يمثل شمس الدين السخاوي شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي، كما ملأت شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن، فالسخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين.
نسبه ونشأته:
هو الشيخ الإمام، العالم العلامة المسند، الحافظ المتقن شمس الدين أبو الخير السخاوي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان، السخاوي الأصل القاهري الشافعي. ولد بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين، في ربيع الأول سنة831هـ / 1428م في أسرة أصلها من بلدة سخا من أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. ولما بلغ الرابعة من عمره تحولت أسرته إلى منزل جديد في نفس الحي اشتراه أبوه؛ وكان موقعه بجوار دار علامة العصر الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وكان لهذا الجوار أكبر أثر في حياة السخاوي، كما سنرى.
ابتدأ تحصيل العلوم الشرعية في سنٍّ مبكرة، فحفظ القرآن وجوَّده، ثم حفظ كثيرًا من المتون في مختلف الفنون، وقابل الشيوخ وأهل العلم في عصره وأخذ عنهم، وأخذ عن جماعة لا يحصون يزيدون على أربعمائة نفس. فقد أنفق السخاوي بضعة أعوام في المكتب وحفظ القرآن؛ ثم أخذ يطوف بأشياخ العصر يتلقى عنهم مختلف العلوم والفنون؛ ودرس النحو والعروض واللغة والفقه والحساب والميقات والأصول والبيان والتفسير والمنطق؛ وهنا يعدد لنا السخاوي ثبت أساتذته وما أخذه عن كل منهم، وما درسه من مختلف الكتب؛ وتجلت مواهبه ومقدرته بسرعة مدهشة؛ وأجاز له الكثيرون من شيوخه، بل أجازوا له الإفتاء ولما يبلغ العشرين بعد.
ابن حجر شيخ السخاوي الأول:
وقد كان ابن حجر في مقدمة أساتذته؛ وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعًا من العبادة الروحية لهذا الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين. والواقع أن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية، وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم العصر، ولا سيما الحديث والشريعة.
وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة 838هـ، أي وهو طفل لم يجاوز الثامنة؛ وكان يذهب مع أبيه ليلًا إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في الحديث. ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثًا عن نفسه: "وقبل ذلك كله سمع مع والده ليلًا الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن. وأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه .. وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علمًا جمًا، واختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر .. وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه على ذلك فكان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله؛ يأمره للمجيء للقراءة".
وهنا يفيض السخاوي في ذكر الكتب والمتون التي قرأها ودرسها على شيخه ابن حجر، سواء من تصنيفه أو تصنيف غيره، ومعظمها في الحديث، ودرس عليه أيضًا التاريخ والتراجم؛ ودرس في الوقت نفسه على كثير من شيوخ العصر؛ ويعدد لنا السخاوي كثيرًا من شيوخه، ويقول لنا إنهم بلغوا أكثر من أربعمائة؛ بيد أن ابن حجر كان دائمًا إمامه وشيخه المفضل، وقد أذن له غير بعيد في الإقراء والإفادة والتصنيف؛ ويقول لنا السخاوي إنه لم ينفك عن ملازمة أستاذه، ولا عدل له بملازمة غيره من علماء الفنون خوفًا على نقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية بل ولا حج إلا بعد وفاته؛ لكنه حمل عن شيوخ مصر الواردين إليها كثيرًا، وفي الأوقات التي لا تعارض وأوقاته سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه. وقد لبثت هذه العلاقة الوثيقة بين التلميذ وشيخه حتى توفى ابن حجر في أواخر سنة 852هـ.
رحلات السخاوي العلمية:
وهنا تبدأ المرحلة الثانية في حياة السخاوي؛ وهي مرحلة درس وتحصيل أيضًا ولكن خارج مصر. فبعد وفاة ابن حجر، ارتحل السخاوي إلى عدد كبير من البلدان لتحصيل العلم، ففي مصر سافر إلى دمياط والمنصورة والرشيد .. إلخ. ثم رحل إلى مكة والمدينة ودمشق وحلب وبيت المقدس ونابلس، وسَمِعَ في هذه البلدان لعدد كبير من علمائها وأخذ عنهم.
