تركت الاتهامات الخطيرة، التي أطلقها أمين عام حزب الأفالان، عمار سعداني، يوم 5 أكتوبر الجاري، باتجاه كل من مدير المخابرات السابق، الجنرال توفيق، والممثل الشخصي السابق لرئيس الجمهورية، عبد العزيز بلخادم، تساؤلات كثيرة لدى الطبقة السياسية وقطاع واسع من الملاحظين، بل حتى في دوائر السلطة، حول خلفيات مثل هذه التصريحات، إذا ما اعتبرنا أن الأمين العام لحزب الأفالان لا يمكنه التصريح في مواضيع حساسة وخطيرة ما لم يكن له الضوء الأخضر من أشخاص نافذين في السلطة، وأن مثل هذه المواضيع لم تكن تطرح من قبل بهذا الشكل وفي العلن، حتى عندما عرفت الجزائر خلافات حادة داخل منظومة الحكم وفي أحلك مراحلها.
أول الملاحظات التي يجب التركيز عليها أن تصريحات سعداني تعبّر بوضوح عن خلافات حادة بين نفس الحلفاء في البيت الرئاسي، وأن الأفالان لم يعد "الناطق السياسي" الوحيد باسم الرئاسة، كما كان منذ تولي سعداني زمام الأمور في الحزب العتيد.
والدليل أن التصريحات المتضاربة جاءت قبل كل شيء من محيط الرئيس نفسه، فمدير الديوان برئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى، وبصفته الأمين العام للأرندي، حيث جاءت تصريحاته معارضة لسعداني ومدعمة لخصميه، توفيق وبلخادم، وأقل من ذلك وفي نفس السياق، سار عمار غول، الوزير السابق والسيناتور في الثلث الرئاسي ورئيس حزب تاج على نفس النهج، ما يدل على أن "الإخوة الحلفاء" لا يأخذون تعليماتهم من نفس الجهة.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنه يظهر مستوى الصراع الحاصل بين الحلفاء ولا يمكن أن يكون سبب هذه الخلافات غير الرئاسيات المقبلة والجواب على السؤال الصعب: من يخلف الرئيس بوتفليقة في كرسي المرادية؟
يجب التأكيد أولا أن اختيار شخص رئيس الجمهورية، كان دائما من صلاحيات الجيش وهذا منذ رحيل الرئيس هواري بومدين. الجيش هو الذي اختار الشاذلي بن جديد سنة 1979 وعقد اجتماعا في مدرسة عسكرية ببرج البحري دون أي حرج، في الوقت الذي كان مجلس الثورة يشهد صراعات بين أعضائه وفي مقدمتهم بوتفليقة ومحمد الصالح يحياوي حول خلافة بومدين.
ثم تدخل الجيش صراحة في الأزمة الأمنية التي هددت استقرار البلاد مطلع التسعينات، فنصب المجلس الأعلى للدولة بعد استقالة بن جديد، وكان وزير الدفاع آنذاك خالد نزار عضوا فيه، وجيئ بالرئيس محمد بوضياف، ثم بعد اغتيال بوضياف تم اختيار علي كافي لمواصلة رئاسة المجلس. وعقب انتهاء عهدة المجلس ترشح وزير الدفاع آنذاك ليامين زروال لمنصب رئاسة الجمهورية وفاز به بعد أن قاد الدولة ولمدة سنتين تقريبا، لكن دون انتخابات وبصفة رئيس الدولة.
لكن المؤسسة العسكرية لم تحافظ طويلا على هذا الانسجام والتوافق بين قادتها، فخلال المراحل التي تعاقب عليها الرؤساء سالفي الذكر، بعد رحيل بن جديد، كانت مؤسسة أخرى تتشكل وتكبر وتتقوى وتأخذ نفوذا أكثر وهي جهاز المخابرات تحت قيادة الجنرال توفيق، وعندما اختارت المؤسسة العسكرية عبد العزيز بوتفليقة لخلافة زروال كانت ممثلة بجهازين: المخابرات وقيادة الأركان، لكن رغم الخلافات التي كانت تحدث كان الجميع يعرف أن التوافق في نهاية الأمر ضروري، لأن قوة هؤلاء كانت في وحدتهم.
