محمد طاهر الأتاسي
الشيخ العلامة الجليل القاضي المفتي الشاعر النابغة محمد طاهر أفندي بن الشيخ المفتي محمد خالد أفندي بن المفتي العلامة أبي الفتح محمد الثاني الأتاسي
1276 للهجرة (1860م)-1359 للهجرة (1940م)
ولادته، نشأته، وطلبه للعلم:
ولد الشيخ محمد طاهر الأتاسي سنة 1276 للهجرة (1860م) في حمص، في بيت علم ودين وشرف، فهو من أسرة تولت مناصب الفتوى والقضاء في حمص وغيرها منذ القرن السادس عشر الميلادي (القرن العاشر الهجري)، وكانت قد انتقلت هذه الأسرة قبل حوالي خمسة قرون من اليمن إلى تركية ثم إلى حمص وكانت تعرف أولا بآل العطاسي ثم تحول اللقب إلى الأطاسي ثم أخيرا إلى الأتاسي، واستقرت بحمص وخرجت علماء كثيرين وردت تراجمهم في متون أشهر كتب التاريخ، نعرف منها سبعة عشر مفتيا تولوا الفتوى في حمص وطرابلس، وهي أسرة شريفة النسب تنتمي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما تدل الوثائق القديمة التي بحوزتها. وكانت الفتوى في حمص تدور على آل الأتاسي يتوارثونها جيلا بعد جيل، فأخذ عن علماء أسرته، والده وأعمامه وأبناء عم أبيه، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة، وبلغ من العلم درجات، ثم سافر إلى الأستانة ودرس في مدرسة القضاء الشرعي فيها (مكتب النواب) ونال الدرجة الأولى عام 1883م، وعاد إلى بلاده ونزل دمشق، فأخذ عن السيد محمود الحمزاوي الحسيني، مفتي الشام، وعن شيخ الشام العفيف، المحدث الأكبر الشريف، بدر الدين الحسني، الغني عن التعريف، وتلقى الأتاسي العلم عن علامتي الشام الشيخ سليم بن ياسين العطار والشيخ بكري بن حامد العطار، رحمهما الرحيم الغفار، وآخذ الأتاسي أيضاً عن عالم حمص ودمشق الشاعر محمد أبي الجود بن مصطفى خانقاه، ودرس عليه من الأدب أرقاه، ومن العلم أصفاه وأنقاه، وقد توفى الخانقاه عام 1291 للهجرة=1874م، وكان مقرباً عند شاعر الشام في أوانه أمين الجندي العباسي.
توليه للقضاء ولفتوى الديار الحمصية وتخرج العلماء على يديه:
وصار بعد رشفه للعلم عن أفضل الأفاضل مرجع العالِمين، ينشده من كانوا بأبهة تفوُّقِه حالمين، وعرفت الدولة العثمانية مقدار فطنته، فنصبته قاضياً في مدن عديدة، فتولى المنصب في حوران عام 1306 للهجرة (1890م)، ثم في نابلس، فالكرك، ثم دنزلي وأدنة من الأناضول، ثم في القدس الشريف، إلى أن نال منصب القضاء في البصرة. ومنصب القضاء الشرعي في مدينة القدس يعتبر من أعلى رتب القضاء في السلطنة العثمانية إذ يأتي في الدرجة الخامسة بعد قضاء العسكر الروملي والأناضولي وقضاء الحرمين الشريفين، بينما يعتبر قاضي دمشق ثامناً من حيث الرتبة، ولا يتولى قضاء القدس إلا أكثر علماء الدولة تبحراً في العلوم الشرعية، ويعتبر من فئة “المولى الكبير”. ثم رسم للعلامة الأتاسي بالفتوى في بلده الأول حمص، وجاءه منشور المشيخة الإسلامية عام 1333 للهجرة (1914م)، فعاد إليها، وشرع بإفادة قاطينيها، وظل منارة للعلم مقصودة، ونبعاً للأداب منشودة. وظل رحمه الله مفتي المدينة إلى أن وافته المنية، فكانت مدة إفتائه قرابة ربع قرن.
وأقبل طلاب العلم عليه بهمة قوية، يدرسون العلوم الشرعية والأداب العربية، ويأخذون عنه الفقه واللغة والحديث، فخرجوا من حلقاته علماء أفذاذاً، وأضحوا بدورهم لعشاق العلم مقصداً وملاذاً، فمن الذين استجازوه وسمعوا من فوائده الشيخ محمد العربي العزوزي الإدريسي الحسني، أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، كما سيأتي، ومنهم الشيخ الدكتور الأزهري مصطفى السباعي الحسني (المتوفي عام 1964)، والذي أصبح المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في بلاد الشام بعد تأسيسه لها، وأحد نواب حمص ودمشق في المجالس النيابية، له حزبه وأتباعه في المجلس النيابي، ومعلماً تخرج الكثير من مدرسته الفكرية، وكان المؤسس لكلية الشريعة الإسلامية عام 1955، وأول عميد لها. وقد ذكر السباعي شيخه الأتاسي وأثنى عليه في مقابلاته ومقالاته.
ومن الذين درسوا على الأتاسي العلامة زاهد بن عبدالساتر الأتاسي، مدير المدرسة الإسلامية الوقفية، والذي لازم الأتاسي فأجازه الأخير بسنده عن أجداده، ومنهم الشيخ وصفي المسدي، إمام وخطيب ومدرس جامع القاسمي، والذي أدرك المترجم في آخر حياته فقرأ عليه كتاب جمع الجوامع، وكتاب الحكم العطائية، وكتاب التوضيح والتلويح في أصول الفقه، ولازم المسدي شيخه الأتاسي كذلك وأضحى مبيضاً لفتاويه، ومنهم محمد علي العطر، والشيخ محمود بن بدري السباعي، ومنهم الشيخ حسن شمس الدين الذي قرأ على الأتاسي كتاب جمع الجوامع في الفقه الشافعي، ومنهم الشيخ طيب الأتاسي رحمه الله، مفتي حمص فيما بعد، ومنهم الكاتب المؤلف خير الدين بن عبدالكريم بن طه شمسي باشا الحنبلي الحمصي، والذي درس على يد الأتاسي تفسير الكشاف للزمخشري، وغيرهم أناس لا يحصرون.
ويجدر بالذكر أن الأتاسي كان له درس في جامع سيدنا الصحابي الجليل خالد بن الوليد بعد صلاة الجمعة، درس ورثه عن آبائه وأجداده، رحمهم الله.
خوضه للسياسة وعمله لرفعة بلاده ورئاسته لمؤتمر علماء الشام الأول:
وعندما أراد الفرنسيون أن يجزؤوا البلاد، ويفرقوا شمل العباد، انبرى لهم ابن المترجم باجتهاد، واقترح إقامة استفتاء عام، فما وجد المستعمرون بداً من إقامة اتحاد، فصدر قرار بإقامة حكومة وحدة بين دويلة دمشق وحلب وجبل العلويين في 29 حزيران من عام 1922، وانتخب خمسة مندوبين عن كل دويلة ليشغلوا خمسة عشر مقعداً، فكان الأتاسي ممثل مدينة حمص في دويلة دمشق، وكان معه فارس الخوري ومحمد علي العابد وعطا الأيوبي ممثلين لمدينة دمشق، وراشد البرازي مندوباً عن حماة. وفي 10 كانون الأول 1922م قامت دولة الإتحاد وبدأ المجلس اجتماعاته وكان بمثابة المجلس النيابي المؤقت. ولما شكلت لجان المجلس الأربع (المالية، الحقوقية، الملكية وفيها التجارة، والنافعة وفيها الزراعة) للنظر في الشؤون المطروحة على المجلس عين طاهر أفندي الأتاسي في اللجنة الحقوقية بالإضافة إلى حسن أفندي الأورفلي واسماعيل أفندي الهواش. واستمر الوضع كذلك حتى أزال الفرنسيون الاتحاد في غرة كانون الثاني عام 1923م. فكان العلامة الأتاسي بذلك ثاني مفتي الأتاسية خوضاً للسياسة العامة وتولياً للنيابة، وذلك بعد والده الذي كان نائباً في مجلس المبعوثان، وكان الشيخ طاهر رابع النواب من آل الأتاسي كافة، إذ سبقه إلى ذلك أخوه هاشم الأتاسي عضو ورئيس أول مجلس نيابي سوري (المؤتمر السوري)، وابن عمه وصفي الأتاسي، عضو المجلس ذاته.
وفي 11 رجب عام 1357 من الهجرة (6 إيلول 1938م) اجتمع في دمشق الشام حشد من كبار علماء الشام والعراق بلغ عددهم مائة وخمسة، أموا الفيحاء من القدس ونابلس والنجف وبيروت وصيدا وطرطوس واللاذقية وحمص وحماة وحلب وأنطاكية وإدلب والباب ومنبج ووادي العجم والقنيطرة ودير عطية والنبك وعقدوا المؤتمر الأول للعلماء، وتباحثوا أوضاع العالم الإسلامي أياماً ثلاثة بلياليها ختمت بإصدار المؤتمر بياناً كان مفاد مقرراته: توضيح واجب العلماء في تبرئة الإسلام مما يصمه به المستعمرون، وكشف النقاب عن دواعي التفرقة التي يبثها المستعمر في البلاد باسم حماية الأقليات، والمطالبة بنشر العلم الشريف وإنشاء المدارس الشرعية وتأسيس معهد عال شرعي ضمن الجامعة السورية لتخريج القضاة الشرعيين والمفتين سداداً للحاجة الملحة لهم، وملء الشواغر العلمية بمستحقيها، وإحياء التراث التشريعي الإسلامي الجليل، والاهتمام باللغة العربية في المدارس، وإرسال بعثات أساتذة اللغة العربية إلى مصر للتخصص بدلاً من إرسالهم إلى أوروبا وتوضيح ما في ذلك من خطأ، وجعل اللغة العربية لغة دواوين الحكومة الرسمية والتأكد من سلامة المعاملات من الأخطاء اللغوية، وزيادة الدروس الدينية في المدارس وجعل المواد الدينية خاضعة لقوانين النجاح والرسوب، وتعيين مدرسين شرعيين من أجل تدريس الديانة الإسلامية، والمحافظة على الشعائر الدينية في المدارس، والدفاع عن الأوقاف الإسلامية الذرية استناداً على فتاوى العلماء بوجوب الإبقاء على الأوقاف، وإعطاء النظر في أمورها إلى علماء الدين، والاحتجاج على غصب الخط الحجازي لما فيه من عدوان على المؤسسات الوقفية المقدسة، وإصلاح المحاكم الشرعية وإناطة القضاء بالعلماء الشرعيين لا المدنيين، والمحافظة على الأداب والأخلاق العامة السليمة وإنزال العقاب بالمخلين بها، ومراقبة الأشرطة السنيمائية، والتضامن مع فلسطين المعذبة والاحتجاج الشديد على ما يجري فيها من الاعتداء على كرامة رجال الدينين الإسلامي والمسيحي، والاحتجاج على تعطيل المجلس الإسلامي الأعلى، وعلى الاستيلاء على الأوقاف الذرية، وتأييد قرار كبار علماء الأزهر الشريف برفض مشروع التقسيم، وتأييد فتوى علماء العراق من أهل السنة والشيعة باعتبار جهاد فلسطين جهاداً مشروعاً، وجمع الإعانات لمنكوبي أهلها، وإرسال تحية إكبار إلى شعب فلسطين الباسل وإلى زعمائه، والاحتجاج على ما كان يجري في لواء الاسكندرون من تشتيت للمسلمين واتنهاك لحرمات العلماء، وتأليف جمعيات للعلماء في المدن خلال ثلاثة أشهر