كان السخاوي يومئذ في الثانية والعشرين من عمره؛ ولكنه كان رغم حداثته قد برز في كثير من العلوم التي تلقاها؛ وكان قد استأثر في هذه الأعوام الطويلة التي قضاها إلى جانب ابن حجر بكثير من علمه ومعارفه، وتأثر أعظم تأثير بأساليبه ومناهجه؛ بل نستطيع أن نقول إن السخاوي كان بعد ابن حجر، مستودع علمه وتراثه، وكان أشد تلاميذه تمثيلًا لمدرسته؛ بل كان بعد شيخه زعيم هذه المدرسة وأستاذها القوي يرفع لواءها ويحمل مناهجها حتى خاتمة القرن التاسع؛ وقد أشار ابن حجر نفسه في أواخر أيامه إلى تلك الحقيقة، وكثيرا ما وصف السخاوي بأنه (أمثل جماعته) أو (ممثل جماعته).
وسافر السخاوي عقب وفاة أستاذه إلى دمياط ودرس على شيوخها حينًا؛ ثم سافر مع والدته بحرًا إلى مكة ليؤدّي فريضة الحج؛ وانتهز هذه الفرصة فدرس على شيوخ مكة والمدينة، وطاف بالبقاع والمشاهد المقدسة كلها؛ ثم عاد إلى مصر، وسافر إلى الإسكندرية وقرأ بها مدى حين؛ وزار معظم عواصم الوجه البحري وقرأ على شيوخها الأعلام جميعًا، وحصل كثيرًا من الفوائد والمعارف. ثم رأى أن يقوم برحلة إلى الشام ليزور معاهدها، ويتعرف بشيوخها؛ فسافر إلى فلسطين وطاف بيت المقدس والخليل ونابلس؛ ثم قصد إلى الشام، وزار دمشق وحمص وحماه، ثم استقر حينًا في حلب؛ كل ذلك وهو يدرس ويقرأ على أعلام هذه العواصم؛ ويقول لنا إنه "اجتمع له في هذه الرحلة من الروايات بالسماع والقراءة ما يفوق الوصف".
ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف. ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة، ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام.
السخاوي شيخ مصر الأول:
ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحيانًا بمنزله، وأحيانًا بخانقاه (معهد) الصوفية المعروف بسعيد السعداء؛ وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب. وفي سنة 870هـ سافر مع أسرته وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد، ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية؛ وصحبه أيضًا في تلك الرحلة صديقه وأستاذه النجم بن فهد الهاشمي وكان من أعلام العصر. ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره. ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته؛ وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث، وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عامًا.
ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة 885هـ، وقضى بمكة عامًا في التدريس والدرس؛ ثم حج سنة 87 وقضى ثمة حين في الدرس والإقراء؛ وحج للمرة الخامسة في سنة 892هـ وقضى ثمة عامًا آخر في الدرس والإقراء؛ ثمّ حج في سنة 894هـ، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطنًا ثانيًا له؛ وكتب بها كثيرًا من مؤلفاته.
ولما عاد إلى القاهرة في سنة 898هـ استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة (ترفعًا عن مزاحمة الأدعياء) حسب قوله، وترك الإفتاء أيضًا واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه؛ وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره، ولكنه استمر منكبًا على الدرس والتأليف؛ وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي؛ وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما في الشام والحجاز حيث تلقى عليه مئات العلماء والطلاب.
ولبث السخاوي رغم مكانته العلمية الرفيعة ونفوذه القوي بعيدًا عن ميدان السياسة ودسائس البلاط والمناصب الرسمية؛ واقترح عليه صديقه الأمير يشبك الداوادار أن يقرأ التاريخ بمجلس السلطان الظاهر خشقدم فأبى؛ ثم عرض عليه أن يتولّى القضاء بعد ذلك، فاعتذر وأشار بتعيين خصمه ومنافسه السيوطي رغم ما كان بينهما من الخصومات الأدبية الشهيرة.
مما قاله العلماء في حق السخاوي:
ذكر الكثير من العلماء ممن تعرضوا لترجمة الحافظ السخاوي العديد من مناقبه مما يبين علو منزلته ومكانته، فهذا ابن العماد الحنبلي يقول فيه: "وانتهى إليه علم الجرح والتعديل، حتى قيل: لم يكن بعد الذهبي أحد سلك مسلكه". وبعد أن ذكر الشوكاني ترجمته في البدر الطالع قال: "وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من الْأَئِمَّة الأكابر حَتَّى قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ جَار الله بن فَهد فِيمَا كتبه عقب تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة لنَفسِهِ فِي الضَّوْء اللامع ما نصه: قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ جَار الله بن فَهد المكي إن شَيخنَا صَاحب التَّرْجَمَة حقيق بِمَا ذكره لنَفسِهِ من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة، وَلَقَد وَالله الْعَظِيم لم أر فِي الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين مثله .. وَلَا أعلم الْآن من يعرف عُلُوم الحَدِيث مثله وَلَا أَكثر تصنيفا وَلَا أحسن، وَكَذَلِكَ أَخذهَا عَنهُ عُلَمَاء الْآفَاق من الْمَشَايِخ والطلبة والرفاق، وَله الْيَد الطُّولى فِي الْمعرفَة بأسماء الرِّجَال وأحوال الروَاة وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل وَإِلَيْهِ يشار فِي ذَلِك، وَلَقَد قَالَ بعض الْعلمَاء لم يَأْتِ بعد الْحَافِظ الذهبى مثله سلك هَذَا الْمسك، وَبعده مَاتَ فن الحَدِيث وأسف النَّاس على فَقده، وَلم يخلف بعده مثله".
ومما قاله الشوكاني كذلك: "ولو لم يكن لصَاحب الترجمة من التصانيف إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته".
مؤلفات السخاوي الحديثية:
وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه؛ ولقد تلقينا منه الكثير، وتلقينا بالأخص أهمه وأقيمه. ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد رسائله ومؤلفاته؛ ويستغرق تعدادها عدة صفحات من ترجمته؛ ويضم هذا الثبت الحافل كتبًا ورسائل في عدة فنون مختلفة؛ ولكنا نستطيع بوجه عام أن نقسم آثاره إلى قسمين: قسم الحديث، وقسم التاريخ.
وقد كان السخاوي كما رأينا محدثًا كبيرًا، انتهى إليه علم الحديث في عصره؛ بيد أنه كان أيضًا مؤرخًا بارعًا، ونقادة لايجاري؛ والجمع بين الحديث والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة، والطبري، والذهبي؛ وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق؛ وهكذا كان السخاوي محدثًا ومؤرخًا؛ وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث؛ وهذه الصبغة النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها.
ويحدثنا السخاوي في ترجمته بأنه شرع في التأليف (قبل الخمسين)؛ ولكن هنالك ما يدل على أنه وضع بعض التصانيف قبل سنة 870هـ، أعني وهو في نحو الأربعين من عمره؛ فهو يحدثنا أنه لما حج للمرة الأولى سنة 870هـ، قرأ بعض تصانيفه في مكة، وإذا فهو قد بدأ التأليف في سن متقدمة؛ بيد أنه أنفق شبابه في استيعاب النصوص والمراجع، ونزل ميدان التأليف مزودًا بمادة غزيرة؛ ولبث مدى الثلاثين عامًا التالية يخرج الكتب والرسائل تباعًا، ولم ينقطع عن الكتابة حتى أعوام حياته الأخيرة.
وبدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل يعنى بتعدادها في ترجمته، ولكنا لم نتلق منها سوى القليل؛ وأشهرها كتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة)، وهو من كتب الحديث المتداولة، ومنها (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) و (الغاية في شرح الهداية) و (الأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة) و (شرح الشمائل النبوية للترمذي) و (التحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة)، وعدة كتب ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، ولا يتسع هذا المقام لذكرها.
وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضًا عدة رسائل عن رحلاته المختلفة؛ منها الرحلة السكندرية وتراجمها؛ الرحلة الحلبية وتراجمها؛ الرحلة المكية؛ والثبت المصري؛ وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك الأنحاء؛ ووضع كتابًا في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه (بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي).
مؤلفات السخاوي التاريخية:
على أن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها ومواهبها؛ وقد انتهت إلينا نخبة من هذا التراث القيم.
التبر المسبوك في ذيل السلوك:
ومن الصعب أن نتتبع الترتيب الزمني في استعراض هذه الآثار، ولكن يلوح لنا أن السخاوي قد استهل مجهوده التاريخي بوضع كتاب (التبر المسبوك في ذيل السلوك) والسلوك الذي وضع هذا الكتاب ذيلًا له هو كتاب (السلوك في دول الملوك) لتلقي الدين المقريزي، وقد تناول فيه تاريخ دول المماليك المصرية حتى سنة844هـ؛ وتناول السخاوي في كتابه تاريخ مصر الإسلامية من سنة 845 - 857هـ؛ وكتبه كما يقرر في مقدمته نزولًا على رغبة الداوادار يشبك المهدي وزير السلطان الظاهر خشقدم؛ وعني السخاوي بتدوين حوادث هذه الفترة المعاصرة بإسهاب، وذيل كل عام بوفيات أعيانه، واتبع فيه طريقة الترتيب الزمني.
ذيل رفع الأصر:
وكتب السخاوي أيضًا ذيلًا لكتاب شيخه ابن حجر (رفع الأصر عن قضاة مصر) وهو الذي يتناول فيه تراجم القضاة المصريين حتى عصره، وسماه (ذيل رفع الأصر)، وفيه يتناول تراجم القضاة المصريين حيث وقف شيخه ابن حجر.
الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع:
وأعظم آثار السخاوي بلا ريب هو كتابه الضخم (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع)، وهو موسوعة حافلة تقع في عدة مجلدات وينم عنوانها عن موضوعها، ويبسط لنا السخاوي موضوع كتابه في ديباجته على النحو الآتي: "فهذا كتاب جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثمانمائة، ختم بالحسنى، من سائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء، والخلفاء والملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء، مصريًا كان أو شاميًا، حجازيًا أو يمنيًا، روميًا أو هنديًا، مشرقيًا أو مغربيًا، بل وذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة".
وقد هيأت حياة السخاوي نفسه وتجواله في مصر والشام والحجاز؛ ولقاؤه لمئات العلماء والأدباء في عواصم هذه الأقطار، وما قيده عنهم في مختلف رحلاته، مادة حسنة لكتابة المستقبل. وأنفق السخاوي بلا ريب أعوامًا طويلة في إعداد مواده وتنظيمها واستكمالها؛ والظاهر أنه لم يبدأ في كتابة معجمه إلا في أواخر القرن التاسع حوالي 890هـ واستمر في الكتابة فيه حتى سنة 897هـ أو 898هـ؛ يدل على ذلك أنه يصل في ترجمة نفسه حوادث حياته حتى سنة 897هـ، وأنه يذكر ضمن كتبه (كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وقد كتبه حسبما يقرر في خاتمته بمكة سنة 897هـ؛ هذا فضلًا عن أنه يترجم لكثيرين توفوا سنة 897هـ.
