرج الشعوبية نقلا عن الجاحظ في رسالته في بني أمية " إن أساسها العصبية التي لا تبقي دينا إلا أفسدته ولا دينا إلا أهلكتها، وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشعوبية "[36].
فلقد عرف البرامكة الناطقين بلسان الشعوبية برعايتهم للشعوبيين من بين جنسهم أمثال علان الشعوبي الفارسي الراوية، الذي كان ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون وللبرامكة، ألف كتاب الميدان في المثالب، الذي هتك فيه العرب وأظهر مثالها، وأيضا سهل بن هارون فارسي الأصل، شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب، وقد كتب في ذلك كتبا ورسائل كثيرة، وقد كان مكلف بخزائن الحكمة وبخدمة المأمون [37].
وقد إتهم الرشيد البرامكة بالمجوسية والزندقة، فلما أمر الرشيد يحي بن خالد بالتقدم في هدم إيوان كسرى نهاه يحي عن هدمه قائلا " لا تهدم بناء دل على فخامة شأن بانيه الذي غلبته وأخذت ملكه، فأجابه الرشيد " هذا من ميلك إلى المجوس، لا بد من هدمه "[38].
ويروى أنهم لم يتمكنوا من إظهار عبادة النار، فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين ينبغي أن تجمر الـمساجد كلها، وأن تكون في كل مسجد مجمرة يوضع عليها الند (الطيب والعود) في كل حال[39].
وتذكر الروايات أن البرامكة قد زينوا للرشيد أن يضع مجمرة في جوف الكعبة يوضع عليها العود، فعلم الرشيد أنهم يريدون جعل الكعبة بيت نار عودة إلى المجوسية ديانتهم السابقة فأوقع بهم [40].
ومـن الأمور التي جعلت البرامكة يتهمون بالزندقة والمجوسية، حبهم للنقاش والجدال في أمور السياسة ، العقيدة والكلام، فيذكر أن مجالسهم كانت حافلة بالكتاب والأدباء والمفكرين والشعراء وأصحاب العقائد والمذاهب المختلفة، كما تشير روايات تاريخية إلى أن جعفر البرمكي كان يسمح للعلويين في خضرته لمناقشة مسائل تتعلق بالنص والإختيار والأحقية في الخلافة، مما كان سببا في إتهامهم بالتشيع للعلويين [41].
ويذكر إبن كثير أنه من أٍسباب إيقاع الرشيد بالبرامكة إظهارهم للزندقة، فيقول " ويقال أن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة " [42].
ويقول إبن الجوزي في ذلك :" بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وإفساد الملك فقتلهم لذلك "[43].
ولكن حديث مسرور في أيام المتوكل ينفي تهمة إعتناق البرامكة للمجوسية وتسترهم بالإسلام وإظهار الزندقة، فعندما سأله عبيد الله بن يحي بن خاقان عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة ؟ أجابه " كأنك تريد ما تقوله العامة فيما إدعوه من أمر المرأة، وأمر المجامر التي إتخذوها للبخور في الكعبة ؟ فقال له " ما أردت غيره " ، فقال " لا والله ما لشيء من هذا أصل ، ولكنه من ملل موالينا وحسدهم " [44].
6/ دور الوشاة والساعين :
إن إستحواذ البرامكة على مناصب الدولة الهامة، وإرتفاع منزلتهم عند الخليفة الرشيد كان يشكل خطرا ماثلا على خصومهم من زعماء الحزب العربي وغيرهم، فأخذوا يوغرون صدر الرشيد عليهم، ويذكرون له إستبدادهم بالملك، وقد لعب الفضل بن الربيع الدور الأكبر، بحكم أنه حاجب الرشيد، وعلى إتصال دائما به، فقد كان لا يفوت أي فرصة دون إن يستغلها لتأليب الرشيد عليهم، فيذكر أن حرض الرشيد على جعفر البرمكي ونسب إليه أنه أهان الخليفة [45].
