سأجمل في هذا المقال ما يعرفه التاريخ وترويه الأساطير من الصلات بين العرب والفرس قبل الإسلام، وعسى أن يكشف التاريخ عن صلات أخرى بين الأمتين، أو يبين عن حقائق تفسر بعض هذه الأساطير.
ويمكن تقسيم الروايات إلى قسمين: ما قبل العهد الساساني وهي أساطير، وما بعده وهي تاريخ أو قريب من التاريخ.
أ. قبل عهد الساسانيين .
الأساطير تتفق عليها الكتب العربية والفارسية، وأعظم مصادرها كتاب الشاهنامة للفردوسي، ومنها:
1. أسطورة الضحاك
وأجمالها أن الضحاك هذا كان ابن أمير عربي من أمراء اليمن أسمه مزداس تمثل له الشيطان في صورة شاب صبيح وزين له قتل أبيه فقتله. ثم تمثل له في صورة طباخ وأعلمه أنه حاذق في تجويد الأطعمة، خبير بأصنافها، فأتخذه الضحاك طباخا له فطبخ له اللحم، وكان الناس من قبل لا يأكلونه، فاستطاب الضحاك ألوان اللحم التي قدمها له طباخه فقربه وركن إليه.
ثم سأل الطباخ سيده أن يأذن له تقبيل كتفيه، فقبلهما ثم ساخ في الأرض فلم يعرف أثره، ونبت على منكبي الضحاك سلعتان كأنهما حيتان فذعر لذلك ، واستدعى الأطباء فلم يهتدوا في أمرهما إلى دواء، وكان الضحاك يحس لهما وجعا ، فتمثل الشيطان في صورة طبيب ، وأشار على الأمير أن يطلي السلعتين بأدمغة البشر، ففعل وسكن الألم، فدأب على ذلك لا يستريح إلا أن يقتل بعض الناس فيدهن بدماغهم حيتيه.
وكان جمشيد ملك الفرس قد عتا وتجبر وادعى الألوهية، ففزع الفرس إلى الضحاك يستغيثونه، فسار اليهم في جند كثيف وتعقب جمشيد حتى قتله ، ثم تسلط على بلاد الفرس وسام الناس ألوان العذاب حتى ثار به جاوه الحداد ودعا الناس إلى تمليك أفريدون ، وحارب أفريدون الضحاك فهزمه، ثم أخذه فقيده وسجنه على جبال دماوند ، ويقال إن جاءوه الحداد حينما أزمع الثورة أخذ الجلدة التي كان يضعها على حجره حين طرق الحديد فعلقها في عصا وجعلها علم الثورة، وأتخذها الفرس من بعد لواءً مقدسا سموه (العلم الجاوى) (دوفش كاوباني).
وإذا نظرنا إلى تواريخ الشهنامة وجدنا الضحاك يتملك على إيران قبل الميلاد بألفين وثمانمائة سنة: وذلك يوافق عهد الدولة البابلية. فإن كان وراء هذه الأسطورة حقيقة فهي تسلط الساميين على إيران، ويؤيد هذا أن كتاب الابستاق يجعل مقر الضحاك مدينة بوري، وهي بابل، وكذلك نجد في نزهة القلوب للقزويني أن بابل كانت مستقر الضحاك ونمرود.
وقد أشار إلى قصة الضحاك أبو تمام إذ قال:
ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدنيا ولا قارون
بل كان كالضحاك في سطواته ... بالعالمين وأنت أفريدون
وأفتخر أبو نواس في قصيدته التي يفخر فيها بقومه القحطانيين:
وكان منا الضحاك يعبده ال ... خابل والجن في مساريها.
