مصطلح صاحب المدينة:
ذكر الأستاذ حسين مؤنس أنه كان يوجد في النظام السائد في الأندلس قبل الفتح الإسلامي حاكم خاص للمدينة، يسمى defensor civitatis أي حامي المدينة أو حارسها، ثم أصبحت في عجمية أهل الأندلس zahalmedina أو zafalmedina أو zalmedina أي صاحب المدينة، واستمر هذا المصطلح متداولًا ومعمولـًا به في ظل الحكم الإسلامي للأندلس.
ولكن رغم أن المسلمين قد ورثوا هذا المصطلح عن القوط والرومان، إلا أن المصادر الإسلامية لم تستخدمه بوضوح إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولعل هذا راجع إلى أن هذا الأمير هو المنظم للجهاز الإداري للدولة الأموية في الأندلس، بالإضافة إلى أن منصب "المدينة" كان متداخلًا مع غيره من المناصب، ولم يصبح مستقلًا بذاته إلا في أوائل القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" وذلك عندما ميز الأمير عبد الرحمن الأوسط "ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة".
خطة المدينة:
وخطة المدينة هي إحدى الخطط الدينية التي تخوّل صاحبها حق إصدار الأحكام، وفي هذا يقول القاضي ابن سهل: "وللحكام الذين تجري على أيديهم الأحكام ست خطط: أولها القضاء ..، والشرطة ..، وصاحب المظالم، وصاحب الرد ..، وصاحب المدينة، وصاحب السوق".
ومن هنا يتضح لنا أن خطة المدينة أصبحت قائمة بذاتها، لها كيانها الذي يميزها عن سواها، وإذا كان البعض يرى أن هناك ازدواجية بين عمل صاحب المدينة وأصحاب الشرطة، فذلك راجع إلى أن أصحاب الشرطة -العليا والوسطى والصغرى- هم تحت إمرة صاحب المدينة الذي يعتبر المسئول عما يجري داخلها، فهو أشبه ما يكون بوزير داخلية، المسئول الأول عن الأمن.
ومن يشغل هذه الخطة يسمى "حاكم المدينة" أو "متقلد المدينة" وكذلك "والي المدينة" ولكن المصطلح الذي اشتهر استخدامه هو: "صاحب المدينة".
صفات صاحب المدينة:
وصاحب المدينة -كما يرى ابن عبدون- لابد أن يكون "رجلًا عفيفًا فقيهًا شيخًا؛ لأنه في موضع الرشوة وأخذ أموال الناس، وربما فجر إن كان شابًا شريبًا". ولابد له من أعوان ينفذون أوامره ويساعدونه على أداء المهام المناطة به، ونظرًا لحساسية منصبه، فعليه أن يكون حذرًا في التعامل مع أعوانه، فلا يقبل منهم شيئًا إلا ببينة لا تحتمل الشك، ذلك لأنهم إلى الشر أقرب منهم إلى الخير.
بين قاضي الجماعة وصاحب المدينة:
ولقاضي الجماعة دور في عمل صاحب المدينة، فهو رقيب عليه، ومن أجل ضبط هذه الرقابة، فمن حق القاضي استخلافه أحيانًا من أجل اختبار فقهه وحسن تصرفه. وبأمر القاضي فليس من حق صاحب المدينة أن يرسل أكثر من واحد برسالة خارج البلد، وعلل ابن عبد ون ذلك بقوله "لئلا يكثر الجُعل والأذى والنهب". وبالجملة فليس من حق صاحب المدينة أن يقدم على تنفيذ أي أمر من الأمور الجسيمة، إلا بعد إطلاع الأمير أو الخليفة، وقاضي الجماعة على ذلك.
ويبدو أن ابن عبدون قد أدلى بآرائه هذه، وهو متأثر بأحداث عصره "عصر ملوك الطوائف" أما في عهد دولة بني أمية، وبالذات الأقوياء من الأمراء والخلفاء، فليس من الضروري أن تصدق تلك الآراء في تلك المدة أو تطبق.
ومهما يكن، فالأمر لم يترك مفتوحًا أمام الأعوان ليمارسوا سلطاتهم، كما تمليه عليهم رغباتهم، بل إن ابن عبدون، الذي استفاد مما كان سائدًا قبله في عهد الأمويين، وضع لأولئك الأعوان ضوابط يسيروا وفقها في أداء مهامهم، لكي لا ينحرف الهدف الذي من أجله تمت الاستعانة بهم، وهذه الضوابط هي بالنهاية سياج يحمي كرامة الآخرين من تسلطهم، فقد ذكر أن الحد يقام على من استحقه منهم، إذ ليس أقبح من أن يكونوا يغيروا المنكر بزعمهم وهم يفعلونه، كما يجب أن يمنعوا من التفتيش ليلًا كان أو نهارًا، فذلك فيه هتك لستر من يتم تفتيشه، كما أن من ألقوا عليه القبض في الليل، وهو ممن لاتأخذه تهمة ولا ظنه، فعليهم أن يوصلوه إلى داره وهو موفور الكرامة، وأما من اشتبه بأمره فعليهم ألا يلحقوا به الأذى سواء ماديًا أو معنويًا، بل يحضروه عند صاحب المدينة بالهيئة التي وجدوه عليها، فإن سجنوه، يتم سجنه في أحد الفنادق بكفالة ساكنيه حتى الصباح.
ولقاضي الجماعة الحق في إحضار صاحب المدينة إلى مجلسه، وذلك لمساءلته عن تجاوزاته، فقد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة سليمان بن أسود، أحضر صاحب المدينة إلى مجلسه، ليقضي بينه وبين من رفع دعوى ضده.
وعندما جرى في قرطبة أمر أخل بالأمن، ولم يتخذ صاحب المدينة أمية بن عيسى الحلول اللازمة، قام قاضي الجماعة سليمان بن أسود برفع الأمر للأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط طالبه فيه بعزل صاحب المدينة عن منصبه لتقصيره. وبمقابل ذلك فإنه عندما يهيج العوام ضد قاضي الجماعة، مثلما فعلوا بالقاضي محمد بن يبقى بن زرب، المتوفى سنة 381هـ / 991م بسبب تكراره لصلاة الاستسقاء وعدم نزول المطر، فإن صاحب المدينة هو الذي يتولى حمايته منهم، كما أنه إذا تطاول أحدهم على الخطيب أثناء خطبة الجمعة، فإن صاحب المدينة يأمر بالقبض على ذلك المتطاول وحمله إلى السجن.
مهام صاحب المدينة:
نظرًا لفخامة منصب صاحب المدينة، فإن المهام المناطة به، تبدو جسيمة تناسب أهمية المنصب، ولعل من أعظم المهام الملقاة على صاحب المدينة، أن الأمير أو الخليفة الأموي، يستخلفه أحيانًا أثناء غيابه عن العاصمة.
وقد عرفنا من قبل أن من رسوم بني أمية أنه عند مغادرة الأمير أو الخليفة للعاصمة، فإنه يترك أحد أولاده، سواء كان ولي العهد أو غيره، على سطح القصر، ويجعل صاحب المدينة ملازمًا له على الدوام، ويكون من حقه منع الولد من مغادرة السطح حتى وإن اضطر إلى تهديده بوضع قيد الحديد في رجله، وهذا ما كاد أن يفعله صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد بأحد أولاد الأمير محمد ابن عبد الرحمن، الأمر الذي يعطي دلالة أكيدة على قوة شخصية صاحب المدينة، حتى أنه لم يأبه بولد الأمير مادام في الأمر مصلحة للدولة.
قصة أمية بن عيسى بن شهيد مع الأمير محمد:
ومما يدل على نزاهة صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد، وقوة شخصيته أنه وقف أمام رغبة الأمير محمد عندما أمره أن يحبس أحد أهل العلم.
والقصة كما رواه ابن القوطية تدور حول فقيه كان يقطن في إحدى الكور، لكنه فر من عاملها إلى قرطبة، فكتب ذلك العامل للأمير محمد كتابًا يغريه فيه بذلك الفقيه، ويزين له ضمه إلى الحبس، فأصدر الأمير أوامره لابن شهيد بحبس ذلك الفقيه، فرد عليه قائلًا: "لاوالله، ما أحبس رجلًا من أهل العلم والرواية، فرَّ من جور ظالم مشهور بالظلم، ولو كان فيه خير ما فرّ مثله عنه" فما كان من الأمير إلا أن عدل عن رأيه وكتب إلى ذلك العامل كتابًا يوبخه فيه على فعله.
قصة وليد بن عبد الرحمن بن غانم مع الأمير محمد:
ولم يقتصر الأمر في قوة الشخصية والنزاهة على أمية بن عيسى بن شهيد فقط، فلدينا صاحب المدينة وليد بن عبد الرحمن بن غانم، المتوفى سنة 292هـ / 905م، ففي أثناء ولايته للمدينة، حدثت مجاعة شديدة سنة 260هـ / 874م "لم يزرع فيها بالأندلس حبة ولا رفعت" "ومات فيها أكثر الخلق"، فاستشار الأمير محمد الوزراء وأصحاب المشورة، وعرض عليهم رأيه في فرض العشور على الغلات، والزام الرعية بذلك لمواجهة تلك الأزمة، فوافقوه على ذلك، ولم يعترض عليه إلا صاحب المدينة وليد بن عبد الرحمن الذي طلب من الأمير أن يرفق بالرعية في ظل هذه المحنة، وأن يخرج مما في مستودعات الدولة وبيت المال، لينفق على الجنود والرعية المتعبة من شدة المجاعة، ثم قال له: "فإنه الحق على مثلك من ولاة العدل، فقد بلغنا أن طواغيت الروم فعلته بقسطنطينة ورومه، وأنتم أولى بذلك".
إلا أن الأمير لم يقتنع برأي ابن غانم، الذي أصر على موقفه، فكانت فرصة لأحد الطغاة الظلمة، يدعى حمدون بن بسيل المعروف بالأشهب، الذي عرض على الأمير أن يوليه المدينة، وهو يتكفل له بتنفيذ مراده، فوافق ذلك هوى في نفس الأمير، فعزل ابن غانم وولى الأشهب الذي "هتك الستور وضرب الظهور وقتل الأنفس بالتعليق"، فضج الناس عليه بالدعاء في كل جمعة، حتى أماته الله تعالى، وهنا استدعى الأمير محمد وليد بن غانم وأراده أن يعود إلى المدينة، فأجابه قائلًا: "أما وقد صرت عندك في محل من يديله حمدون بن بسيل أو مثله، فلا والله لا خدمتك في المدينة أبدًا، فولى غيره".
مهام أخرى لصاحب المدينة:
ومن بين مهام صاحب المدينة، التحقيق في حوادث القتل التي تحدث في البلد، مثل حادثة الرجل الذي وجد مقتولًا في قرطبة، وذلك في يوم الأول لولاية محمد بن السليم للمدينة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط.
وإذا احتاج الأمير إلى رأي الفقهاء في أمر ما، فإنه يكلف صاحب المدينة بالقيام في هذه المهمة، مثل ما حدث في قصة ابن أخي عجب، وما نسب إليه من ألفاظ تطاول على الباري جل وعلا، فبعد أن اجتمع بهم صاحب المدينة ابن السليم في مجلسه المسمى: مجلس النشمه، عرض عليهم القضية وطلب أن يكتب كل واحد منهم رأيه في صك منفرد ليعرضها جميعًا على الأمير، الذي ما أن تصفحها حتى أصدر قراره بعزل قاضي الجماعة الحبيب محمد بن زياد عن منصبه ومن تابع رأيه من فقهاء الشورى، كما أمر بصلب ابن أخي عجب.
من هذه القصة، ندرك أن لدى صاحب المدينة مجلس خاص به، وأنه هو الذي يتولى رفع الآراء التي تتم في هذا المجلس للأمير، كما أنه هو الذي يبلغ قاضي الجماعة وفقهاء الشورى بعزلهم عن مناصبهم.