ويشير المؤرخون إلى أنه كان يصيد في الماء العكر وأنه إنتهز فرصة حادثة تسريح جعفر بن يحي ليحي بن عبد الله العلوي للطعن في إخلاص جعفر للرشيد [46].
وبالإضافة إلى الفضل بن الربيع كان هناك أشخاص عملوا على تغيير الرشيد على البرامكة من بينهم علي بن عيسى الذي وشى بموسى بن يحي البرمكي وإتهمه بالتآمر مع أهل خراسان ضد الخليفة، فضلا عن محمد بن الليث، الذي جاء إلى الرشيد يذكره بواجباته وينوه إلى خطأه المتمثل في تفويض الأمور إلى يحي حيث يقول " إن يحي بن خالد لا يغنى عنك من الله شيئا وقد جعلته فيما بينك وبين الله فكيف أنت إذا وقفت بين يديه فسألك عما عملت في عباده وبلاده، أتراك تحتج بحجة يرضي بها؟" [47].
هذا وقد رفعت رسالة إلى الرشيد لم يعرف رافعها حذر صاحبها فيها من نفوذ البرامكة وعظم سلطتهم وإنذارا له من وثبتهم على السلطان، وأثرت هذه الرسالة على الرشيد [48].
وهكذا جاء خصوم البرامكة من جهة السياسة والدين والدولة حاولوا إثارة شكوك الرشيد في تصرفاتهم، فثار بذلك بركان غضبه عليهم.
7/ مناقشة قصة العباسة :
هناك من المؤرخين من يرجع نكبة البرامكة إلى قصة العباسة أخت الرشيد، وملخص هذه القصة أن الرشيد كانت له أخت تدعى العباسة وكان الرشيد يحب مجالستها، وفي نفس الوقت يحب مجالسة صديقه جعفر البرمكي، ولكي يجمعهما في مجلس واحد بحضوره، رأى عقد زواجا صوريا بينهما، لكن حدث أن وقع إتصال بينهما، فحملت العباسة من جعفر، وأنجبت غلاما، رأت أن ترسله إلى مكة خوفا من الرشيد، وظل الأمر مخفيا حتى إضطرت بعض جواري العباسة بعد أن حدث شجار بينهما أن تخبر الرشيد بما وقع، فأرسل بذلك في طلب الصّبي ولما أحضر، سأل حواضن الصبي، فأخبرته بالقصة، فأراد قتل الصبي، لكنه عدل عن ذلك، وبعد عودته من الحج إنتقم من البرامكة [49].
إذن هذا هو ملخص قصة العباسة التي يطبعها الخيال والإختراع، ويبدو أن الغرض منها هو الحط من مكانة الرشيد والطعن في كرامته وعرضه.
وقد فند إبن خلدون هذه القصة في مقدمته وهاجمها بشدة حيث يقول عن العباسة :" قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة الدين، البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها ؟ وأين توجد الطهارة والزكاء إذا فقد من بيتها ؟ أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحي وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم... وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم إبائه " [50].
ويرى الجهشياري في كتابه الوزراء والكتاب أن أحد الأدباء وهو عبيد الله بن يحي بن خاقان سأل مسرور السياف الذي قتل جعفر عن سبب إيقاع الرشيد بالبرامكة ، فأجابه مسرور :" كأنك تريد ما تقوله العامة فيما إدعوه من أمر المرأة، وأمر المجامر التي إتخذوها للبخور في الكعبة ؟ فقال له عبيد الله بن يحـي بن خاقان :" ما أردت غيره" فقال :" لا والله، ما لشيء من هذا أصل، ولكنه من ملل موالينا وحسدهم "[51].
ويقول إبن كثير عن قصة العباسة " وقيل أنها قتلهم بسبب العباسة، ومن العلماء من أنكر ذلك"[52].
وتذكر الروايات التاريخية أن العباسة كانت متزوجة من أمير عباسي يدعى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان يعيشان بالبصرة. [53]
ومما سبق لا يمكن إعتبار قصة العباسة سببا في إيقاع الرشيد بالبرامكة.