ويمتاز (الضوء اللامع) بقوة فائقة في التصوير ليس لها نظير في كتب التراجم الإسلامية، ويمتاز بالأخص بروحه النقدية اللاذعة؛ وهنا يبدو السخاوي في أعظم خواصه وكفاياته الأديبة نقاده لا يجارى؛ بيد أن هذه النزعة النقدية تحمله بعيدًا في مواطن كثيرة، فينزع عندئذ إلى التجريح والهدم بقسوة، ويطبع نقده تحامل بين؛ وقد ترجم السخاوي كثيرًا من أقطاب العصر، ولكن أحدًا منهم - إلا شيخه ابن حجر - لم ينج من تجريحه اللاذع؛ وتراجم المقريزي وأبن خلدون وأبن تغري بردى والسيوطي أمثلة واضحة لهذه النزعة الهدامة.
الشافي من الألم في وفيات الأمم:
وكتب السخاوي إلى جانب الضوء اللامع كتبًا أخرى في التراجم منها حسبما يذكر كتاب (الشافي من الألم في وفيات الأمم) وهو ثبت لوفيات الأعيان في القرنين الثامن والتاسع مرتب حسب السنين، وعدة تراجم مطولة لبعض الأئمة.
كتاب الجوهر والدرر:
بيد أنه لم يصلنا من هذه الكتب سوى ترجمة شيخه ابن حجر في مجلد ضخم أسماه (كتاب الجوهر والدرر)، وفي خاتمته ما يفيد أن السخاوي كتبه في مكة سنة 871هـ؛ وفيه يتحدث بإفاضة عن نشأة أبن حجر، وتربيته، وصفاته، ومواهبه، وعن حلقاته ودروسه وتصانيفه، ثم يورد مختاراته من كلامه وفتاويه، وما قيل في رثائه من نثر ونظم.
كتب تاريخية أخرى للسخاوي:
وهناك عدة مؤلفات تاريخية أخرى يذكر السخاوي أنه كتبها، ولكنها لم تصل إلينا مثل (التاريخ المحيط) الذي يشغل ثلاثمائة رزمة، وتاريخ المدنيين، وتلخيص تاريخ اليمن، ومنتقى تاريخ مكة، ثم طائفة أخرى منوعة منها: ختم السيرة النبوية لأبن هشام، القول النافع في بيان المساجد والجوامع، القول التام في فضل الرمي بالسهام، عمدة المحتج في حكم الشطرنج، الكنز المدخر في فتأوي شيخه أبن حجر، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع؛ ومن هذا الأخير نسخة بدار الكتب.
تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات:
ونجد أخيرًا في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا؛ أولهما كتاب (تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) وهو دليل لخطط المشاهد والمزارات والبقاع المقدسة، ولا سيما مصر القاهرة؛ وفيه وصف لأحياء مصر القاهرة التي تقع فيها هذه المشاهد في أواخر القرن التاسع؛ وذكر لكثير من المشاهد والمدافن التي لم يمن بها المقريزي في خططه، ولا يزال الكثير منها باقيًا إلى اليوم؛ ومن ثم كانت أهمية الكتاب في تاريخ الخطط المصرية، إذ نستطيع بالرجوع إلى معالمه أن نحدد كثيرًا من مواقع القاهرة القديمة وأحيائها وشوارعها في القرن التاسع الهجري.
الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ:
وأما الثاني، فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وهو رسالة نقدية قيمة، يعرف السخاوي فيها علم التاريخ ويشيد بفضله؛ ويتناول طائفة كبيرة من المسائل والمباحث النقدية التي تدخل في حيز التاريخ؛ ثم يذيلها ببيانات ضافية لجميع المؤلفات التاريخية الإسلامية التي ظهرت في مختلف أبواب التاريخ وعصوره، مثل كتب السيرة، وكتب التراجم المختلفة، وما ألف في تواريخ الطوائف والجماعات المختلفة، مثل تواريخ القضاة والحفاظ والشعراء واللغويين والأطباء والأشراف والأدباء والعشاق والصوفية وغيرهم؛ فهو بذلك فهرس بديع شامل لأمهات الكتب التي وضعت في هذه النواحي المختلفة، ويتخلل ذلك مواقف نقدية كثيرة تجعل لهذا الأثر قيمة خاصة.