ومن مهام صاحب المدينة، تفقد السجن العام وما يدور فيه وإخراج بعضهم منه بأمر الأمير أو الخليفة، وإذا مات قاضي الجماعة أو عزل، تولى صاحب المدينة قبض ديوان القاضي، ويتحفظ عليه حتى يعين الأمير قاضٍ آخر.
ونظرًا لأن من رسوم الدولة أن الأمير أو الخليفة إذ أراد الخروج للصيد والنزهة، فإنه لا يسمح لأحد بعبور قنطرة قرطبة أو الاقتراب من مكان النزهة، فإن صاحب المدينة يقوم بهذه المهمة، ومن وجده مخالفًا للأوامر فإنه يحبسه.
كما أن صاحب المدينة يتولى أخذ البيعة الخاصة والعامة للأمير عند توليه للإمارة، وعندما يكون هناك وفد رفيع المستوى، يقوم بزيارة رسمية للدولة، فإن الخليفة يصدر أوامره لصاحب المدينة، بأن يجمع فتيان قرطبة وأحداثها، ويظهروا قوتهم للوفد الزائر، وذلك من خلال حملهم السلاح، وهذا ما قام به الوزير صاحب المدينة جعفر بن عثمان المصحفي في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة وفود جعفر ويحيى ابني علي بن حمدون على الخليفة الحكم المستنصر بالله، وذلك في أواخر شهر ذي القعدة سنة 360هـ / سبتمبر 971م.
كما يتولى تقديم الخلع والهبات للوافدين على الخليفة، ويشرف على نقل بعض الأجهزة الإدارية من موقع لآخر، ومعاقبة المفسدين ومثيري الفتن بسجنهم وتعقب الفارين منهم، وكذلك مطاردة أهل البدع والتضييق عليهم وإخافتهم والزج بمن قبض عليه منهم في السجن.
وبأمر من الخليفة يتولى صاحب المدينة إذلال وتوبيخ من سخط عليه الخليفة، حتى وإن كان من كبار رجالات الدولة. ومن مهام صاحب المدينة تنفيذ أوامر الأمير أو الخليفة باستنفار الناس للجهاد، ولا يأذن لأحد بالتخلف إلا إن كان من أهل الأعذار، أو أن صاحب المدينة تغاضى عنه شريطة ألا يظهر من داره حتى يعود الجيش الغازي، ومن فر من أرض المعركة فإن صاحب المدينة يتولى مسئولية القبض عليه بأمر من الأمير أو الخليفة، وإذا صدرت الأوامر بصلبهم تولى الإشراف على تنفيذه، كما أنه يتولى مصادرة من نكب من رجالات الدولة ومصادرة المقربين إليه.
والأمير أو الخليفة الأموي حريص على صلة رحمه من خلال تفقد أحوالهم، وإن كان الأمر لا يخلو من نظرة أمنية، وصاحب المدينة هو الذي يقوم بهذه المهمة، إذ يعمد إلى تكليف أمناء العطب والنوازل بتحديد يوم من كل أسبوع لا يخلون فيه أبدًا، يقومون فيه بتفقد أحوالهم، وإبلاغ صاحب المدينة بكل شيء، ليرفع ذلك بتفاصيله للخليفة ليرى فيه رأيه.
رسوم صاحب المدينة:
وصاحب المدينة لا يسير إلا في موكب خاص يرافقه أثناء ذهابه إلى مجلسه الكائن بجوار مجلس الخزَّان، في حين أن من جمعت له المدينة مع الشرطة العليا فإنه يستخدم كرسي الشرطة العليا بباب قصر قرطبة أو قصر الزهراء مكانًا له.
ومن رسوم الدولة الأموية في الأندلس أن الوزير صاحب المدينة بقرطبة مقدم على نظيره الوزير صاحب المدينة بالزهراء، ويتضح ذلك من خلال ترتيب جلوسهما أثناء الاحتفالات الرسمية التي تقام في قرطبة، سواء عند السلام على الخليفة لتهنئته بأحد العيدين أو بمناسبة زيارة وفد رفيع المستوى.
ففي الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله عند جلوسه لرعيته، لتهنئته بعيد الفطر سنة 362هـ / يوليو 973م كان الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي يحجب الخليفة عن يمينه، وقام عن يساره صاحب المدينة بالزهراء محمد بن أفلح.