المبحث الثالث : مظاهر النكبة وآثارها
لقد حدد المؤرخون نكبة البرامكة بتاريخ 187هـ [54]، والتي كانت خلاصة حوادث وأسباب متتابعة، دفعت الرشيد لا إلى الحد من نفوذ هذه الأسرة فحسب، بل إلى القضاء عليها.
فتذكر المصادر أن الرشيد كان قد حج في سنة ست وثمانين ومائة [55]، وصحبه جعفر بن يحي فلما عاد ركب السفن من الحيرة إلى الأنبار أين يوجد قصر الخلافة، وهناك أذن الرشيد لجعفر بالإنصراف، فسار جعفر إلى منزله، ثم إستدعى الرشيد غلامه مسرورا، وقال " قد إنتخبتك لأمر لم أرض له محمد (الأمين)، ولا عبد الله (المأمون)، فحقق ظني، واحذر أن تراجعني فتهلك ، قال " يا أمير المؤمنين، لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت قال " إذهب إلى جعفر بن يحي وجئني برأسه الساعة " فوجم لا يحير جوابا فقال له " مالك ؟ ويلك ، قال" الأمر عظيم ، وودت أني مت قبل وقتي هذا فقال " إمض لأمري، فمضى مسرورا [56]، في محرم من سنة سبعة وثمانين ومائة، ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند إلى جعفر ليلا، وعنده إبن ختيشوع الطيب وأبو ركانها لمغني ينشد :
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما
وإن بقيت تصير إلى نفـاذ [57]
فلما دخل مسرور قال جعفر بن يحي البرمكي " لقد سررتني بمجيئك وسؤتني بدخولك علي بغير إذن، فقال : الذي جئت له أعظم، أجب أمير المؤمنين إلى ما يريد بك، فوقع على رجليه فقبلهما " وقال له "عاود أمير المؤمنين فإن الشراب قد حمله على ذلك "[58].
وقال " دعني أدخل داري فأوصي " فقال :"أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوصي" ، فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم، ثم حمل مسرور جعفر إلى بيت الرشيد بعد أن تودد جعفر له بالعدول عن قرار الخليفة، وعدل به إلى قبة وضرب عنقه [59].
وكان قتل جعفر ليلة السبت الفاتح من صفر سنة سبع وثمانين ومائة بأرض الأنبار وعمره سبع وثلاثون سنة، ثم أمطر ببعث رأسه وجثته إلى بغداد، ونصب رأسه على الجسر وتقطيع بدنه، وتعليق كل قطعة على جسر [60].
ولم يزل كذلك حتى مرور الرشيد عليه أثناء طريقه إلى خراسان وأمر بحرقه.
وبعد مقتل جعفر وجه الرشيد في تلك الليلة من أحاط بيحي بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن كان منهم بسبيل ولم يفلت منهم أحد، وأمر بحبس يحي وإبنه الفضل ومصادرة أموالهم وضياعهم ومتاعهم واعتقال وكلائهم، ونادى الرشيد أن لا أمان لمن أمنهم أو أواهم إلا محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه لبراءته مما دخل فيه غيره من البرامكة[61].
ويروى أن يحي البرمكي كتب إلى الرشيد من الحبس يستعطفه ويذكر له فضله وتربيته له فوقع الرشيد على ظهر رقعته " إنها مثلك يا يحي ما قال الله عز وجل " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ".
وقد طلب الرشيد مرة من يحي بن خالد الإعتراف بأن عبد الملك بن صالح طمع في الملك مقابل إعادته إلى حـاله، ولكن يحي أنكر هذا الأمـر، ففرق الرشيد بينه وبين إبنه الفضل مدة ثلاثة أيام ثم أعاد جمعهما [62].
وقد كان يحي يدعو في حجة له قبل النكبة وهو متعلق بأستار الكعبة :" اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فأسلبني " .
وسمع أيضا يقول في ذلك المقام :" اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك اللهم إن كنت تعاقبني فإجعل عقوبتي بذلك في الدنيا، وأن إحاط ذلك بسمعي وبصري، وولدي ومالي، حتى يبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة " فإستجاب الله دعاءه [63].
