كان يا مكان في قديم الزمان و سالف العصر و الأوان ، كان هناك عائلة فقيرة تسكن قرية صغيرة ، كانت تتكون من ثلاث بنات (منى ، ريتاج ، هناء ) و طفل (أحمد) لا يملكون من القوت إلا القليل فإذا تغدوا لا يتعشون و إذا تعشوا لا يتغدون ، وكان جيرانهم العم منصور و زوجته و ابنتهم سناء يوفرون لهم كل ما يحتاجونه من لوازم. مرت الأيام على هذا الحال ،كبر الأولاد و يجب أن يدخلوا المدرسة ليتعلموا ، لكن عمي يوسف و زوجته شيماء لا يملكون المال الكافي لتدريس كل أولادهم . فتشاورا فيما بينهما وقررا أن أحمد هو الذي سيدخل المدرسة بحكم أنه رجل و أنه عندما يكبر يستطيع أن يعمل عل استقرار العائلة و إخراجها مما هي عليه ، و بينما هذا الحديث يدور بينهما كانت منى (الأخت الصغرى) تسترق السمع من وراء الباب و إذا بمنى تجري نحو إخوتها البنات لتزف لهم الخبر الذي سمعته.
منىوهي تبكي ) لقد سمعت أمي و أبي يتحدثان و فهمت أن أحمد فقط من سيدخل المدرسة.
ريتاج: (في دهشة من أمرها) ماذا؟ أعيدي ما قلتي ، و هل أحمد أحسن منا ؟
هناء: (تتمالك أعصابها) ربما أبي و أمي يعتقدون أن أحمد أحسن منا .
منى: (ترد بقوة ) لا ، ليس هذا ما سمعته و إنما لسبب أخر ألا وهو عدم توفر المال الكافي لتدريسنا جميعا .
هناء:لا، هنا يختلف الأمر . أظن أنه الاختيار الصائب يا إخوتي.
رضي البنات الثلاثة بالأمر و استوعبن الفكرة و قبلن بالوضع .مرت السنين و البنات يرون معاناة والدهن لجلب النقود لتدريس أحمد فقررت هناء أخذ أخواتها و البحث عن عمل لمساعدة والدهن ليكمل أحمد دراسته .
هناء : اسمعوا يا إخوتي يجب أن نجد عملا لنساعد به والدنا فهل توافقوني الرأي ؟
ريتاج و منى (بصوت واحد): نعم،نعم، نحن موافقات .
خرج البنات يبعثن عن عمل لكن لم يكن محظوظات جدا فأول باب يطرقنه لطلب العمل يقفل في وجههن ومر النهار على هذا الحال إلى أن وقفن عند معمل خياطة صاحبته تحب مساعدة الفقراء و المساكين ،فوافقت على الفور بعد أن سمعت قصتهن . فرح البنات و شكرن صاحبة المعمل وفي طريقهن إلى البيت بدأن يفكرن كيف يخبرن والدهن بالأمر.وصل البنات إلى البيت وهن مرتبكات.
منى : السلام عليكم ، كيف الحال .
الأب و الأم : وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته ، هل قضيتن وقتا ممتعا مع صديقاتكن .
منى :تتردد نعم ...نعم يا أبي ، تقاطعها هناء.
هناء : سنخبرك بشيء يا أبي لكن عدني أنك لن تحزن .
الأب: (في حيرة من أمره)ماذا هناك يا ابنتي لقد أخفتني .
هناء : يا أبي نحن نعلم كم تتعب و تسهر لجلب النقود اللازمة لتدريس أحمد ، لذلك قررنا أن نساعدك،فبحثن عن عمل ووجدنا عمل نظيف و محترم و نرجو رضاك للبدء بالعمل ، و بينما هناء تشرح لوالدها الوضع بدأت الأم بالبكاء .
الأب : (وهو يعجز عن الكلام و عيناه ممتلأت بالدموع رعاكم الله يا بناتي أنا مستحي منكم ...
تقاطعه البنات : لا يا أبي لا تقل هكذا نحن نفتخر بك و نفتخر بكوننا بناتك .
يكمل الأب حديثه
الأب : شكرا لكن يا بناتي و أرجو من الله أن يعوضكن على هذه التضحية .
بدأ البنات بالعمل في محل الخياطة بكد و جد فتارة يمسحن الأرض و تارة يجمعن بقايا القماش و شيء فشيء تعلمن كيفية الخياطة وهذا كله لمساعدة العائلة .
تابع أحمد دراسته في ظروف حسنة و كان و لحسن الحظ من التلاميذ الممتازين، عاما بعد عام تخرج أحمد و صار طبيب ، و أي طبيب من أحسن الأطباء و أشهرهم . و لكن هنا وردت مشكلة جديدة فبعد كل هذا النجاح سمحت له الفرصة للعمل في فرنسا .
حزنت العائلة ح*** شديدا على فراقه ، لكنه وعدهم بأنه متى سمحت له الفرصة سيأتي لزيارتهم.
مرت الأيام وتدهورت صحة الأب يوسف و أصبح مريضا جدا ، وفي يوم من الأيام جلس في الغرفة ونادى بصوت عالي على بناته و زوجته . تعجبت الأم و بناتها من صراخ الأب و أسرعن في تلبية النداء.
الأم : لماذا هذا الصراخ يا رجل ؟
الأب يشير إليها بالسكوت و يحدث البنات) يا بناتي ، إن حالتي الصحية تزداد تدهور و لا تعرفون متى يأخذ الله أمانته ، فأنا أترك لكم أمور العائلة في أيديكم هذه وصيتي لكن يا بناتي .
الأم : (وهي تبكي ) ماهذا يا يوسف لم يحن وقت هذا الكلام بعد...
الأب : لا تقاطعيني أرجوكي ،الوقت حان فأنا لا أحس أنني بحال جيد.
نهض الأب يوسف من الكرسي و هو يكمل كلامه ، مشى خطوتين و إذا به يسقط أرضا مغمى عليه.
بدأت الأم و بناتها بالنواح و البكاء على الأب يوسف ، سمع الجار منصور صراخهن فأسرع إليهن و لحقته زوجته و ابنته ، حمله العم منصور و أسرع به إلى المستشفى .فحص الأطباء الأب يوسف و شخصوا حالته بالمزرية و ليسترد عافيته يلزمه عملية جراحية .لكن هذه العملية تكلف مبالغ كثيرة ، فقررت العائلة أن تبعث برسالة إلى أحمد في فرنسا لتخبره بالوضع الذي آ ل إليه الأب يوسف لأن أحمد هو حلهم الأخير.رسالة وراء رسالة و أحمد لا يرد على أي رسالة . تدهورت حالة الأب و أتى أجله فتوفي رحمه الله ، و صدفة و في جنازة الأب يوسف جاء أحمد من فرنسا إلى بيته ، وحين اقترب من البيت لاحظ الناس مجتمعين أمام البيت ، استغرب و إذا به يهرول قليلا ليدخل المنزل ، و لكن قطعه الجار منصور و بدأ بالصراخ في وجهه .
منصور : لماذا أتيت الآن ، أنت سبب وفاة والدك ، كيف تجرأ و تري وجهك لأمك و أخواتك .
و إذا بأحمد يسقط على ركبتيه متأثرا بصدمة الخبر ، و صار يكرر لم تصلني أي رسالة ، لم تخبروني . ماذا جرى ؟... و دخل إلى أمه مسرعا يوضح لها الأمر .
أحمد : سامحيني يا أمي ، أقسم أنه لم تصلني أي رسالة ، لم أعرف بأي شيء ..
الأم : أعلم يا بني لقد قلت هذا ، لو وصلتك رسائلنا لكنت عملت المستحيل لتأتي إلينا ، تفهمت العائلة الوضع ، دفن الوالد ولم تنسى العائلة يوسف و خيم الحزن عليهم و خاصة أحمد .
أحمد الذي قرر البقاء مع عائلته و ترك عمله في فرنسا و مباشرة العمل في قريته بالقرب من عائلته التي لم يستطع الاستغناء عنها مرة أخرى ، فبدأ في العمل في قريته في مستوصف صحي و رغم الصعوبات التي واجهته و العقبات التي لقيها قي طريقه إلا أنه كافح و صبر و صهر لتستقر عائلته و كان الأمر كذلك فقد نجح أحمد و صار أول طبيب في قريته و أصبح مشهور خارج القرية و أصبح الناس يتهافتون إليه من كل مكان ، تغيرت حياة أحمد و عائلته فقد أصبح من أغنى الناس في المنطقة ، غير منزلهم القديم بمنزل جديد و أصبحوا يأكلون ويشربون و يلبسون ما يشاءون .
رغم كل هذا أحمد لم يكتف عن تحميل نفسه موت أبيه.
و لما رأت هناء الأخت الكبرى حالة أخوها مزرية قررت أن تزوجه لابنة العم منصور (سناء) لتنسيه القليل من حزنه و لكن مع كل هذا لم يستطع النسيان .
ففي كل زاوية من البيت كان يرى فيها صورة أبيه و يتخيله كيف كان يعاني، و يشرع بالبكاء وهو يقول في نفسه لماذا ذهبت لفرنسا لأعمل ؟، لماذا؟ألم أستعجل، لماذا لم أعمل هنا؟ ... ، ودائما على هذا الحال، و أصبح لديه أولاد وهو لا يزال نادم على قراراته و دائما ما يذهب إلى قبر والده ويطلب منه السماح و يقول في نفسه يا ليتني فعلت هذا و هذا... ففعلا حين لا ينفع الندم.