الإمام شامل هو أحد أشهر المقاومين للوجود الروسي في القوقاز، كما كان قائدًا سياسيًّا ودينيًّا، قاد المقاومة ضدَّ الروس خلال حروب القوقاز، وهو ثالث أئمة الشيشان وداغستان من عام 1834م إلى عام 1859م، لُقِّبَ بأسد القفقاس وصقر الجبال، أرسلت الملكة فيكتوريا إلى شامل علمًا طُرِّزَ عليه ثلاث نجمات؛ تُمَثِّل الشركس والداغستان وجورجيا.
نشأة الإمام شامل
وُلِدَ الإمام شامل علي بن دينغو في قرية غيمري في داغستان عام (1212هـ= 1797م)، آفاري الأصل، والدته باهو ميسادوو كانت آفارية.
أُطلق عليه اسم شامل حسب العادة القفقاسية باعتباره كان كثيرَ المرضِ، وتغيير الاسم كان لإبعادِ الأرواح الشريرة؛ فلُقِّبَ بشامل أو صامويل، كان له صديق مميَّز هو كوناك، الذي اشتُهِر فيما بعد باسم الإمام غازي مولا، وهو أكبر من شامل ببضع سنين.
كان طول شامل 190سم، وكان له حصان أسود اللون ومن سلالة أصيلة، تميَّز شامل بلبس أبيض وأسود مع معطف فضفاض وعمامته حشفتها حمراء، أمَّا رايته فكانت سوداء اللون، درس شامل العربية والفلسفة والفقه والأدب العربي على يد أستاذه جمال الدين وتعمَّق في الصوفية.
وما زالت ذكرى الإمام شامل تعيش في وجدان وذاكرة الداغساتانيين، فلا يخلو مكان من صوره، ويُسَمُّون كثيرًا من أبنائهم باسمه تيمُّنًا به حتى اليوم؛ فهم يعتبرونه بطلاً قوميًّا خاض محاولة بَدَتْ مستحيلة لوقف الزحف الروسي على أراضي مسلمي القوقاز.
لم يُولَد محمد شامل لأسرة معدمة فقيرة؛ حتى يُفَسِّر البعض قتاله من أجل الحرية بأنه قتال الفقراء ضدَّ الأغنياء؛ فقد كان ملايين الفلاحين الروس يُعانون في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي في روسيا من استعباد الإقطاعيين لهم؛ بينما كان علي بن دينغو والد الإمام شامل فلاحًا من الأحرار، أمَّا أُمُّه فهي ابنة سيد الآفار.
غازي مولا
بعد أن مات الإمام منصور أشورما في الأَسر سنة (1208هـ= 1794م) لم يهدأ المسرح الشيشاني إلَّا لعَقْدَيْنِ من الزمان، بعدها كان الإمام غازي مولا قائدًا للمريدين (1) يُكمل الطريق؛ ففي عام (1244هـ= 1829م) بدأ الإمام غازي مولا في تحريك شعوب الجبال نحو حرب مقدسة لمواجهة روسيا، وإن عُرف عنه عدم مشاركته في المعارك، بل اشتُهر بقدرته في التأثير على جنوده بسحر الكلمة وبلاغتها، كما قطع شوطًا كبيرًا في إرسال الدعاة من داغستان إلى سكان الجبال الشيشانية؛ وذلك لتحويلهم من الوثنية إلى الإسلام.
وأمام تماسك قوَّة المريدين اتخذ الروس أسلوب حرق البيوت على ساكنيها؛ كي يُجبروا المقاومين على الخروج، وشنُّوا هجومًا واسعًا إلى أن سقط الإمام غازي مولا في معركة غيمري بين جثث آلاف المريدين، وفي معركة غيمري لم ينجُ إلَّا القليل، وتمكَّن اثنان منهم من الفرار، كان أحدهما شامل، الذي كان قد أُصيب إصابة بالغة كادت تقتله، إلَّا أنه تمكَّن من الاختفاء حتى شُفيت جراحه.
قيادة حمزة بك
بعد مقتل غازي مولا وبعد اعتقاد المريدين بمقتل الإمام شامل في معركة غيمري، اختير حمزة بك مِنْ قِبَلِ المريدين قائدًا بعد تزكيةٍ من كبار الشيوخ، وعَمِلَ حمزة على ترتيب الصفوف وتدعيم قوَّة الجيش، إلَّا أنه لقي الهزيمة، ثم اغتيل وهو يَؤُمُّ المُصَلِّينَ في المسجد الجامع بمعقل المقاومة في هونزا بداغستان.