ويقول الذهبي أن ولدا ليحي قال له وهم في القيود :" يا أبت بعد الأمر والنـهي والأموال صرنا إلى هذا ؟ قال " يا بني ! دعوة مظلوم غفلنا عنها لم يغفل الله عنها [64].
ولم يزل يحي وإبنه الفضل محبوسين حتى توفيا بالرقة، حيث توفي يحي في محرم من سنة تسعين ومائة عن عمر سبعين سنة، وصلى عليه إبنه الفضل ودفن في شاطئ الفرات، كما وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه " قد تقدم الخصم والمدعى عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يحتاج إلى بينة " [65].
أما الفضل فقد توفي في محرم من سنة ثلاث وتسعين ومائة قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وعمره 45 سنة [66].
أما بالنسبة لإبني يحي الآخرين : محمد وموسى، فقد بقيا بالسجن بالرقة حتى تولى الخلافة محمد الأمين.
ومن آثار نكبة البرامكة رثاء الشعراء لهم، وفي ذلك يقول الرقاشي قصيدة منها :
الآن إسترحنا وإستراحت ركابنا
وأمسك من يحدي ومن كان يحتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السرى
وقطع الفيافي فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايـا قد ظفرت بجعفـر
ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضـل تعطلي
وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفا برمكيـا مهنـدا
أصيب بسيف هاشمي مهند [67]
وقال أيضا ، وهو ينظر إلى جعفر وهو على جذعه :
أما والله لـولا خـوف واش
وعيـن للخليفـة لا تنـام
لطفنا حول جذعـك وإستلمنا
كمـا للناس بالحجر إستلام
فما أبصرت قبلك يا إبـن يحي
حسامـا فله السيف المسام
على اللذات والدنيـا جميعـا
ودولـة آل برمك السلام [68]
وقال سلم الخاسر :
خوت أبجم الجدوى وشلت يد الندى
وغاضت محار الجود بعد البرامك
هوت أنجم كـانت لأولاد برمـك
بها يعرف الهادي قويم المسـالك
وقال أشجع السلمي :
ولي عـن الدنيا بنو برمك
فلو توالـى الناس مـا زادا
كأنمـا أيـامهم كلهـا
كانت للأهل الأرض أعيادا [69]
ويبدو أن البرامكة قد إستحوذوا على عقول الشعراء لدرجة أنهم ظنوا أن الحياة لا تقوم إلا بهم، منها قول الشاعر المنصور النميري، في مطلع قصيدة له من البحر البسيط :
أندب بني برمك للدنيـا
تبكـي عليهم بكـل واد
كانت بهم برهة عروسـا
فأضحت اليوم في حـداد [70]
أما الشاعر الملقب بالأعرابي فقد وضع البرامكة في مصاف الملوك الذين خانتهم الظروف وذلك بقوله في قصيدة له من البحر الطويل :
لقد خان هذا الدهر أبناء برمك
وأتى ملوك لم تخنها دهـورهـا
ألم يك يحي والي الأرض كلها
وأضحى كمن وارته منها قبورها
وقال دعبل الخزاعي :
أم تر صرف الدهر في آل برمك
وفي إبن نهيك والقرون التي تخلو
لقد غرس القوم النخيل تمكنـا
فما حصدوا إلا كما حصد البقل [71]
وإذا كان هؤلاء الشعراء قد زكوا البرامكة وظلوا على ولائهم لهم، فهناك فريق آخر من الشعراء هجوهم وإعتبروا حادثة نكتبهم نكالا لهم.
فيقول سهل بن هارون في يحي بن خالد :
عدو تلاد المال فيهـا التوبـة
منوع إذا ما منعه كان أحزمـا
مذلل نفس قد أبت غير أن ترى
مكاره ما تأنى من الحق معنـا
وقال رجل من أهل الشام :
أبعد مروان وبعـد مسلمـة
وبعد إسحاق الذي كان لمـة
صار على الثغـر فرنج الرخمة
مهــلكة مبيــرة منــذ
إن أنا بفضـل يحـي نقصـة
أكل بنو برمـك أكلن الحطمة
إن لهذا الأكل يومـا تخمـة
أيسر شيء فيه حز الغلصمـة[72]
أما الشاعر أبو العتاهية [73] فقد جعل من حادثة نكبة البرامكة عبرة لمن تسعويه ملذات الدنيا، عندما قال في مطلع إحدى قصائده " من البحر البسيط " :
قولا لمن يرتجي الحياة أمـا
فـي جعفر عبـرة ويحيـاه
كان وزيري خليفة الله ها
رون همامـا همـا خليـلاه[74]
هذا ولم تقتصر آثار نكبة البرامكة على الشعراء فحسب، بل حتى الأدباء حين أطلقوا العنان لخيالهم في وضع أقاصيص كثيرة نشرت على الناس، قد يكون بعض هذه الأقاصيص صحيحا، لا ينكره العقل ولا الواقع، وقد يكون لبعضها أصل، أضيف إليه ما يخرجه من حد الواقع، وقد تكون القصة موضوعة لا يستسيغها العقل، ويرجع ذلك إلى أن أدباء العرب من الفرس بعدما أحزنهم ما حل بيحي وولده، أرادوا أن يرفعوا مكانة البرامكة، وهم في هذه القصص الموضوعة أو شبه الموضوعة يظهرون الخليفة الرشيد أنه صاحب لهو ومجالس المغنيين والمغنيات ويعقد مجالس الشرب في داره، وينسون وقاره وصلاحه وصلاته، وصيامه، وحجه، وقيامه الليل.
والمرجح أن تلك القصص لم تنشر على عهد الخليفة الرشيد ، ولا في عهد ولديه الأمين والمأمون، وإنما ظهرت عند ظهور بوادر ضعف الدولة العباسية [75].
هذا عن أثر نكبة البرامكة على الشعراء والمؤرخين، أما بالنسبة للرشيد فيرى البعض من المؤرخين أنه ندم على ما كان منه من أمر البرامكة وتحسر على ما فرط منه في أمرهم ، فخاطب جماعة من إخوانه بأنه لو وثق منهم بصفاء النية منهم لأعادهم إلى حالهم، وكان كثيرا ما يقول " حملونا على نصاحنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا ما أرادوا منا لم يغنوا عنا شيئا، وأنشد :
أقلوا علينا لا أبا للأبيكم
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا [76]
ويرجح أن الرشيد من خلال قوله هذا لم يرد إعادة البرامكة إلى مركزهم ، ولكنه كان يقول هذا حينما يرى تقصير خلفائهم عنهم.
وكان يقول الرشيد أيضا " لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رخاء [77]، وقال الصولي :" وحدثنا الغلابي حدثنا العتبي قال : قال لي الرشيد بعد قتل البرامكة "وددت والله إني شوطرت عمري وغرمت نصف ملكي وأني تركت البرامكة على أمرهم "[78].
كما إستمرت آثار نكبة البرامكة واضحة لا في تاريخ الخلافة العباسية فحسب بل ظلت ماثلة في الحياة الإجتماعية لسكان العالم الإسلامي خلال العصور التالية ، فظلت المصادر المهتمة بتاريخ الثقافة في البلاد الإسلامية تطلق إسم " زمن البرامكة" و " أيام البرامكة" على كل ما هو جيد ومرغوب فيه كما نسب إليهم المؤرخون أجود أنواع الثياب وأغلاها، وقد حمل إسم البرامكة نوعا من البخور والعطر العربيين.
كما ظلت كثيرا من المحلات والأحياء تحمل إسم البرامكة تخليدا لذكراهم في تاريخ الدولة الإسلامية.
ففي بغداد مثلا ظلت إحدى أسواقها تحمل إسم "سوق يحي " وكذلك كان إسمه يطلق على أحد أبواب مدينة "بلخ " لفترة طويلة، وكما بقيت آثار أبنيتهم القوية ماثلة حتى مطلع القرن الماضي.