ولكن إذا تعذر جلوس صاحب المدينة بقرطبة عن يمين الخليفة، فعندها يصبح مكانه عن يسار الخليفة، ويجلس تحته صاحب المدينة بالزهراء، وهذا ما جرى في الاحتفال بمناسبة قدوم الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن الناصري من العدوة المغربية، ففي هذا الاحتفال الذي أقيم في يوم السبت لسبع خلون من شهر المحرم سنة 364هـ / سبتمبر 974م جلس الخليفة الحكم المستنصر بالله، وقام للحجابة عن يمينه الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن وعن يساره الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي وتحته محمد بن أفلح صاحب المدينة بالزهراء.
وصاحب المدينة إن لم يحمل لقب وزير، ففي هذه الحالة يكون أقل مرتبة من الوزير، دل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير عبد الرحمن الأوسط ولي عبد الواحد بن يزيد الاسكندراني خطة المدينة، ثم رقاه بعد ذلك إلى الوزارة والقيادة.
وممن تولى خطة المدينة بقرطبة، بالإضافة إلى خطة إحدى المدينتين الزهراء أو الزاهرة، فإنه يطلق عليه لقب "صاحب المدينتين" ولم يرد في المصادر طوال فترة الدراسة أن أحدًا حمل هذا اللقب إلا عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقب بعسكلاجه، فقد ولاه ابن عمه الحاجب المنصور بن أبي عامر مدينة قرطبة، وعندما أتم المنصور بناء مدينة الزاهرة أقامه عليها، فأصبح يلقب بـ"صاحب المدينتين".
مرتب صاحب المدينة:
وكان مرتب صاحب المدينة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط يبلغ مائة دينار، فهو عندما مّيز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها وصير لواليها ثلاثين دينارًا في الشهر ولوالي المدينة مائة دينار".
ونظرًا للوضع الاقتصادي المتميز الذي عاشته الأندلس بالذات في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فمن المتوقع أن يكون مرتبه الشهري قد تجاوز ما كان عليه أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط.
من تولى خطة المدينة:
المصادر الأندلسية لم تورد ذكرًا للقب "صاحب المدينة" قبل عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن هذا اللقب أو المصطلح لم يكن مستعملًا. وبصفة عامة يمكن القول بأن أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، كبير موالي بني أمية بالأندلس، هو أول من قام بأعباء "صاحب المدينة" في الدولة الأموية، ونستشف ذلك من خلال ما أورده أحد المؤرخين من أن الأمير عبد الرحمن الداخل عندما بلغه أن يوسف الفهري والصميل بن حاتم قد استوليا على إلبيره، جمع قواته ثم غادر قرطبة وخلف عليها أبا عثمان، كما كان الأمير عبد الرحمن الداخل يستخلف أحيانًا مولاه بدرًا على قرطبة عند مغادرته لها.
وغير هذين الخبرين لا نجد ذكرًا لصاحب المدينة إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط. ورغم هذا النقص، فإننا لا نعرف من تولى المدينة منذ بداية عهده، إذ نفاجأ بما ذكره ابن القوطية من أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد سئم من كثرة الشكاوى المقدمة إليه ضد كل من تولى المدينة، وكانوا جميعًا من القرطبيين، فأقسم ألا يوليها رجلًا من أهل قرطبة، ثم أخذ يسأل عَمن يستحقها فاستدل على رجل من أهل إحدى الكور، عُرف بالفطنة وحسن العقل، يدعى محمد بن السليم، فاستدعاه وولاه المدينة.
وذكر ابن الفرضي أن ممن تولى المدينة للأمير عبد الرحمن الأوسط، رجلًا يدعى ابن لُبيد، وفي سجنه ختم الفقيه يحيى بن يزيد الأزدي، القرآن أربعين مرة، وفي هذا يقول الفقيه يحيى بن يحيى الليثي، مخاطبًا يحيى الأزدي: "ما أشقى من ختمت القرآن في حبسه أربعين مرة".