الرئيس بوتفليقة كان أول من فهم هذه المعادلة، ولهذا سعى لإنهاء هذا التوافق حتى يتسنى له الحكم كرئيس جمهورية فعلي. فكان الخلاف خلال العهدة الأولى (1999-2004) مع قائد الأركان، المرحوم محمد العماري، وليس قادة الجيش كلهم، حيث في نفس الوقت كان يبدي بوتفليقة ميوله للأطراف الأخرى، بالإضافة إلى خلافات أخرى مع مدير الديوان بالرئاسة، الجنرال العربي بلخير، ثمّ شهدت العهدة ثانية (2004-2009) بداية بوادر الخلاف بين الرئاسة وجهاز المخابرات حول تعديل الدستور للسماح للرئيس بالترشح لعهدة ثالثة، وهذا بعد أن انتهى الصراع الأول باستقالة العماري من قيادة الأركان، فيما غيّب الموت كلا من الجنرالين العربي بلخير واسماعيل العماري.
لكن الجنرال توفيق ولعلمه أن الدولة مازالت بحاجة لشخص بوتفليقة، فقد وافق في النهاية على تعديل الدستور وفتح العهدات وتمّ ذلك سنة 2008.
لكن ثمة عوامل أخرى أصبحت طرفا في المعادلة في العهدة الثالثة (2009-2014) لتقنع جهاز المخابرات أن حكم بوتفليقة لا بد أن يعرف نهاية، ويتعلق الأمر بالربيع العربي الذي عصف بعدد من الرؤساء العرب سنة 2010، وكذا الأزمة الصحية التي تعرض لها الرئيس بوتفليقة في 2013، ولهذا كان الجنرال توفيق رافضا لعهدة رابعة في ظل هذه الظروف، إلا أن أحداثا أمنية داخلية ومنها حادثة تيڤنتورين ووفاة عدد من العمال الأجانب، وحنكة وخبرة بوتفليقة وعلاقاته مع العواصم الكبرى المعروفة بتدخلها في الشؤون الداخلية للدول، وفي مقدمتها باريس ولندن وواشنطن، أضعفت موقف المخابرات وفاز بوتفليقة بعهدة رئاسية رابعة.
لكن رغم كل هذه الخلافات كان نظام الحكم يسير بتوازن القوى، بين الرئاسة وقيادة الأركان وجهاز المخابرات، وكانت الخلافات تنتهي بحلها بين الأطراف المتصارعة داخل غرف صناعة القرار وليس على صفحات الجرائد وفي صالونات الفنادق.
وسبب ما يحدث حاليا تفسيره واضح، فقيادة الأركان تحت قيادة الفريق أحمد ڤايد صالح، ليست هي قيادة الأركان تحت قيادة الراحل محمد العماري، وجهاز المخابرات تحت إشراف الجنرال توفيق ليس هو جهاز المخابرات تحت سلطة الجنرال طرطاڤ، وهذا ليس انتقاصا من قائد الأركان ڤايد صالح ومنسق المصالح الأمنية اللواء بشير طرطاڤ، بل لأن من سبقوهما بنوا ولمدة سنوات عديدة أجهزة قوية ونافذة، وكان عامل الزمن لصالحهم، فيما العكس هو الذي حدث مع ڤايد صالح وبشير طرطاڤ.
ولهذا، فإن رحيل الجنرال توفيق بقدر ما أراح المحيط الرئاسي وكثيرا من خصوم المخابرات، بقدر ما ترك فراغا رهيبا في توازن القوى، حيث إن حكم بوتفليقة انتهى بإبعاد قيادة الأركان عن الشأن السياسي ليبقى الصراع بين الرئاسة والمخابرات، ولهذا حصل الفراغ بعد ذهاب توفيق وقلة ظهور الرئيس بوتفليقة بسبب حالته الصحية، فكان المجال واسعا لبروز الصراعات إلى العلن وكشف المستور، بسبب أن الطبيعة لا تقبل الفراغ.
ما يحدث حاليا هو إعادة تشكيل وتنظيم موازين القوى في نظام الحكم، فجهاز المخابرات بدأ يعيد ترتيب بيته، وقيادة الأركان بدأت تأخذ أكثر قوة ونفوذا لتبقى رئاسة الجمهورية هي الحلقة الضعيفة في هذه المعادلة بسبب مرض الرئيس واستفهامات حول خليفته.
وعلى هذا الأساس جاء رد أويحيى مخالفا لسعداني، ليؤكد أن الأجهزة الأخرى في الدولة غير موافقة على ما يخطط له جزء من محيط الرئيس، ومن هنا يظهر الخلاف قويا حول هوية الرئيس المقبل للبلاد.
منقول