وقد أقام السخاوي بهذا الكتاب نصبًا قيِّمًا لعلم التأريخ العربي، والكتاب كما يدل عليه العنوان كان ذا صفة اعتذارية، وقد كُتِبَ للدفاع عن دراسة التأريخ موضوعًا ثقافيًا مساعدًا في مناهج الدراسة الدينية. كما أنه يقدم عرضًا شاملًا، وأحيانًا رائعًا، لعلم التاريخ الإسلامي وآماله ومعضلاته لمن يعرف كيف يقرأه.
يتكون كتاب "الإعلان بالتوبيخ" من ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
يتناول بعض الملاحظات العامة عن طبيعة علم التاريخ، فعرَّف التاريخ لغة (الإعلام بالوقت)، وإصطلاحًا (التعريف بالوقت الذي تُضبَطُ به الأحوال) وحدد موضوعه (الإنسان والزمان، وفائدة التاريخ (معرفة الأمور على وجهها).
فحدَّ السخاوي من أفق هذا العلم، وجعله علمًا فرعيًا مساعدًا لعلم الحديث بتحقيق تواريخ ميلاد الرواة أو وفاتهم، والتثبُّت من صحة رواة الحديث أو عدم صحتهم وتقديم مادة نافعة في تفسير القرآن الكريم، وإضافة إلى ما سبق فهو حافل بالعبر والمواعظ، وأفرد السخاوي بحثًا عن ذم ناقدي التاريخ، كما حدد شروط المؤرخ ومنها: العدالة مع الضبط التام، والتمييز بين المقبول والمردود مما يصل إليه من ذلك، والمحاباة المفضية للعصبية، ويشترط على المؤرخ ألا يكون جاهلًا بمراتب العلوم، ولاسيما الفروع والأصول، كما يحتاج إلى مصاحبة الورع والتقوى.
القسم الثاني:
خصَّه لكتب التاريخ كما وردت في تصنيف الذهبي.
القسم الثالث:
يتضمن سردًا لكتب التاريخ تبعًا لتصنيف السخاوي قصد أن تكون تكملة للذهبي، ومنها على سبيل المثال: الرسول والأنبياء، الصحابة، الأشراف، آل أبي طالب وآل علي، الرواة المعتمدون، وغيرهم.
فما بين الرواية الشفوية القديمة وفلسفة التاريخ للعلامة ابن خلدون وتاريخ التاريخ للسخاوي قد نما التاريخ عند العرب وتفرع وأزهر وأثمر.
وفاة الإمام السخاوي:
أقام السخاوي حينًا في القاهرة؛ ثم سافر إلى مكة ليحج للمرة السابعة؛ وعكف بعد أداء الفريضة على الإقراء والدرس، وتردد حينًا بين مكة والمدينة؛ ثم استقر أخيرًا بالمدينة؛ واستمر في الإقراء بها حتى توفّى فِي عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902هـ / 1497م، في في الحادية والسبعين من عمره، ودفن بالبقيع بجوار مشهد الإمام مالك. فرحمه الله رحمة واسعة.
ولا ريب أن مجال البحث والقول يتسع لأضعاف هذا العرض الموجز، إذا أردنا أن نفي شخصية السخاوي ونواحيه الأدبية والنقدية المتعددة حقها من التحليل والبحث؛ وقد كان السخاوي بلا ريب من أعظم شخصيات مصر الإسلامية والعالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري.
المصادر والمراجع:
- السخاوي: الابتهاج بأذكار المسافر والحاج، تحقيق أحمد مصطفى الطهطاوي، بإشراف أحمد يوسف الدقاق، بلا تاريخ.
- السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار مكتبة الحياة، بيروت.
- السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ.
- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناءوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناءوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ / 1986م.
- محمد عبد الله عنان: شمس الدين السخاوي .. حياته وتراثه، مجلة الرسالة، العدد 103، بتاريخ: 24 / 6 / 1935م، والعدد 104، بتاريخ: 1 / 7 / 1935م.
- وجيه خشفة: الإمام السخاوي، الموسوعة العربية العالمية.
منقول