مقدمـــــــــــــــــــــ ـة
تقوم الأنظمة السياسية الغربية الحرة في تنظيمها على مبدأ الفصل بين السلطات أساس السياسة اللبرالية، لذلك تضمنته الدساتير التي تعتنق هذا النظام باعتباره وسيلة لمعارضة السلطة المطلقة للملوك، و كأسلوب لنقل النظام اللبرالي إلى القانون الوضعي، و الدليل على ذلك ما تضمنه إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر في 26 أوت 1789 ، و الذي وضع كديباجة لدستور 3 سبتمبر 1791 ، في المادة 16 على أن كل مجتمع لا توجد فيه ضمانات للحقوق ولا يوجد فصل بين السلطات ليس له دستور، و هذا يعني ارتباط وجود الدستور باعتماد الفصل بين السلطات، لان وجود الدستور معناه تقييد السلطة السياسية، وأن الفصل بين السلطات هو وسيلة لتحقيق ذلك
والحقيقة أن مبدأ الفصل بين السلطات نجد منبعه في الفكر القديم و هو طريقة فنية دستورية للتوفيق بين الملكية التقليدية و الديمقراطية التمثيلية
و منه يمكننا طرح الإشكال التالي ما هي ماهية هذا المبدأ ؟ و كيف تم تطوره عبر العصور و أيضا كيف تم تطبيقه في الدول؟
خطة البحث
المقدمة
المبحث الأول : مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات و نشأته
المطلب الأول: مفهوم مبدا الفصل بين السلطات
المطلب الثاني : نشأته
الفرع الأول: عند أرسطو و جون لوك
الفرع الثاني : عند مونتسكيو
المبحث الثاني : تطبيقات المبدأ و تطوره
المطلب الأول : تطبيقاته في الدساتير الحديثة
المطلب الثاني : تطور تطبيقاته و تعميمه عبر دساتير دول العالم
الخاتمة:
المبحث الأول : مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات و نشأته
المطلب الأول : مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات
إن هذا المبدأ يجد أصله في الفلسفة الإغريقية، أخذ مظهرا سياسيا أولا، و أنه ظهر على لسان أفلاطون و أرسطو و تلقفه لوك و مونتسكيو و روسو، و انتقل إلى الميدان التطبيقي على أثر الثورتين الأمريكية و الفرنسية.
و هذا الفصل يتم بين السلطات العليا في أي دولة و هذه الأخيرة تتمثل في السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية و السلطة القضائية :أي سلطة صنع القانون و سلطة تنفيذه و سلطة البت في الخلافات التي تنشأ عن مخالفة أحكامه أثناء القيام بتلك الوظائف
المطلب الثاني : نشأته
أ) عند أرسطو و جون لوك
ارتبط مبدأ الفصل بين السلطات باسم الفقيه الفرنسي مونتسكيو الذي كان له الفضل في إبرازه كمبدأ أساسي لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة،و منع الاستبداد بالسلطة
وإذا كان فضل مونتسكيو في ذلك لا ينكر، إلا أن جذور المبدأ ترجع إلى زمن بعيد قبل القرن الثامن عشر بقرون عديدة، فقد كان لأعلام الفكر السياسي الإغريقي كأفلاطون
وأرسطو، دور هام في وضع الأساس الذي قام عليه مبدأ الفصل بين السلطات، إذا أوضح أفلاطون أن وظائف الدولة يجب أن تتوزع على هيئات مختلفة مع إقامة التوازن بينها لكي
لا تتفرد إحداهما بالحكم، وما قد يؤدي إله ذلك من و وقوع الإضطربات و الثورات لتمرد على هذا الاستبداد
- أما أرسطو فقسم وظائف الدولة إلى ثلاث، وظيفة المداولة و الأمر و العدالة، على أن تتولى كل وظيفة منها مستقلة عن الهيئات الأخرى، مع قيام التعاون بينهما جميعا لتحقيق الصالح العام، بحيث لا تتركز الوظائف في يد هيئة واحدة
- و كان جون لوك أول من أبرز أهمية مبدأ الفصل بين السلطات في العصر الحديث في مؤلفه "الحكومة المدنية" الذي صدر سنة 1690 بعد الثورة الجليلة ل 1688 في إنجلترا التي أدت إلى إعلان وثيقة الحقوق سنة 1689
و قسم جون لوك سلطات الدولة إلى ثلاث
السلطة التشريعية، و السلطة التنفيذية، و السلطة الاتحادية، و أكد على ضرورة الفصل بين السلطتين التشريعية و التنفيذية، بحيث تتولى كل منها هيئة مستقلة عن الأخرى
و برر لوك هذا الفصل على أساس طبيعة عمل السلطة التنفيذية بحيث يتطلب وجودها بصفة دائمة، في حين أن الحاجة ليست دائمة إلى وجود السلطة التشريعية من ناحية
كما أن الجمع بينهما في هيئة واحدة سيؤدي حتما إلى الاستبداد و التحكم من ناحية أخرى
والذي يمكن ملاحظته على أفكار لوك هو أنه لم يعر أهمية للقضاء ولم يتحدث عن استقلاله والسبب في ذلك هو أن القضاة حتى الثورة كانوا يعينون و يعزلون من الملك أما بعد الثورة فكانوا يعينون بواسطة البرلمان لكنهم لم يحصلوا على استقلال في وظائفهم
و ما يؤخذ على أفكاره هو أنه لم يقدم لنا إلا صورة لما كان سائدا في انجلترا و أنه أيضا لم يقدم لنا سوى تمييزا بين الوظائف
ب) عند مونتسكيو
إن مبدأ الفصل بين السلطات لم يأخذ الأهمية الكبيرة التي نالها إلا بعد أن نشر مونتسكيو
مؤلفه الشهير "روح القوانين" سنة 1748.