2. وفي الشاهنامة وغيرها من الكتب العربية والفارسية أن أفريدون زوج أبناءه الثلاثة (تورا) و (سلما) و (ايرج) من ثلاث بنات لملك من ملوك اليمن، وأفريدون عند الآريين يشبه نوحا عند الساميين، نسل من أبنائه الثلاثة خلق كثير، فتور أبو ملوك توران! وايرج ابو ملوك إيران وسلم أبو ملوك الروم، فالمصاهرة بين أفريدون وملك اليمن تجعل العربأخوال كل من نسل من بني أفريدون.
3. وكذلك نجد في الأساطير الفارسية أن مهراب ملك كابل في عهد الملك منوجهر عربي من نسل الضحاك، وأن (زال) بن سام تزوج بنت مهراب فولدت له رستم بطل أبطال الفرس، فرستم إذن له خؤولة في العرب.
4. ومن الروايات التي هي أقرب إلى التاريخ مما تقدم حرب كيكاوس وملك هاماوران (حمير) وأسر كيكاوس في بلاد اليمن، وتنازع أفراسياب ملك التورانيين، العرب على ملك إيران، ثم ذهاب رستم إلى اليمن وتخليص كيكاوس. ويقول أبو نواس في القصيدة التي ذكرتها آنفا:
وقاض قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت لحسابها وكان الكيكاوس، في القرن العاشر قبل الميلاد في حساب الشاهنامه ، وفي بعض الكتب العربية أن ملك اليمن اذ ذاك كان ذا الأزعار أبن أبرهة ذي المنار بن الرائش.
5. ومما تقصه الروايات في هذا العهد عهد الكيانيين الحرب بين داراب وبين رجل عربي اسمه شعيب بن قتيب. وداراب هذا هو، في غالب الظن، داريوس أخوس (424 - 404 ق. م) وأعظم الحوادث في عهد الساسانيين وهو أقرب إلى التاريخ وكثير من حوادثه واقعات تأريخيه:
ب - بعد عهد الساسانيين:
1. قصة سابور الأول (241 - 272م) وملك الحضر، وهو الضيزن بن معاوية القضاعي، أو الساطرون كما في بعض الكتب، وذلك أن الضيزن أغار على فارس وأسر أخت سابور أو عمته، فسار سابور إليه وحاصر الحضر حتى استولى عليه بخيانة بنت الضيزن.
والحضر كان مدينة بالجزيرة الفراتية على أربعين ميلا من دجلة نحو الغرب إزاء تكريت، وعلى مائتي ميل إلى الشمال من بغداد، ولا تزال أطلالها بما كان من عظمها ومنعتها، ويقول الهمذاني في كتاب البلدان:
(كانت مبنية بالحجارة المهدمة بيوتها وسقوفها وأبوابها. وكان فيها ستون برجا كبارا، وبين البرج والآخر تسعة صغار) ويقول ياقوت: (فأما في هذا الزمان فلم يبق من الحضر إلا رسم السور ، وآثار تدل على عظمه وجلاله) وقد حاصره الإمبراطور تراجان وسفريوس فلم يقدرا عليه.
وقد روى ياقوت في قصة الحضر شعرا لعدى بن زيد والأعشى وروى الطبري شعرا لأبي دؤاد الأيادي ، والشاهنامة تجعل الواقعة في زمن سابور ذي الأكتاف وتخلط بعض الحادثة ببعض.
2. ومن ذلك ما وقع بين أذينة ملك تدمر وسابور الأول أيضا: فقد أغار أذينة على جيش سابور وهو راجع مظفراً من حرب فلريان إمبراطور الروم، فانهزم الجيش الفارسي وتعقبه أذينة. وقد اغتبط الروم بما فعل أذينة فاثابوه ولقبوه (أغسطس).
3. ومن قصة سابور ذى الاكتناف (309 - 379) والعرب.
يروى أن بعض العرب أغار على بلاده فحاربهم في خوزستان ثم عبر الخليج إلى البحرين وهجر واليمامة، ثم سار إلى الشمال فحارب بني بكر وغيرهم، وأنزل بعض القبائل غير منازلهم:
أنزل بني تغلب بدارين والخط، وبعض بكر بصحارى كرمان، وبعض عبد القيس وتميم في هجر واليمامة، وبني حنظلة بالصحارى التي بين الأهواز والبصرة.