ولحد الساعة لا يزال إسم " البرامكة" يطلق على أحد الأحياء الهامة من مدينة دمشق، وقد إرتبط إسمهم هناك بفضيلة الكرم، وفي الجزائر يدل إسم " جعفر البرمكي" على من يستأثر برأيه ويحاول فرضه بالقوة.
أما في مصر فإن لفظ " تبرمكت " يعني في الأوساط الشعبية والسياسية إسناد الأمور إلى غير أهلها.
وقد تعدى ذكر البرامكة حدود البلاد الإسلامية ليصبح ذائع الصيت فنجد الإنجليز عندما يريدون التعبير عن مظاهر الأبهة والجلال في حفلاتهم يقولون " مأدبة برمكية" [79]
الهوامش:
[1] عبد العزيز الدوري : المرجع السابق ، ص 127.
[2] الجهشياري : المصدر السابق، ص 149-146.
[3] إبراهيم سليمان الكروي : المرجع السابق ، ص 105.
[4] المسعودي : المصدر السابق ،مج3، ص 392-393.
[5] إبن الأثير : المصدر السابق ،ط6، 1995، مج 6، ص 177.
[6] الخضري محمد: المرجع السابق ، ص 137.
[7] زيد الدين عمر إبن الوردي: " تنمية المختصر في أخبار البشر " دار المعرفة ، ط1، بيروت، 1319هـ/1970، ج1، ص 311.
[8] إبن كثير : المصدر السابق ، ج9، ص 189.
[9] شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي: " سير أعلام النبلاء " مكتبة الصفا ، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 2003، ج6، ص 335.
[10] حسن بن محمد إبن وادران: " تاريخ العباسيين " دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت، 1993، ص 157.
[11] عبد الرحمان بن علي بن محمد إبن الجوزي: " المنتظم في تاريخ الملوك والأمم " دار الكتب العلمية،.ط1، بيروت، لبنان، ج9-10، ص 126.
[12] الطبري: المصدر السابق ، تحقيق عبد أعلي مهنا، مؤسسة الأعلمي، ط1، بيروت، لبنان، ، 1998، ج7، ص 233.
[13] عبد الحي بن نعماد الحنبلي: " إٍستذرات الذهب في أخبار من ذهب " دار السيرة ، ط2، بيروت، 1979، 1399هـ ، ج1، ص 311.
[14] حسن إبراهيم حسن : المرجع السابق ، ج2، ص 139.
[15] الطبري : المصدر السابق ، ط1، 1418هـ/1998، ج7، ص 234-235.
[16] عبد العزيز الدوري : المرجع السابق ، ص 131.
[17] الخضري محمد: المرجع السابق ، ص 139.
[18] عبد العزيز الدوري : المرجع السابق ، ص 131.
[19] إبن خلدون " المقدمة " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر"، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ط1، الجزائر، 1984، ص 44
[20] عبد العزيز الدوري، المرجع السابق ، ص 132.
[21] إبن الأثير : المصدر السابق ، مج6، ص 172.
[22] عبد المنعم عبد الحميد سلطان : المرجع السابق ، ص 182.
[23] إبن كثير : المصدر السابق ، ج9، ص 189.
[24] عبد العزيز الدوري : المرجع السابق ، ص 132.
[25] عبد العزيز الدوري: المرجع نفسه، ص 133..
[26] إبراهيم سليمان الكروي : المرجع السابق ، ص 113.
[27] الجهشياري : المصدر السابق، ص 149.
[28] إبراهيم سليمان الكروي : المرجع السابق ، ص 114.
[29] عبد العزيز الدوري : المرجع السابق ، ص 134.
[30] إبن خلدون : المصدر السابق ، ص 44.
[31] إبن خلدون : المصدر نفسه، ص 45.
[32] إبراهيم سليمان الكروي : المرجع السابق ، ص 117-118.
[33] الجهشياري : المصدر السابق ، ص 144.
[34] ورد اللفظ في القرآن الكريم الآية التالية " يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجلعنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقيكم " سورة الحجرات ، الآية 13.