لمعالجة المبدأ ينطلق مونتسكيو من الفكرة التي تقضي بتقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث: تشريعية، تنفيذية و قضائية. لكن الفكرة الأساسية التي عالجها في كتابه هي أن قد يسيء استعمال السلطة التي يتمتع به أو حتى لا يساء استعمالها يجب بمقتضى الأمور إقامة توازن بين السلطات من غير أن يكون باستطاعة إحداها شل أعمال الأخرى عندما تمارس عملا له علاقة بأعمال أخرى
و قد أحسن مونتسكيو بأهمية هذا التعاون، فقال داعيا إلى تنظيم الإجراءات الضرورية لإقامته بين السلطات التي يتوجب عليها إقامة التعاون يتم عن طريق منح كل عضو سلطة faculté d empêcher و سلطة الردع faculté de statuer الحكم
أي وسائل العمل التي من شأنها أن تمنع تنفيذ القرارات الخاطئة الصادرة عن السلطة الأخرى للوصول إلى إقامة التوازن و التعاون بين السلطات
ومن هنا يمكننا القول أن نظرية مونتسكيو تضمنت النقاط التالية
أ- قسم السلطات العامة في الدولة إلى ثلاث، التشريعية، التنفيذية و القضائية و بين المهام الأساسية التي تضطلع بها كل سلطة.
ب- أكد على توزيع السلطات و فصلها بهذه الصورة أمر ضروري لأنها لو تجمعت في يد هيئة واحدة لأدى إلى الاستبداد.
ج- لم يتوقف مونتسكيو عند حد الفصل فقط و إنما استلزم قيام كل سلطة بمراقبة السلطات الأخرى لوقفها عند الحدود المقررة لها إذا اقتضى الأمر حتى لا تتجاوزها إلى الاعتداء على السلطات الأخرى.
المبحث الثاني : تطبيقات المبدأ و تطوره
المطلب الأول : تطبيقاته في الدساتير الحديثة
إن مبدأ الفصل بين السلطات مطبق في جميع دول و دساتير العالم الحديثة فمثلا طبقته انجلترا في دستورها العرفي، و كذلك فرنسا طبقته ابتدءا من الثورة الفرنسية سنة 1789
حيث كان الغرض من الاعتماد عليه هو كفالة الحقوق و الحريات من اعتداء الدولة
كما أن الدستور اعتمد الفصل المطلق بين المؤسسات الدولة، لكنه منح الملك حق الفيتو الذي بموجبه يستطيع تجميد القوانين و القرارات الصادرة عن الجمعية الوطنية مدة سنتين، مما تسبب في حدوث أزمات حادة بين الملك و الجمعية، فضلا عن حقه في تعيين الوزراء من غير النواب تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات
ونتيجة محاولات الملك الرجوع إلى حظيرة الحكم الملكي المطلق، قامت ثورة 10 أوت
1792و بها أنهت الملكية المقيدة التي يرأسها الملك لويس 16 و قيام الجمهورية الأولى
وكذا طبقته الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1789 حيث استقلت السلطة القضائية بممارسة وظيفتها، و يتم اختيار القضاة عادة عن طريق الانتخاب، كما يتمتع أعضاء السلطة القضائية بحصانات معينة، و بنظام قانوني للمحاكم له ضمانات خاصة
و من ناحية أخرى، تستقل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية إذ لا يملك رئيس الدولة باعتباره رئيسا للسلطة التنفيذية حق دعوة البرلمان للانعقاد العادي أو فض دورته أو حله.