وكان الأمير محمد بن عبد الرحمن يداول في ولاية المدينة بين أمية بن عيسى بن شهيد وبين وليد بن عبد الرحمن بن غانم، وذلك لإدراكه رجاحة عقليهما، وأنهما لا يراقبان في أحكامهما إلا الله تعالى.
وفي عهد الأمير المنذر بن محمد كان حفص بن بسيل يلي المدينة.
وورد لدى ابن حيان أن في سنة 281هـ / 894م عزل الأمير عبد الله بن محمد حفص ابن بسيل عن المدينة وجعل مكانه عبد الله بن محمد بن نصر، لكنه لم يستمر في منصبه أكثر من سنة، فقد صُرف وولي مكانه مروان بن عبد الملك بن أمية وذلك سنة 282هـ / 895م ولأمر ما فقد سخط الأمير على ابن أمية فعزله وجعل بدلًا منه أحمد بن محمد بن أبي عبدة سنة 283هـ / 896م. ثم تولى المدينة محمد بن أمية بن عيسى بن شهيد، ولا ندري متى كان ذلك.
لكن خبرًا ورد لدى الخشني أفاد بأنه في سنة 289هـ / 902م كان محمد بن أمية هو صاحب المدينة في ذلك الوقت، وقد تمادى في منصبه إلى أن عزل سنة 293هـ / 906م ووليها محمد بن وليد بن غانم، وكانت ولايته ستة أشهر، ووليها مكانه موسى بن محمد بن حدير الذي عزل عنها سنة 295هـ / 908م ووليها محمد بن عبيد الله بن أبي عثمان، وذلك يوم الخميس، لكنه طلب الإعفاء سريعًا، فعزل ثاني يوم ولايته، وولي مكانه علي بن محمد المعروف باليابسه، الذي لم يستمر أكثر من ثلاثة أيام، إذ سُرعان ما عُزل وأعيد إليها موسى بن محمد بن حدير، فتمادى في ولايتها طيلة ما بقي من عهد الأمير عبد الله، وأقره عليها الأمير عبد الرحمن بن محمد إلى سنة 302هـ / 915م ثم عزله عنها في شهر شوال من تلك السنة، وجعل مكانه محمد بن عبد الله الخروبي، فظل في منصبه إلى أن توفي في أوائل شهر صفر سنة 314هـ / إبريل 926م.
ثم تولى المدينة عيسى بن أحمد بن أبي عبدة، الذي كان إذا غادر قرطبة بصحبة الأمير عبد الرحمن بن محمد، يخلف عليها ولده أحمد بن عيسى. وفي سنة 316هـ / 928م عزل الخليفة عبد الرحمن الناصر أحمد بن عيسى عن المدينة وجعل مكانه أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف، ثم عزله عنها في غرة جمادى الأولى سنة 319هـ/ مايو 931م وولاها يحيى بن يونس القبري، لكنه لم يستمر أكثر من أربعة أشهر، إذ عزل عنها ووليها عبد الحميد بن بسيل وذلك في شهر شوال من تلك السنة واستمر في منصبه إلى أن عزل عنها في شهر شوال من سنة 320هـ / أكتوبر 932م ووليها بدلًا منه فطيس بن أصبغ.
وقد ذكر ابن حيان أنه في شهر ربيع الأول من سنة 326هـ / يناير 938م ولي خطة المدينة الوزير جهور بن عبيد الله مكان أحمد بن عيسى بن أبي عبدة، وفي سنة 327هـ / 939م عزل الوزير جهور عن المدينة ووليها الخال سعيد بن أبي القاسم. وفي سنة 328هـ / 940م تولى المدينة عبيد الله بن بدر بن أحمد بدلًا من ابن أبي القاسم.
وكان جعفر بن عثمان المصحفي يتولى خطة المدينة بقرطبة، بينما كان محمد بن أفلح يشغل خطة المدينة بالزهراء، وذلك في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله. وفي سنة 366هـ / 977م صدر أمر الخليفة هشام المؤيد بالله بتولية محمد ابن عبد الله بن أبي عامر خطة المدينة بقرطبة، بدلًا من محمد بن جعفر المصحفي.
