كانت التقوى تمثل أول المفاهيم الكبرى، والأصول العظمى في القرآن الكريم حسب الترتيب المصحفي، فقد وردت في سورة البقرة في قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة:2]، ولم يأت قبلها من المفاهيم الدينية العبادية إلا مفهوم العبادة، والاستعانة المذكورتين في سورة الفاتحة في الآية الخامسة منها، ومن أسباب ذلك أن العبادة وسيلة لهدف عظيم هو التقوى كما قال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، والتقوى كما هي هدف فهي وسيلة في ذاتها إلى غايتين عظيمتين يمثلان قمة طموحات الإنسان هما:
مرتبة الشكركما قال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
ومرتبة الفلاح التي تعني تحقيق أعظم الإنجازات والمطلوبات الحياتية، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
من هم المتقون؟
إنهم أعظم الخلق مكانة، وأجَلُهم في رعاية الحقوق وأداء الأمانة، وهم ملاذ الناس في حفظ الأرض من الفساد، والقيام أمام الاعوجاج بإصلاح الخلل والتسديد والصيانة، والوصول إلى مرتبتهم حلمٌ لكل إنسانٍ نبيل، وهدفٌ ينبغي أن يقصده الطموح الإنساني لكل شابٍ يريد الوصول إلى المراتب العليا في كل جيل؛ إذ هم كما قيل:
قلوبــهم طــهر يفيض على الورى وأيديــهم تأسو جــراح الخــــوافـق
هم السلسـل الصافي على كل مؤمن وفي حومة الهيجاء نار الصواعق
أطـــلوا علــى الدنيا كواكــب يهتــدى بنورهــم عنـــد اشتباه المفــارق
سبيلهــم مــا أوضـــح الله نهجـــه إذا حــاد عنـــه كـــل وان وفــاســـق
هـــم الذهـــب الإبريز سرا ومظهرا جبـــاههم بيض بيــاض الحقائـــق
كأنـــي أراهـــم والدنــا ليست الدنــا صـلاحاً ونــور الله مــلء المشارق
وهذا الوصف لهؤلاء السادة النبلاء (المتقون) أخذ من كلمة التقوى، والتقوى أتت من الوقاية، والوقاية هي أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية كما قال الشاعر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم
والوقاية فرط الصيانة، فالمتقون هم الذين بينهم الحسن بقوله: (اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم)، ومع ذلك ينبغي أن يتقى الوقوع في المشتبهات فقد روى الترمذي عن عطية السعدي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس))، وأصل صفات التقوى الخشية لأن من يخشى يتقى أن يقع فيما يخشى منه، وروى عن علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإِصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة، وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ومن أجمل تعاريف التقوى ما ورد أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت- يعني اتقيت أن أدوس بقدمي ذلك الشوك- فقال: فتلك التقوى أي أن تجتهد أن تتقي ما يضرك، وتطلب ما ينفعك، وعلى هذا قال الشاعر:
خــل الذنــوب صغــيرها وكبيــرها ذاك التقــى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقــرن صغيــرة إن الجباــل مــن الحصــى
وباختصار يمكن أن نعرف مراتب التقوى والجوائز المترتبة عليها النظم الجميل الآتي:
حضرت مجلس إمام النصحا ماء العيون بعد أن صــلى الضـــحى
يحدث النـــاس بــدين أحمـــد يقــــول وهــو قاعـــدٌ في المســـجــد
إن التقى وهو أعز ما اكتسب ذو همــــةٍ يــــــأتي على خمس رتب
تقى يخــــــلص من الخــلـــود وهــــــو اتقــــاء الشـــرك المعبــود
وما يخلــــــص من الجحيم وهو اتقــــــاء الزلـــــــــل العظــيـــــم
وما ينجي من عذاب المسلم في قبره وهو اتـــــــــقــــــاء اللمـــــم
وما ينجي من مكاره الدنـــــا وهــو اتقــــاء الشبـــــــــهات والخنــا
وما به تستـــــــــجلب الأفراح وهو اتقاء بعض مـــــــا يبــــــــــاح
فأعاده عـــــــلي استــــــــــكملا حديثه كمـــــــــا بــــــــــــداه أولا
فقمت مصغيــــــــــا لما حكاه وصـــــــــــــافــــــــــحت يديتي يداه
ولماذا ذكر الله التقوى في هذه السورة في أولها ؟
الجواب: ليجعلها بذلك أهم أهداف السامعين؟ لأنها أعظم المقامات التي يصل إليها الإنسان بعد مقام العبودية المذكورة في سورة الفاتحة، ولذا روى ابن ماجة عن أبي أمامةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قول: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غَاب عنها نصحته في نفسها وماله)).
والمفهوم الرائع الذي ينبه عليه قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] باختصار: أن الإنسان كل ما كان أكثر تقوى لله كلما كان أكثر انتفاعا وشعورا بلذة القرآن وجماله، وظهرت في حياته أنواره سواء أكان فردية أو جماعية، فهو تنبيه للأفراد والحكومات والمجتمعات.
والتقوى في جمالها عند السلف يعبر عنها ما قاله علي رضي الله عنه: هي الخوف الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل ، وقال إبراهيم بن أدهم: أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً، ولا الملائكة في أفعالك عيباً، ولا الله في سرك ريبا، وقال طلق بن حبيب رحمه الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله.