ومنها :- أنه صلى الله عليه وسلم أمر إن افتتح الإمام الصلاة جالسا أن يصلي من خلفه كلهم جلوس , ولو كانوا قادرين على القيام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (( وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون )) متفق عليه ، وما ذلك إلا لسد ذريعة التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود .
ومنها :- أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لمن منع من حقه أن يأخذه إن كان سبب الحق ظاهرا معلوما للجميع ، لأن أخذه لحقه حينئذ لا ينسب فيه إلى خيانة ، وأما إن كان سبب الحق خفيا فإنه لا يجوز له أخذه ، فقال لمن سأله عن ذلك (( أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك )) ولأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه ويقيم عذره مع أن ذلك أيضا ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبا على قدر الحق .
ومنها :- أن الشارع سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشتري سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه وعدم تضرره هو فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي ولهذا كان الحق : أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة ولا تسقط بالاحتيال فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شرعت لها بالنقض والإبطال، وفي الحديث:- أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم . فباب الشفعة في الفقه الإسلامي راجع إلى سد الذريعة , وهي ذريعة تضرر الشريك بدخول غير شريكه معه .
ومنها :- أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وإفراد يوم الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام ولا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين سائر الليالي )) متفق عليه
ومنها :- أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقطع الشجرة التي كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال سدا لذريعة الشرك والفتنة ونهى عن تعمد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل بها في سفره وقال:- أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فلا .
ومنها :- أن جمع القرآن إنما كان مبنيا على هذه القاعدة الكبيرة الطيبة ، فقد جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم .
ومنها :- ما قرره أهل السنة رحمهم الله تعالى من حرمة الخروج على الحكام ، وذلك حماية للنفوس والأموال من التلف ، ولحفظ الأمن وصد الأعداء وتقوية جانب المسلمين ، واتحاد الصف واتفاق الكلمة ، فنهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن .
ومنها :- ما قرره خلفاء الإسلام على أهل الذمة من الشروط إن أحبوا المقام بين المسلمين فهذه الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب والمجالس لئلا تفضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين في الإكرام والاحترام ففي إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة .
ومنها :- منعه صلى الله عليه وسلم من بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب لئلا يتخذ ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه ، والحديث فيها معروف ، والله أعلم .
ومنها:- أن الله تعالى لما حرم على أبينا الأكل من الشجرة ، حرم عليه قربانها ، بقوله }وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ {وتحريم القربان أبلغ من تحريم الأكل , فإن تحريم قربانها يدل على تحريم أكلها وزيادة فنهاه الله تعالى عن قربانها لأن القرب من المحرم ذريعة للوقوع فيه ، فاعتبروا يا أولي الأبصار .
ومنها :- أن القول الصحيح جواز القبلة للصائم , إلا في حق من غلب على ظنه أنها تحرك شهوته تحريكا لا يستطيع دفعه ، فتكون حراما في حقه من باب سد الذرائع .
ومنها :- القول الصحيح أنه يجوز مباشرة الحائض دون الفرج , وإنما المحرم جماعها , وهذا الجواز في حق من أمن على نفسه العنت , وأما من كان غير مالك لإربه فإن المباشرة عليه محرمة ، لأنها ستفضي به عن يقين أو غلبة ظن إلى المحظور ، والمتقرر أن ما أفضى إلى المحظور عن يقين أو غلبة ظن فإنه محظور . والله أعلم .
ومنها :- أن العبد إن نظر إلى حاله مقارنة بغيره في أمور الدنيا فلا ينبغي له أن ينظر إلا لمن هو أدنى منه ، حتى لا يزدري نعمة الله تعالى عليه ، وإن نظر إلى حاله مقارنة بغيرها في أمور الدين فلا ينظر إلا لمن هو أعلى منه ، حتى يكون ذلك باعثا إلى النشاط والجد وترك الكسل والتواني ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ, وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ, فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وهذا من النظر الصحيح الذي دلت عليه هذه القاعدة الطيبة ، فإن من نظر إلى من هو أعلى منه في أمر الدنيا هانت عليه نعم الله عليه وازدراها وانتقصها وهذا محرم وما أفضى إلى الحرام فهو حرام .
ومنها :- أن الحق تحريم تعلم المنطق اليوناني الذي يتعلق بمسائل العقيدة والإلهيات ، لما في تعلمه من الأخطار المحقة بعقيدة الأمة ، ولما فيه من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل ، ولما فيه من القواعد المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، ولأن الذين قرروا هذه القواعد الكفرية الفلسفية ليسوا على علم ولا على هدى من نور الكتاب والسنة ، وقد حصل بسبب تعلمه المفاسد الكبيرة الكثيرة الخطيرة ، والتي لا زلنا نعاني منها إلى عصرنا هذا ، وقد نص جمع كبير من أهل السنة على حرمة تعلمه ، من أجل هذه المفاسد ، فسدا لذريعة فساد العقيدة ، ومخالفة الأدلة ، قلنا بأن تعلمه محرم ، والله أعلم .
ومنها :- أن من الحكمة الكف عن قتل المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يظهر نفاقهم في العلن ، فإن الأمور الباطنية لا يعلمها إلا الله تعالى ، فلو فتح الشرع باب القتل بالمظنة لفسدت الأمور وكثر القتل ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكف عن قتل أهل النفاق ويقول (( أتريدون أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه )) فهذا من باب سد الذرائع, وإغلاق لباب القتل بالظن ، وحماية لجناب النفوس ، وسدا لباب القدح في الدين ، والله أعلم .
ومنها :- لقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الدين ، والأحاديث فيه معلومة منها أنه كان يقول في الصلاة (( اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم )) وعلل هذا بأن الرجل إذا غرم حدث فكذب ، ووعد فأخلف ، وهذا أصل من أصول سد الذرائع ، فكان يستعيذ من الدين لأن الدين سبب للكذب وإخلاف الوعد ، كما هو حاصل ومشاهد في الناس اليوم ، فتعتبر الاستعاذة من الدين من أصل سد الذرائع ، لأنه في الغالب ما يفضي بصاحبه إلى الوقوع في الحرام من الكذب وإخلاف الوعد ، وما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع ، وعلى ذلك فالقول بكراهة الدين إلا للحاجة الملحة قول له حظ من النظر ، والله أعلم .
______