قيادة الإمام شامل
اختار المريدون الإمام شامل إمامًا بعد وفاة حمزة بك في عام (1250هـ= 1834م)، أعاد شامل تنظيم جيش المريدين على نمط أعدائه الكوزاك بشكل أشبه إلى التنسيق الاتحادي الحديث، كما نظَّم العمل البريدي في دولته، ونسَّق الإنفاق على الجيش من ريع الأراضي الزراعية التي ضُمَّتْ إلى المساجد، كما نظَّم جمع الزكاة لتجهيز الجيش.
إجراءات الإمام شامل لتقوية دولته
1- تركيز أسس الدولة:
بدأ الإمام شامل في دعم ركائز نفوذه في القفقاس المعتمد على الشيشان وداغستان وحلفائهم الأديغة، وامتدَّت منطقة نفوذه من بحر قزوين شرقًا إلى البحر الأسود غربًا.
كان السعي دءوبًا للمساواة بين القوميات، بغضِّ النظر عن اللغة والعرق والطبقة، وذلك في وقت كانت العبودية ما زالت مطبَّقة في روسيا، واستمدَّ شامل من القوانين الإسلامية المنهج الذي نظَّم به الحياة الاجتماعية، وبصفة خاصة شئون القِصَاص والعقاب في الجرائم المدنية، بل إنه تشدَّد في بعض القوانين التي كان القانون -في بعض المذاهب الإسلامية- أكثر اعتدالًا؛ رغبة منه في الحفاظ على أركان دولته.
2- تنظيم الجيش:
كان يقوم تنظيم الجيش على أساس النظام العشري؛ في الأول يأتي المائة نائب وهم أعلى ضباطه رتبة، ثم النُّوَّاب ويُعرفون بالمرشدين، ويصل عددهم حوالي الألف، وكان هناك الحرس الخاصُّ، وكان المريدون يُشَكِّلُون معظم جيش شامل، ومقسَّمين إلى فرق العشرات والمئات والخمس مئات، ولكلِّ فرقة قائد، الجنود يلبسون التشركيسكا بلون بني، واللون الأسود للضباط، والبعض يضع عمامة خضراء ومعطفًا أسود، والرايات سوداء.
3-استخباراته واتصالاته مع مصر:
استفاد الإمام شامل من الأسرى من الضباط الروس ومن المرتدين عن التعاون مع الروس، وقد استفاد من خبرتهم في تطوير قدراته العسكرية على نمط أوربي حديث، وحاول شامل أن يستفيد من القوى الدولية لمساعدته، غير أن عزلة الميدان -الذي يُقاتل فيه- حالت دون تحقيق خُطَّته؛ ففي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي سعى شامل إلى فتح خطِّ اتصال بينه وبين كلٍّ من تركيا وإنجلترا وفرنسا؛ وذلك بهدف أن تُقَدِّم هذه الدول لشامل الدعم العسكري في مقابل تحالفه معها في عدائها لروسيا، وقبل ذلك وفي عام (1256هـ= 1840م) تداول المريدون في داغستان خطابًا يحمل توقيع الخاتم الملكي لمحمد علي باشا، يُفَوِّضُ فيه شامل في قيادة سكان الإقليم، ويَعِدُ بوصول الجيش المصري المتوغِّل في الأراضي التركية إليهم لتقديم العون العسكري في مواجهة الروس، غير أنَّ فشل مشروع محمد علي في تركيا بدَّد آمال المريدين في وصول مدد مصري.
4- استمراره في المقاومة:
استمرَّت المقاومة بقيادة شامل في مسلسل متوالي الحلقات بأسلوب حرب العصابات والكرِّ والفر، إلى أن نَفَّذَ شامل انسحابًا تكتيكًا إلى داخل الجبال، مغريًا الروس بالتوغُّل خلفه عبر الغابات الكثيفة، فانقضَّ عليهم المريدون من جهات مختلفة، واستخدم المقاتلون أحد قارعي الطبول الذين تمَّ أسرهم في العزف لحثِّ الجنود الروس على التوجُّه نحو شرَك أَعَدُّوه، فقتلوا فيه أكثر من نصف ضباط الحملة، وتوالت الهجمات على الجيش الروسي المرتبك؛ ففقد أربعة مدافع من خمسة، ويُقَدِّر المؤرخون نتائج معارك الغابات التي استمرَّت أربع سنوات بنحو 10 آلاف قتيل روسي.
5- استخدامه للمدافع:
تمكَّن شامل بالمدافع الأربعة التي غنمها من الروس من الهجوم عليهم في حصونهم، فأسقط آلاف القتلى، واغتنم في سنتين 14 مدفعًا إضافيًّا؛ بشكل بدا وكأنَّ جيشًا جديدًا يُبْنَى لشامل من المدافع الروسية، التي لم يكن يملكها المريدون، كتب أحد الجنرالات الروس في مذكراته مُعَلِّقًا على ما يرى: «يا لها من مصيبة مفجعة، إن الرجال الذين تناثرت أشلاؤهم هنا كان بمقدورهم فتح بلاد تمتدُّ من اليابان في الشرق إلى أوكرانيا في الغرب».
6- نظرته للغنائم:
حين كان شامل يشعر أن قوَّاته قاتلت من أجل الغنائم كان يُلْقِي الغنائم في بحيرة في الجبل، ويعتقد سكان قرية آندي أنه في مكان ما تحت مياه بركة جبلية في الجوار تُوجد صحون ذهبية، وأزرار، وأغماد سيوف ياقوتية، وأساور وخلاخل زمردية، وكاسات شراب مرجانية وكهرمانية كانت غنائم غارات قفقاسية أُلقيت إلى أسماك البركة؛ وذلك للمحافظة على وحدة الصفِّ.
مكافأة مقابل رأس شامل
حينما رصدت روسيا 45 ألف روبل للإيقاع بالإمام شامل، كتب شامل خطابًا إلى الجنرال الروسي على خط المواجهة، يقول فيه: «كم كانت سعادتي حين علمت أن رأسي تساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيدًا حينما أُخبرك أنَّ رأسك بل رأس القيصر ذاته لا تُساوي لديَّ كوبيكًا واحدًا (الروبل يساوي 100 كوبيك)».
استراتيجية الجنرال بارياتنسكي
وقع الإمام شامل ضحية التسويات الدولية؛ ففي عام (1272هـ= 1856م) انتهت الحرب العثمانية الروسية؛ وهو ما سمح لروسيا بالتركيز بقوَّتها على الجبهة القوقازية بقوَّة 200 ألف رجل، وأوكلت المهمَّة إلى الجنرال الشاب أليكساندر إيفانوفيتش بارياتنسكي في وقت كان شامل قد تخطَّى من عمره الستين، وعكف بارياتنسكي طويلًا على دراسة الجغرافيا العسكرية لمعارك الإمام شامل، وخَلُص إلى أنَّ أهمَّ الانتصارات التي حَقَّقها شامل لم تكن في أرض مفتوحة؛ بل حينما كان يحتمي بالغابة والجبل، واختار سياسة أكثر حنكة عمَّنْ سبقوه، فتقرَّب إلى الأهالي، وأحسن معاملتهم، ومنع التعرُّض للنساء ولغير المقاتلين؛ فضمن عدم انقلابهم عليه في حربه الفاصلة مع الإمام.
ضغط الجنرال بارياتنسكي على قوات شامل حتى لجأ الأخير إلى الاحتماء بالغابات، وهنا سخَّر فرقة عسكرية بأكملها لقطع أشجار الغابات، وبعمل دءوب، وبجنود حملوا الفئوس بدلًا من السلاح أزال بارياتنسكي مساحات واسعة من غابات داغستان والشيشان، وذلك على طول الطرق بين القلاع والحصون الروسية، وفشل جيش شامل في مهاجمة القلاع الروسية، التي صارت أكثر حذرًا تحت أعين بارياتنسكي الساهرة، وبخطوات واثقة زحفت قوات بارياتنسكي على المناطق الخاضعة لشامل، واستمال الروس عشرات القبائل التي أنهكتها الحرب، وبدأت في لوم شامل على ما أصابهم من فقر وتشرُّد.
استسلام الإمام شامل
وبدأت العقلية العسكرية المُسِنَّة تقع في الخطأ القاتل؛ فركن شامل إلى توقُّع الهجوم الروسي من مصدر محدَّد في وقتٍ تمسَّك الروس فيه بسِرِّيَّة المعلومات، وحرَّكُوا جزءًا من جيشهم أوهم شامل أنهم ما زالوا في منتصف الطريق، بينما انقضُّوا عليه من اتجاه آخر بحرب خاطفة، وخدعوا الرجل الذي كان بارعًا في هذا النوع من الهجوم، وحدث ما كان متوَقَّعًا فقد أُسِرَ الإمام شامل، وتمَّ نقله في رحلة طويلة إلى موسكو في موكب بَدَا وكأَنَّه استعراض عسكري بالبطل الذي سقط أخيرًا، وطالب المحاربون القدامى على طول الطريق من ستافربول إلى موسكو بأن يتحدثوا إلى ذلك العدوِّ المهيب.
منقول