من انفضاض المؤتمر واعتبار تلك الجمعيات لجاناً فرعية تنفيذية لللجنة التنفيذة المركزية للمؤتمر والمؤلفة من جمعية علماء دمشق، وتكرير عقد المؤتمر كلما ألحت الضرورة، وتكليف جمعيات علماء المدن بالإصلاح بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الآداب الإسلامية وحمايتها في المدن والقرى، ووضع نظام للعلماء يعرف بموجبه العلماء ويبين واجباتهم وتعيين شعار خاص بهم يظهرهم على غيرهم من غير العلماء، وتأليف لجنة علمية عليا لتطبيق النظام وترتيب المسؤوليات المحتمة على العلماء، والعمل على توثيق الصلات بين علماء الأقطار وسائر الجمعيات الإسلامية، وتأييد اقتراح العلامة عبدالكريم الزنجاني من علماء إخواننا الشيعة في العراق بوجوب جمع كلمة المسلمين من مختلف المذاهب الإسلامية بالدعوة إلى عقد مؤتمر عالمي لعلماء المسلمين لتحقيق هذه الفكرة السامية، وغيره من المقررات المفيدة. ووجه المؤتمر كلمة إلى رجال السياسة يطلب منهم التحلي بالوطنية والجهاد في سبيل حرية الوطن، والعمل على صيانة حقوق كافة الأديان كما أمر الشرع الإسلامي الحنيف، وعدم الرضوخ للمستعمر ودعاياته، والعمل على كشف المؤامرات التي تحاك على الإسلام باسم الأقليات، ووجه المؤتمر كلمة إلى علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية يدعوهم إلى عقد مؤتمر عالمي عام يكون صخرة في بناء حصن الإسلام وإلى عقد المؤتمرات المحلية أسوة بمؤتمر علماء الشام للنضال ضد العدوان على الإسلام والمسلمين وتحقيق المبادئ الإسلامية التي إنما هي في خدمة الانسانية. هذا هو اختصار مقررات ذلك المؤتمر السامية الشريفة، وكم نحن اليوم نفتقر إلى مثل هذه المبادئ العالية. رحم الله العلماء وأكثر منهم في أمتنا وأفادنا بهم ودرأ الله بهم أخطار الزيغ والضلال عنا.
وكان من أعضاء مؤتمر العلماء الذين نزلوا دمشق ليمثلوا مدينة ابن الوليد البهية واحد وعشرون من أكبر علماء حمص هم الشيخ طاهر الأتاسي، والشيخ توفيق الأتاسي، والشيخ عاطف الأتاسي، والشيخ طيب الأتاسي، والشيخ عبدالقادر الخجا، والشيخ طاهر الرئيس، والشيخ مؤيد شمسي باشا، والشيخ مصطفى حسني السباعي، والشيخ عبدالعزيز عيون السود، والشيخ حسن شمس الدين، والشيخ عبدالفتاح المسدي، والشيخ رضا الجمالي، والشيخ أبو السعود عبدالسلام، والشيخ بدوي السباعي، والشيخ حسن الرفاعي، والشيخ صلاح الدين السباعي، والشيخ عبدالجليل مراد، والشيخ عبدالله الزهري، والشيخ محمد علي عيون السود، والشيخ محمد نديم الرفاعي، والشيخ محمد نور العثمان.