و يباشر البرلمان وظيفته التشريعية باستقلال تام، بحيث لا تستطيع السلطة التنفيذية اقتراح القوانين، أو التدخل في اعدد ميزانية الدولة.كما أنه يستقل من الناحية العضوية عن الحكومة. و أخيرا تستقل السلطة التنفيذية في مباشرتها لوظيفتها، إذ يقوم رئيس الجمهورية بتعيين الوزراء و إعفائهم من مناصبهم دون تدخل من البرلمان. كما لا يجوز محاسبة الوزراء عن أعمالهم أمام البرلمان عن طريق توجيه الأسئلة و الاستجوابات، أو سحب الثقة كما هو الشأن في النظام البرلماني، لأنهم مسئولون أمام رئيس جمهورية فقط.
المطلب الثاني : تطور تطبيقاته و تعميمه عبر دساتير دول العالم
فإذا كان مفهوم المبدأ كما بيناه أعلاه، إلا أن المبدأ عرف تفسيرات متعارضة، أدت إلى إيجاد طريقتين
- الفصل المطلق، فنكون بصدد نظام رئاسي.
- الفصل المرن، فنكون حينئذ في ظل نظام أو حكومة برلمانية أي نظام التعاون .Collaboration
فالغرض من الفصل المطلق هو ضمان استقلال البرلمان عن الحكومة، فالدولة مقسمة بين ثلاث سلطات و يحكم المبدأ ثلاث عناصر هي: المساواة و الاستقلال و التخصص. 1) فالمساواة القصد منها أن لا تنفرد أية سلطة بسيادة الدولة و إنما تتقاسمها.
2) أما الاستقلال فيكون على مستوى الهيئات و الوظائف بحيث لا يحق لعضو في السلطة أن يكون في آن واحد نائبا في البرلمان و وزيرا، كذلك فإن الهيئات مستقلة عن بعضها فلا وجود لتعاون بينهم أو لا يحق للبرلمان سحب الثقة من الحكومة كما لا يحق للحكومة حل البرلمان.
3) في حين أن التخصص يعني أن كل هيئة تمارس وظيفة محددة فكل منها تقوم بوظيفتها لكنها لا تنجزها كاملة لأن ذلك يؤدي إلى تدخل في اختصاصات غيرها.
أما صاحب الفصل المرن، فيعتبرون سلطات الدولة موزعة بين ثلاث، ولكل منها وظيفة متميزة، إلا أن هذا لا ينفي إمكانية التعاون بين الهيئات و الوظائف، فالوزراء يمكن أن يختاروا من البرلمان و أحيانا كلهم مثل بريطانيا، كما يمكن أن تشارك السلطة التنفيذية في ممارسة السلطة التشريعية كالمبادرة بتقديم مشاريع قوانين و حل البرلمان الذي يحق له بدوره سحب الثقة من الحكومة
الخاتمة:
لقد تعرضنا في بحثنا هذا الذي هو مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية التي تعتبر مبدأ عام في أي دولة حديثة، و استخلصنا من خلاله عدة أشياء ومن بينها مزايا هذا المبدأ التي تتمثل في
أ- صيانة الحرية و منع الاستبداد
المساهمة في تحقيق الدولة القانونية . ب
جني فوائد تقسيم وظائف الدولة. ج
و ينتج عن هذا التقسيم إتقان كل سلطة لعملها، و قيامها به على خير وجه، كما يحقق في النهاية حسن سير العمل في كل المجالات الرئيسية في الدولة، التشريعية و التنفيذية و القضائية. و أيضا يمكننا القول بأن كل النظم تتفق على تقرير استقلال السلطة القضائية ضمانا لحيادها و نزاهتها و رعاية لحقوق المتقاضيين أمامها.
بيد أن قاعدة الفصل التام بين السلطات لم تؤخذ على إطلاقها في دساتير الدول التي أخذت بالنظام الرئيسي، إذ تخفف من حدة هذا الفصل بتقرير بعض الاستثناءات مثل منح رئيس الجمهورية حق الاعتراض التوفيقي على مشروعات التي يقرها البرلمان، في المقابل موافقة البرلمان على تعيين كبار القضاة و الموظفين في الدولة، وعلى نفاذ المعاهدات التي تبرم مع الدول الأخرى.