ويقال إنه سمى ذا الأكتاف لأنه خرق أكتاف الأسرى من العرب ونظمهم في الحبال.
وكذلك كانت أحداث بين العرب ولا سيما أياد وبين سابور بن سابور ذي الأكتاف ، ذكر بعضها المسعودي في الجزء الأول من المروج ، وفيها يقول بعض الشعراء:
على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب أياد حولها الخيل والنعم
ويقول الحارث بن جنده (الهرمزان):
هم ملكوا جميع الناس طراً ... وهم ربقوا هرقلا بالسواد
وهم قتلوا أبا قابوس عصبا ... وهم أخذوا البسيطة من أياد
وتكثر الأحداث بين الفرس وقبائل الشمال عامة ولا سيما ربيعة التي كانت تسمى ربيعة الأسد لجرأتها على الأكاسرة.
4. والصلات بين أمراء الحيرة والفرس منذ نشأت الدولة الساسانية في القرن الثالث الميلادي ليست في حاجة إلى البيان، فحسبي أن أذكر من الحوادث ما يبين عن مكانة المناذرة في دولة الفرس وقوتهم:
عهد يزدجرد (399 - 402) إلى المنذر الأول بتربية ابنه بهرام فنشأ في الحيرة حتى بلغ الثامنة عشرة، وتعلم الفروسية والرماية حتى صار مضرب المثل في الرمي بالنشاب، ثم رجع إلى أبيه فغلبه الشوق إلى الحيرة، حتى توسل برسول ملك الروم إلى أبيه ليأذن له في العودة إلى الحيرة فبقي بها حتى توفي يزدجرد. وأزمع أعيان الفرس ألا يولوا من بني يزدجرد أحدا. فأيد المنذر وابنه النعمان بهرام وأمداه بالجند حتى أرغما الكارهين على تمليكه.
وفي روايات الأدب الفارسي أن بهرام هذا أول من شعر بالفارسية، أخذ الشعر عن العرب ، وفي كتب الأدب شعر فارسي مروى عن بهرام، وكذلك تروى الكتب العربية شعراً عربياً كما روى المسعودي في المروج:
أقول له لما فضضت جموعه ... كأنك لم تسمع بصولات بهرام
فأني حامي ملك فارس كلها ... وما خير ملك لا يكون له حامي
ويروى المسعودي أبياتا أخرى ويقول. . وله أشعار كثيرة بالفارسية والعربية أعرضنا عن ذكرها في هذا الموضع طلبا للإيجاز.
وقد حارب المنذر الرومان انتصارا للفرس وهزم جيوشهم سنة 421م، وكذلك حاربهم المنذر الثالث ابن ماء السماء وتعقبهم إلى إنطاكية حتى استنجد جستنيان الحارث الأعرج الغساني، فكانت وقائع بين الأميرين العربيين أسر فيها المنذر ابناً للحارث فقربه للعزى (صنم) وانتهت بقتل المنذر في موقعة عين أباغ أو يوم حليمة.
5. وفي عهد قباذ حينما اضطرب أمر الفرس بفتنة مزدك أغار الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة وأخرج منها المنذر أبن ماء السماء، وصادف ذلك هوى في نفس قباذ فأيد الحارث. ويروى أنه أرسله لحرب أحد تبابعة اليمن، فلما ولى كسرى أنوشروان رد إمرة الحيرة إلى المنذر.
6. وفي عهد كسرى برويز حوالي 610م كانت موقعة ذي قار. وذلك أن كسرى برويز قتل النعمان أبا قابوس. وطلب ودائعه عند هانئ بن مسعود الشيباني فأبى إسلامها، وكان كسرى قد ولى أياس ابن قبيصة الطائي على الحيرة. فسار أياس في جموع من الفرس والعرب: طئ وبهراء وأياد وتغلب والنمر، فلقيهم بنو شيبان في جموع من بكر ووقعت الحرب وتمادت ثلاثة أيام آخرها يوم ذي قار، ودارة الدائرة على الفرس وأنصارهم.
وفي يوم ذي قار يقول أبو تمام يمدح أبا دلف الشيباني:
إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها ... وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
ويقول مادحا يزيد بن مزيد الشيباني:
أولاك بنو الأفضل لولا فعالهم ... درجن فلم يوجد لمكرمة عقب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد ... وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صهب الأعاجم أنه ... به أعربت عن ذات أنفسها العرب هو المشهد الفرد الذي ما تجابه ... لكسرى بن كسرى لاسنام ولاصلب
هذه صلات الفرس وعرب الشمال. وكان للفرس مع هذا سلطان على ساحل الجزيرة الشرقي واليمن:
حاول الحبش الاستيلاء على اليمن في القرن الثاني الميلادي وأتيح لهم أن يستولوا على بعض مدنه في القرن الثالث، ثم أخرجهم الحميريون، فلما تنصر الحبش في القرن الرابع أيدهم الرومان على الحميريين ففتحوا اليمن سنة 374. ويظهر أن الفرس طمحوا إلى اليمن منذ ذلك الحين، فقد كان النزاع الذي شجر بينهم وبين الروم منذ قامت الدولة الساسانية حرياً أن يلفت الفرس إلى اليمن بعد أن تألب عليه أعداؤهم الألداء والحبش.
ولسنا ندري من أخبار الفرس في اليمن شيئا قبل القرن السادس الميلادي، إذ تهود تبع ذونواس وأكره النصارى على التهود وعذبهم، فغضب لهم الروم والحبشوأمد الإمبراطور جستنيان الحبش وسلطهم على اليمن، حتى استغاث سيف بن ذي يزن كسرى أنو شروان فأمده بجيش حملته السفن في الخليج الفارسي إلى عمان، ثم سار في البر وأنحاز إليه أهل اليمن فهزموا الجيش، وتولى الفرس البلاد وجعلوا عليها أميراً عربياً فقتله حرسه الحبشي فاستقل بأمر البلاد ولاة من الفرس توالوا عليها حتى جاء الإسلام والوالي يومئذ بأذان. وقد أسلم الفرس في اليمن وأخلصوا للإسلام وكانوا عوناً على الثائرين في حروب الردة وهم قتلوا الأسود العنسي، وعرف من رؤسائهم النعمان بن بزرك وفيروز الديلمي ومركبود، وهو أول من حفظ القرآن في صنعاء فيما يقال.
وكذلك كان للفرس سلطان على البحرين وجاء الإسلام وفي اليمن فرس مستوطنون ومرزبان اسمه سيبخت، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب اليه فاسلم، وكان لفيروز المعروف بالمكعبر زعامة في حروب الردة هنالك.
وكانت التجارة تتردد بين بلاد الفرس واليمن في حفارة قبائل لها جعل من ملوك الفرس: قال صاحب الأغاني في الحرب التي كانت بين بني تميم والفرس وأحلافهم: (وأما ما وجد عن ابن الكلبي في كتاب حماد الراوية فإن كسرى بعث إلى عاملة باليمن بعير، وكان بأذان على الجيش الذي بعثه كسرى على اليمن. وكانت العير تحمل نبعا فكانت تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان ويبذرقها النعمان بخفراء من ربيعة ومضر حتى يدفعها إلى هوذة بن علي الحنفي فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة ثم تدفع إلى سعد (من تميم) وتجعل لهم جعالة فتسير فيها فيدفعونها إلى عمال بأذان باليمن).
هذا خلاصة ما يريه التاريخ والاساطير، ولعله يكون مقدمة لبحث واسع في صلات الأمتين العظيمتين قبل الإسلام.
منقول