تحليل نص حول العلوم الانسانية و العلوم المعيارية
النص :
الدرس : العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية
من حق علوم الفكر أن تحدد بنفسها منهجها بحسب موضوعها. فعلى العلوم أن تنطلق من أعم مفاهيم المنهجية ، وتسعى إلى تطبيقها على مواضيعها الخاصة فتصل بذلك إلى أن تنشئ في ميدانها المخصوص مناهج ومبادئ أكثر دقة على غرار ما حصل بالنسبة إلى علوم الطبيعة. وإننا لا نبين أننا التلاميذ الحقيقيون لكبار العلماء إن نحن اكتفينا بأخذ المناهج التي توصلوا إليها ، ونقلناها نقلا إلى ميداننا ، وإنما نكون تلاميذهم بحق حين نكيف بحثنا مع طبيعة مواضيعه فنتصرف إزاء علمنا تصرفهم إزاء علمهم . إن التحكم في الطبيعة يكون بالامتثال لها. وأول ما يميز علوم الفكر عن علوم الطبيعة أن علوم الطبيعة موضوعها وقائع تبدو للوعي كما لو كانت ظواهر بعضها بمعزل عن بعض من الخارج ، والحال أنها تبدو لنا من الداخل واقعا ومجموعة حية أصلا. والحاصل من هذا أنه لا يوجد في العلوم الفيزيائيّة والطبيعية مجموع منسجم للطبيعة إلا بفضل استدلالات تكمل معطيات التجربة بواسطة منظومة من الفرضيات ؛ أما في علوم الفكر فان مجموع الحياة النفسية يمثل قي كل مكان معطى أوليا وأساسيا. فالطبيعة نفسرها، والحياة النفسية نفهمها.
ذلك أن عمليات الاكتساب و مختلف الطرائق التي تترابط بواسطتها الوظائف – وهي العناصر الخاصة بالحياة الذهنيّة- فتشكل كلا ، تمدنا بها أيضا التجربة الداخلية. وهنا نجد أن المجموع المعيش هو الشيء الأولي ، أما التمييز بين الأجزاء التي يتكون منها فلا يأتي إلا في المرتبة الثانية. يترتب على ذلك أن المناهج التي نعتمدها لدراسة الحياة الفكرية و التاريخ و المجتمع مختلفة أشد الاختلاف عن المناهج التي أدت إلى معرفة الطبيعة.
دلتاي
" أفكار في علم نفس وصفي وتحليلي "
الإجابة:
المقدمة:
تفطّن كلود ليفي ستراوس إلى أنّ ما يشرّع لقيام علم يهتمّ بدراسة الظّاهرة الإنسانية هو وجود عناصر ثابتة وكلّية تتخطّى التّحديدات الزّمانيّة و المكانيّة، أو بالأحرى بنية تمكّن من استخدام المنهج التّجريبي بشكل ناجع ومفيد.
لكن، ألا يكون هذا النّجاح المنهجي قائما على تجاهل لطبيعة و لخصوصيّة الظّاهرة الإنسانية و رهين استبعاد الإنساني و القيمي و الدّلالي ؟ فهل من إمكان لمنهج يضمن، في آن، الإبقاء على خصوصيّة الموضوع، و تحقيق العلوميّة و الموضوعيّة للعلوم الإنسانية ؟
الأطروحة: إن التّأسيس الفعلي لعلوم الفكر ( العلوم الإنسانية ) يمرّ ضرورة عبر توخّي منهج الفهم و التّأويل.
الأطروحة المستبعدة: لا تنجح العلوم الإنسانية في تحقيق علوميّتها إلا إذا سحبت مناهج العلوم الطّبيعيّة على العلوم الإنسانيّة.
الإشكالية: كيف يمكن تحقيق علوميّة علوم الفكر رغم اختلاف موضوعها الجذري عن موضوع العلوم الطّبيعيّة ؟
أو: هل من سبيل إلى تأسيس العلوم الإنسانية تأسيسا علميّا يراعي خصوصيّة موضوعها ؟
تفكيك عناصر التّحليل:
الفرق بين ظواهر الطّبيعة و ظواهر الفكر ( مستوى الموضوع(
2. إشكال الخيار المنهجي ) التّفسير أم التّأويل ) و إستتباعاته على مسألة علوميّة العلوم الإنسانية.
التّحليل:
1. الفرق بين ظواهر الطّبيعة و ظواهر الفكر ( مستوى الموضوع (
ظواهر الفكر ظواهر الطّبيعة· تدرك في إطار تجربة داخليّة.
التحام الذّات بالموضوع
· معطاة في التّجربة الدّاخليّة في شكل " مجموع معيش " يمتاز بكلّيته و وحدته.
· مهمّة الباحث محاولة فهم التّجربة الإنسانية دون إقصاء القصدي و الغائي و الدّلالي.
· تدرك في إطار تجربة خارجيّة.
فصل بين الذّات و الموضوع
· معطاة في التّجربة في شكل ظواهر مستقلّة و مشتّتة لا رابط بينها.
· مهمّة الباحث تتمثّل في تنظيم و توحيد هذه الوقائع الطّبيعيّة بفضل فرضيّات تحاول الانتباه إلى العلاقات السببيّة الموضوعيّة بين الظّواهر.
و ذلك هو منهج التّفسير.
2. إشكال الخيار المنهجي ( التّفسير أم التّأويل ) و إستتباعاته على مسألة علوميّة العلوم الإنسانية:
· إذا كانت ظواهر الفكر غير ظواهر الطّبيعة، لا يمكن تأسيس علم بها بالاستناد إلى المنهج المعتمد في العلوم الطّبيعيّة كما ذهب إلى ذلك أوغست كونت.
· على العلم الإنساني أن يراعي خصوصيّة الظّاهرة التّي يدرسها و يستبدل التّفسير، من حيث هو يفترض انفصال الذّات عن الموضوع، بالفهم أو التّأويل:
× " فالطّبيعة نفسّرها ": أي نحدّد شروط ظواهرها و العلاقة الثّابتة بين هذه الشّروط، أي نصوغها في قانون. وذلك ما تفعله الفيزياء و الكيمياء و الفلك الخ…
× أمّا الظّاهرة الإنسانية فنفهمها. و هذا الفهم هو المنهج الوحيد الذّي يلائم دراسة الظّواهر الإنسانية. و نعني بالفهم الإدراك الحدسي للدّلالة القصديّة لنشاط إنساني ما. فالفهم جهد نحو النّفاذ، وراء الظّواهر المدروسة، إلى الدّلالات و المقاصد الإنسانية التّي صبغتها الذّوات على تجاربها المعيشة.
العالم الإنساني مدعوّ، إذن، إلى استحضار معيش الآخرين في كلّيته دون عزل المعنى و الدّلالة و القيمة.
يقتضي الفهم نظرة إلى الواقعة الإنسانية في كلّيتها و شموليّتها تبتعد عن التّشتيت و التّجزئة ( Comprendre = Prendre ensemble la totalité du vécu humain ).
مثال : فهم إصلاح قانوني أو قضائي معيّن يستوجب النّظر في المجموع التّاريخي، الاجتماعي و الثّقافي الذي أفرز هذا الإصلاح ( دون عزل و إقصاء و تشتيت و تجزئة و ذلك على عكس علوم الطّبيعة (
إن الوقائع الإنسانية، إذن، لا تدرك من الخارج، كالظّواهر الطّبيعيّة، بل تعاش ضمن تجربتنا الذّاتيّة. و لذلك يسمّي (دلتاي) العلوم الإنسانية بالعلوم الذاتيّة في مقابل العلوم الموضوعيّة.
v الإشكال:
إذا ما سلّمنا بأنّ العلوم الإنسانية هي علوم تعتمد على الفهم و على التّأويل، فكيف يمكن أن تكون لنتائجها و لنظريّاتها صلاحيّة موضوعيّة ؟ ثمّ ألا نسقط في الرّيبيّة و في النّسبيّة حين نرفض مع دلتاي أن تكون هذه العلوم مجرّد تجميع لوقائع منفصلة و مترابطة سببيّا ؟
و هل يقودنا ذلك إلى حدّ الحكم، مع نيتشه، بأنّه " لا توجد وقائع و إنما فقط تأويلات " ؟ بحيث نقابل المثل الأعلى الموضوعي، الذي يسعى العلم إلى تحقيقه، بهوّة ذاتيّة نقع فيها في إطار هذه العلوم ؟
-v تجاوز الإشكال:
لا يجب أن نعتقد أنّ دلتاي يقصي التّفسير نهائيّا و يعتبر أنّ العلوم الإنسانية تكتفي بالفهم. فهو مثلا لا يختزل علم التّاريخ في مجرّد فهم الأحداث أو الوقائع. فالموضوعات التّي يتناولها عالم التّاريخ محدّدة بشكل موضوعي في الزّمان و المكان، و هي من حيث هي كذلك تشكّل جزءا من الطّبيعة الخارجيّة يخضع لقوانين السّببيّة.
لكن إن كانت الظّواهر التّاريخيّة تخضع لحتميّة مشابهة لحتميّة الطّبيعة، فهي تتميّز عن هذه الأخيرة من حيث هي ظواهر ذات دلالة، و هي بما هي كذلك لا تتحدّد فقط بسببيّة موضوعيّة و طبيعيّة، بل كذلك و في نفس الوقت بسببيّة قصديه. فلا يمكن، في هذا السّياق أن نقصي نوايا و مقاصد الشّخصيّات التّي ساهمت في هذه الأحداث.
يجب إذن، في إطار العلوم الإنسانية، أن لا نكتفي برصد علاقات سببيّة موضوعيّة تستبعد كلّيا كلّ ما هو كيفي وقيمي و دلالي ( شأن التّفسير في العلوم الطّبيعيّة )، بل من الضّروري محاصرة البعد الدّلالي و الغائي، والاعتراف بأنّ هذه الوقائع وليدة خيارات قيميّة، غائيّة، أخلاقيّة، سياسيّة، دينيّة، اجتماعيّة، ثقافيّة الخ…
ينتج عن ذلك أنّه يتوجّب على العلوم الإنسانية أن تعرف كيف تراوح بين التّفسير ( لفهم الشّروط الموضوعيّة للوقائع: رصد سببيّة خارجيّة ) و الفهم ( للامساك بالمقاصد و الغايات و تحديد البعد الدّلالي لهذه الوقائع: رصد سببيّة باطنيّة و قصديه – المعنى ( .