الشاعر إبن الفارض
شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً** سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا** هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجم
ولولا شذَاها ما اهتدَيتُ لِحانِها** ولولا سَناها ما تصَوّرها الوَهْمُ
ولم يُبْقِ منها الدّهْرُ غيرَ حُشاشَةٍ** كأنّ خَفاها في صُدور النُّهى كتْم
فإن ذُكرَتْ في الحَيّ أصبحَ أهلُهُ** نَشاوى ولا عارٌ عليهمْ ولا إثم
ومِنْ بينِ أحشاء الدّنانِ تصاعدتْ** ولم يَبْقَ منها في الحقيقة إلاّ اسمُ
وإن خَطَرَتْ يوماً على خاطرِ امرىءٍ** أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
ولو نَظَرَ النُّدْمَانُ خَتمَ إنائِها** لأسكَرَهُمْ من دونِها ذلكَ الختم
ولو نَضحوا منها ثرَى قبرِ مَيّتٍ** لعادتْ اليه الرّوحُ وانتَعَشَ الجسم
ولو طَرَحُوا في فَيءِ حائطِ كَرْمِها** عليلاً وقد أشفى لفَارَقَهُ السّقم
ولو قَرّبُوا من حانِها مُقْعَداً مشَى** وتنطِقُ من ذِكْرَى مذاقتِها البُكْم
ولو عَبِقَتْ في الشرق أنفاسُ طِيبِها** وفي الغربِ مزكومٌ لعادَ لهُ الشَّمُّ
ولو خُضِبت من كأسِها كفُّ لامسٍ** لمَا ضَلّ في لَيْلٍ وفي يَدِهِ النجم
ولو جُليتْ سِرّاً على أَكمَهٍ غَدا** بَصيراً ومن راووقِها تَسْمَعُ الصّم
ولو أنّ رَكْباً يَمّموا تُرْبَ أرْضِهَا** وفي الرّكبِ ملسوعٌ لمَا ضرّهُ السّمّ
ولو رَسَمَ الرّاقي حُرُوفَ اسمِها على** جَبينِ مُصابٍ جُنّ أبْرَأهُ الرسم
وفوْقَ لِواء الجيشِ لو رُقِمَ اسمُها** لأسكَرَ مَنْ تحتَ اللّوا ذلك الرّقْم
تُهَذّبُ أخلاقَ النّدامى فيّهْتَدي** بها لطريقِ العزمِ مَن لا لهُ عَزْم
ويكرُمُ مَن لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه** ويحلُمُ عند الغيظ مَن لا لهُ حِلم
ولو نالَ فَدْمُ القومِ لَثْمَ فِدَامِها** لأكْسبَهُ مَعنى شمائِلها اللّثْم
يقولونَ لي صِفْهَا فأنتَ بوَصفها** خبيرٌ أَجَلْ عِندي بأوصافها عِلم
صفاءٌ ولا ماءٌ ولُطْفٌ ولا هَواً** ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جِسْمٌ
تَقَدّمَ كُلَّ الكائناتِ حديثُها** قديماً ولا شكلٌ هناك ولا رَسم
وقامت بها الأشياءُ ثَمّ لحكمَةٍ** بها احتَجَبَتْ عن كلّ من لا له فَهْمُ
وهامتْ بها روحي بحيثُ تمازَجا اتّ** تِحاداً ولا جِرْمٌ تَخَلّلَه جِرْم
فَخَمْر ولا كرْم وآدَمُ لي أب** وكَرْم ولا خَمْر ولي أُمُّها أُمّ
ولُطْفُ الأواني في الحقيقة تابع** لِلُطْفِ المعاني والمَعاني بها تَنْمُو
وقد وَقَعَ التفريقُ والكُلّ واحد** فأرواحُنا خَمْرٌ وأشباحُنا كَرْم
ولا قبلَها قبل ولا بَعْدَ بَعْدَهَا** وقَبْليُّة الأبْعادِ فهْي لها حَتْم
وعَصْرُ المَدى من قَبله كان عصرَها** وعهْدُ أبينا بَعدَها ولها اليُتم
محاسِنُ تَهدي المادِحينَ لوَصْفِهَا** فَيَحْسُنُ فيها منهُمُ النّثرُ والنّظم
ويَطْرَبُ مَن لم يَدْرِهَا عند ذِكْرِهَا** كَمُشْتَاقِ نُعْمٍ كلّما ذُكرَتْ نُعم
وقالوا شَرِبْتَ الإِثمَ كلاّ وإنّما** شرِبْتُ التي في تركِها عنديَ الإِثم
هنيئاً لأهلِ الدّيرِ كمْ سكِروا بها** وما شربوا منها ولكِنّهم هَمّوا
وعنديَ منها نَشْوَةٌ قبلَ نشأتي** معي أبداً تبقى وإنْ بَليَ العَظْم
عليكَ بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها** فَعَدْلُكَ عن ظَلْم الحبيب هو الظُّلم
فَدُونَكَهَا في الحانِ واستَجْلها به** على نَغَمِ الألحان فهيَ بها غُنْمُ
فما سكنَتْ والهمَّ يوماً بموضع** كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَم الغَم
وفي سكرةٍ منها ولَوْ عُمْرُ ساعةٍ** تَرَى الدَّهْرَ عبداً طائعاً ولك الحُكْم
فلا عَيْشَ في الدُّنْيا لمَن عاشَ احياً** ومَن لم يَمُتْ سُكْراً بها فاته الحزم
على نفسه فليَبْكِ مَن ضاع عُمْرُهُ** وليسَ لهُ فيها نَصيبٌ ولا سهمُ