ومن كبار علماء العصر الذين كانوا أعضاء في ذلك المؤتمر نذكر الشيخ ابراهيم الغلاييني، والشيخ راغب الطباخ، والشيخ سعيد الحمزاوي، والشيخ صالح الفرفور، والشيخ عبدالقادر المبارك، والشيخ محمد بهجة البيطار، والشيخ محمد الحامد، والشيخ عبدالرحيم الخطيب، والشيخ معروف الدواليبي، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ هاشم الخطيب، والشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ أحمد الدقر، والشيخ أمين الكيلاني، والشيخ محمد محاسن الأزهري، الشيخ صلاح الدين الأزهري، والشيخ عارف الدوجي، والشيخ عبدالرؤوف الاسطواني، والشيخ عبدالقادر السرميني، والشيخ جميل الشطي، والشيخ حسن الشطي، والشيخ حسن الميداني، والشيخ سعيد النعساني، والشيخ سليم الطيبي، والشيخ محمد الداعوق، والشيخ محمد سليم الحلواني، والشيخ محمد أحمد دهمان، والشيخ سعيد الجابي، والشيخ عبدالرحمن سلام، والشيخ عبدالكريم الزنجاني، والشيخ علي الدقر، والشيخ عيد الحلبي، والشيخ كامل القصاب، والشيخ محمد الكامل القصار، والشيخ محمود الشقفة، والشيخ محمود العطار، والشيخ مختار العلايلي، والشيخ مكي الكتاني، والشيخ ناصر الكتاني، والشيخ ياسين القطب، وغيرهم من أكابر العلماء المشاهير الغنيين عن التعريف، رحمهم الله رحمة واسعة وجمعهم في أعالي جنانه. ولما انعقد مؤتمر العلماء اجتمعت كلمة العلماء على انتخاب العلامة طاهر الأتاسي رحمه الله رئيساً للمؤتمر.
شعره وأدبه:
وبالإضافة إلى علمه الغزير وانشغاله بالفتوى والسياسة، كان العلامة أديباً شاعراً كأبيه، بل وملماً بأنواع الموسيقى.
وفي عام 1924م لما بويع ملك الحجاز وشريف مكة، الحسين بن علي بن عون الهاشمي، بالخلافة الكبرى أبرق الأتاسي، وقد كان مفتي حمص آنها، إليه خطاباً مبايعاً إياه على لسان أهل حمص. وقد كان الأتاسيون يرون في بيعة الهواشم استمراراً للخلافة التي قضى عليها كمال أتاتورك (اليهودي الأصل) بعزل آخر الخلفاء العثمانيين عام 1924م، وقد مقته آل لأتاسي وذموا حزبه الذي أقام العلمانية منهجاً. ولما شغر منصب الخلافة اتجهت أنظارهم إلى الهاشميين الذين كانوا رمزاً للإسلام بكونهم من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولاستيطانهم مكة المكرمة عاصمة الإسلام، ولعراقة أسرتهم في حكمها لمكة عبر القرون الطويلة.
وبعد، فقد اشتهرت بلاغة العلامة الأتاسي وملكاته الأدبية اشتهاراً، وتداول الناس قصائده وتسامروا بها في المجالس، وفي يد الكثير من الناس اليوم في حمص ودمشق وغيرها من البلاد عدد من أشعاره، حتى قال في ترجمته السيد الجندي في كتابه “أعلام الأدب والفن”:
“علمه وشعره: كان رحمه الله متبحراً في العلوم الشرعية والأدبية وقد فاق المرحوم والده بروعة شعره فانقادت لبلاغته وبيانه قوافي النظم ومن شعره قصيدة كان نظمها بعيد مولد النبي الشريف وهي 125 بيتاً ومطلعها:
يميناً بالمُحصّب لن يمينـا
سقى كف الحياة حياً وحيّا
لعهدي عهديَ الأقوى يمينا
ثرىً كم فيه عَفَّرْتُ الجبينا
وقال في ترجمة العلامة الأتاسي الأستاذ عبدالإله النبهان:
“كان الشيخ حريصاً على قراءة الأدب والشعر حتى في مرحلة الإفتاء وعندما كان منهمكاً في سهره المتواصل لإتمام “شرح المجلّة” وإخراجها، وكانت تحت يده مكتبة ضخمة غنية، وقد حدّثني السيد سعيد محمد السباعي أن الشيخ محمد نديم الوفائي زار المفتي فوجده يقرأ مسرحية “مجنون ليلى” لأمير الشعراء أحمد شوقي، فظهر عليه الاستغراب والدهشة: المفتي شارح المجلة يقرأ مسرحية شعرية! فقال له المفتي: “ندّوا أقلامكم بالأدب”.
