قال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل)) (النساء، 58).
إن دولة العدل إذا أدبرت، وبساطها إذا طوي، وغشيت الناس غواشي الظلم والإرهاق، وتنمّر الاستبداد والطغيان، ونصب بعض الناس من أنفسهم آلهة فوق الشريعة والقانون وهم آمنون من أي عقاب يمتد إليهم ليكفكف من غلواء ذلك السعار المتفلت، في حين يسلط العقاب على صغار الصعاليك؛ إذا وقع ذلك فهو دليل الخراب وهلاك المجتمعات الذي حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد التحذير، وتلك هي القاصمة التي قصمت ظهور الأمم التائهة عن ميزان العدل، فألقت بها في مهاوي الحتوف.
عندما سرقت المرأة المخزومية الشريفة وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطبّق حدّ الله في هذه الجريمة، استعر بنو مخزوم من هذه المذمة فسعوا بكل سبيل أن يتوسطوا عند الرسول ليسقط العقوبة، وظنوا أن الوجاهة في المجتمع، والشرف المرموق، كفيلة أن تجعل الإنسان فوق المحاسبة والجزاء، فوقف معلّم البشرية معاني العدل، ليلقي على أسماع الدنيا هذه الكلمات التي خلدها الدهر قائلا: "إنّما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيْم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (رواه الشيخان).
والعدل في فلسفة الإسلام لا يقتصر على القريب الموافق، بل يتعدى حتى إلى المخالف المعادي، وقد أكد هذه الحقيقة قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) (المائدة، 8)؛ فالقيام على تنفيذ العدل يجب أن يكون لله مع ما يتضمنه القيام لله من معاني التجرد من حظوظ النفس وشهواتها، ثم ينهى المؤمنين عن أن يحملهم البغض لقوم أو شخص أو طائفة على الانحراف عن ميزان العدل، فتلك خيانة لأمانة الله التي حملهم إياها فلا مجال في شرع الله لأهواء النفوس أن تعبث بالعدل، أو تحيف في الحكم.
بل إن الإيمان يقتضي فوق هذا أن يكون العدل حاكما على نفس الإنسان، أو أقرب المقربين إليه قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين)) (النساء، 135).
لقد كان الغزاة الأوائل إذا دخلوا بلدا استباحوا فيها الأعراض والدماء وخلفوا وراءهم الغربان الناعقة وتلك هي الحقيقة التي سجلها القرآن على لسان ملكة سبأ وصدقها فيها ((إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)) (النمل، 43).
بينما ذكر فقهاء الإسلام في فروع الفقه أنّ لإمام المسلمين أن يترك الأرض المفتوحة عنوة لأهلها يعملون فيها مع أداء نصيب مقدّر من خراجها لبيت مال المسلمين، ولكن الأمر الذي تقف الدنيا أمامه مُطرقة أنهم ذكروا أنه ليس لإمام المسلمين أن يرهق أهل الأرض بما لا يستطيعون سداده.
عندما كان فقهاء الشريعة يضعون المبادئ التي ترسي دولة الحق والقانون، كانت أوروبا تائهة في شعاب الخرافات والأساطير، وتحكم بما كانت تسميه كذبا على الله بالتحكيم الإلهي، كانوا يلقون المتهم مكتوفا في الماء أو النار، فإذا غرق، أو احترق قالوا: إنه ظالم، وإذا نجا قالوا: إنه مظلوم!!!.
فإذا نظرنا اليوم إلى عالمنا هذا الذي تتداعى فيه الأمم إلى العدل، وتنادي فيه بحقوق الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، فإننا نجد للأسف الشديد دعوات كاذبة، فإن القوم هناك في الغرب ينادون إلى عالم العدل، ولكن من دون مسلمين، أما حملة الإسلام فإن دماءهم مطلولة، وأعراضهم مستباحة، وأرضهم منهوبة لأن الحق الذي معهم مهيض الجناح، مكسور الشوكة، ضعيف الأعوان.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "عندما أمشي على أرض الجزائر يخيل إلي أنه تحت كل ذراع من الأرض شهيد مظلوم، لقد قدمت الجزائر وعددها تسعة ملايين، مليونا ونصف مليون من القتلى، وذلك كله بعد أن حكمت فرنسا ثورة يعلن شعارها: الحرية، والإخاء، والمساواة!!!".
منقوول