[35] بشار قويدر : المرجع السابق ، ص 230.
[36] هولوجودت فرج: المرجع السابق ، ص 54.
[37] هولوجودت فرج : المرجع السابق، ص 54.
[38] الجهشياري : المصدر السابق ، ص 147.
[39] حسن إبراهيم حسن: المرجع السابق ، ص 141.
[40] عبد المنعم عبد الحميد سلطان : المرجع السابق ، ص 181.
[41] فاروق عمر فوزي : المرجع السابق ، ص 200.
[42] إبن كثير : المصدر السابق ، ج 9، ص 189.
[43] إبن الجوزي: المصدر السابق ، ج 9-10، ص 133.
[44] الجهشياري : المصدر السابق ، ص 164.
[45] إبراهيم سليمان الكروي : المرجع السابق ، ص 118.
[46] إبراهيم سليمان الكروي : المرجع نفسه، نفس الصفحة.
[47] محمود شاكر: المرجع السابق ، ج1، ص 162.
[48] عبد العزيز الدوري : المرجع السابق ، ص 135.
[49] أحمد مختار العبادي: المرجع السابق ، ص 86.
[50] إبن خلدون : المصدر السابق ، ص 44.
[51] الجهشياري : المصدر السابق ، ص 164.
[52] إبن كثير : المصدر السابق ، ج9، ص 189.
[53] أحمد مختار العبادي : المرجع السابق ، ص 87.
[54] الحافظ الذهبي: " العبر في خبر من غبر " دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، ج1، ص 230.
[55] قال مسرور الخادم: سمعت الرشيد يقول في الطواف، اللهم أنك تعلم أن جعفر بن يحي قد وجب عليه القتل، وأنا أستخير لك في قتله فخر لي " إبن الجوزي، المصدر السابق ، ج9-10، ص 33.
[56] عبد المنعم عبد الحميد سلطان : المرجع السابق ، ص 183-184.
[57] إبن الأثير : المصدر السابق ، ج6، ص 177-178.
[58] حسن إبراهيم حسن: المرجع السابق ، ص 142.
[59] إبن كثير : المصدر السابق ، ج9، ص 190.
[60] إبن الوردي : المصدر السابق ، ص 311.
[61] إبن الجوزي : المصدر السابق ، ج9-10، ص 134-135.
[62] هولوجودت فرج : المرجع السابق ، ص 105-106.
[63] إبن الأثير : المصدر السابق ، مج6، ص 176-177.
[64] الذهبي : "سير أعلام النبلاء "، المصدر السابق ، ص 33-46.
[65] هولوجودت فرج : المرجع السابق ، ص 107.
[66] إبن وادران : المصدر السابق ، ص 157.
[67] الجهشياري : المصدر السابق ، ص 152.
[68] إبن كثير : المصدر السابق ، ج9، ص 191.
[69] محمد السيد وكيل : المرجع السابق ، ص 249.
[70] المسعودي : المصدر السابق، مج3، ص 391.
[71] المسعودي : المصدر نقسه ، مج3، ص 391.
[72] هولوجودت فرج : المرجع السابق ، ص 142-143.
[73] أبو العتاهية إسحاق إسماعيل (130ه/211هـ- 747م/826م) من فحول الشعراء العصر العباسي الأول نشأ في الكوفة ثم رحل إلى بغداد حيث إشتهر. فيها، وكانت علاقته جيدة بالخلفاء العباسيين منذ عهد الخليفة المهدي.
[74] بشار قويدر : المرجع السابق ، ص 293.
[75] محمد أحمد برانق : المرجع السابق ، ص 308.
[76] إبن خلكان : المصدر السابق ، مج6، ص 228.
[77] راعب السرجاني: " الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي "، مؤسسة إقرأ للنشر والتوزيع والترجمة ، ط1، القاهرة، 2005/1426هـ ، ج1، ص229.
[78] إبن الجوزي: المصدر السابق ، ج9-10، ص 187.
[79] بشار قويدر : المرجع السابق ، ص 302-303.
منقول