ثم إن ابن أبي عامر استخلف على المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر، الملقب بعسكلاجه "فسلك في أهل الشر سبيله، بل أربى عليه في ذلك". ونظرًا لكفاءة عمرو بن عبد الله فقد ولاه ابن أبي عامر خطة مدينتي قرطبة والزهراء، فأصبح يعرف بصاحب المدينتين. كما تولى مفرج العامري خطة المدينة في زمن المنصور وابنه عبد الملك المظفر، وأما في عهد الحاجب شنجول فقد كان يلي المدينة عبد الله بن عمر الذي قتله الخليفة المهدي عند استيلائه على قرطبة.
توارث خطة المدينة:
خطة المدينة خطة متوارثة، شأنها في ذلك شأن بقية الخطط في الدولة الأموية، ولدينا عدة أسر تعاقب أفرادها على خطة المدينة. فعبيد الله بن عثمان الذي يعتبر أول من تولى خطة المدينة لدى الأمويين، نجد من ذريته محمد بن عبيد الله يلي المدينة في آخر عهد الأمير عبد الله بن محمد، ومن أسرة ابن شهيد تولى المدينة كل من: أمية بن عيسى بن شهيد وولده محمد بن أمية.
ومن أسرة ابن غانم وليد بن عبد الرحمن بن غانم وولده محمد بن وليد، وهناك ثلاثة من أسرة ابن أبي عبدة تولوا المدينة، وهم: أحمد بن محمد بن أبي عابدة وابنه عيسى ومن بعده أحمد بن عيسى.
والأسرة الأموية تحرص على أن تحصر خطط الدولة في أسر معينة؛ ولذا نجد الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما بلغه نبأ وفاة صاحب المدينة بالزهراء محمد بن أفلح يوم السبت إحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 364هـ / فبراير 975م سارع إلى تعيين زياد بن أفلح مكان أخيه المتوفى مجموعة إلى ما بيده من خطتي الخيل والحشم وولاية كورة فريش.
مصدر البحث:
- سالم بن عبد الله الخلف: نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م.
أهم مصادر ومراجع البحث:
- مؤلف مجهول: - أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحرب الواقعة فيما بينهم، نشر: لافونتي أي الكنترا la fuente y alcantara، مع ترجمة إسبانية، مدريد 1867م.
- ابن حيان: المقتبس في أخبار بلد الأندلس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، دار الثقافة، بيروت 1983م.
- ابن حيان: المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، دار الكتاب العربي، بيروت 1973م.
- ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: د. إحسان عباس، الدار العربية للكتب، ليبيا - تونس، 1399هـ / 1979م.
- ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: تحقيق: ج. س. كولان، وليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت، 1983هـ.
- ابن الأبار: الحلة السيراء، تحقيق: د. حسين مؤنس، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1963م.
- ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، عنى بنشره؛ وصححه؛ ووقف على طبعه: السيد عزت العطار الحسيني، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1408هـ / 1988م.
- القاي عياض: - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق: سعيد أحمد غراب، وزميليه، وزارة الثقافة والشئون الإسلامية، المغرب، 1402هـ / 1982م.
- ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1969م.
- الونشريسي: المعيار المعرب والجامع المغرب من فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، بإشراف: د. محمد حجي، نشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للملكة المغربية، 1401هـ / 1981م.
- النباهي: - تاريخ قضاة الأندلس، المسمى بكتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، تحقيق: ليفي بروفنسال، بيروت، بدون تاريخ.
- ابن عبدون: رسالة في القضاء والحسبة (ضمن مجموعة ثلاث رسائل في الحسبة تحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة 1955م.
- الخشني: قضاة قرطبة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966م.
- محمد عبد الوهاب خلاف: تاريخ القضاء في الأندلس، من الفتح إلى نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، 1413هـ / 1992م.
- حسين مؤنس: فجر الأندلس، دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1959م.
- هشام سليم عبد الرحمن أبو رميلة: نظم الحكم في الأندلس في عصر الخلافة، (رسالة ماجستير) مقدمة إلى كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1975م (لم تطبع).
منقول