مصنفاته وآثاره الشرعية والأدبية:
واشتغل العلامة الأتاسي بالتأليف، فكان من مصنفاته:
1) إكمال “شرح مجلة الأحكام العدلية” في الفقه الحنفي، والتي بدأها والده خالد الأتاسي، وأكمل المترجم مجلداتها الأخيرة فجاءت في سبعة أجزاء، وقد طبع هذا المؤلف الضخم مرات في حال حياته وبعد وفاته ووزع الكتاب وانتشر وصار كتاباً يدرس لطلاب العلم.
2) “الرد على الأحمدية القاديانية”، طُبع مرة ولم تجدد طباعته.
3) “سواطع الحق المبين في الرد على من أنكر أن سيدنا محمد خاتم النبيين”، طُبع في حمص عام 1350 للهجرة (1931م).
4) مجموعة فتاوى كانت عند الشيخ وصفي المسدي أحد تلامذته.
5) ديوان شعر كبير غير مطبوع.
بالإضافة إلى مصنفات شرعية أخرى لم تطبع، ولا أدري إن كانت لا تزال موجودة. هذا وقد كان الشيخ طاهر الأتاسي خطاطاً، خط بقلمه الشريف القرآن الكريم كاملاً ومن ذلك نسخة كتبها بخط الإجازة كانت موجودة في مسجد خالد بن الوليد ثم نقلت إلى متحف دائرة الأوقاف بحمص حيث هي الآن معروضة.
قصة عن فضائل الأتاسي:
أروي هنا خبراً عن شمائل العلامة الأتاسي فقد أُخبر عن سوء سلوك بعض العوام في حمص فقد كان في عن شارع من شوارع حمص كانت فيه حفرة كبيرة، وكان بعض الجهلة يجلسون على قارعة ذالك الطريق، فإذا ما مر رجل من النصارى أمامهم نادوه قائلين: “طورق!”، أي انزل الحفرة فامش بها، سخرية واستهزاءً، حتى ضاقت الأمور على النصارى، فلما بلغ هذا الخبر مسامع مفتي المدينة طاهر أفندي غضب غضباً شديدا، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين في شيء بل هو مناف لتعاليم الدين الإسلامي ومنفر عن الدعوة إلى الدين الحنيف، فأصدر الأتاسي لتوه فتوى معززة بالأدلة تمنع الناس عن مثل هذا الأعمال المنكرة ، فكان أن اضطر هؤلاء الجهلة إلى الكف عن عملهم، الأمر الذي رفع الحرج عن مسيحيي المدينة،
الأتاسي في مؤلفات الآخرين وعلى ألسنتهم:
وقد جاءت ترجمة العلامة وذكره في مؤلفات تاريخية عديدة، فقد قال فيه صاحب تاريخ حمص بعد أن ترجم له: “والمفتي طاهر الأتاسي عالم كبير وفقيه مشرع وبحاثة مدقق وشاعر محلق، وكانت مستعصيات المسائل الفقهية تأتيه من كل أنحاء البلاد السورية والعربية فيفتي فيها بإحكام ودقة”.
وذكره العلامة الشريف محمد العربي العزوزي الإدريسي الحسني، أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية في ثبته “إتحاف ذوي العناية” فقال: “ثم في سنة 1353 للهجرة (1934م) زرت مدينة حمص واجتمعت بجل علمائها وفضلائها، فمنهم المفتي الحالي العلامة النوازلي السيد محمد طاهر الأتاسي، بيتهم بيت علم وفضل وجاه ولعائلته الكريمة السيطرة ونفوذ الكلمة، زرته في بيته وأطلعني على شرح المجلة لوالده المفتي السابق وتكملته له، وكان إذ ذاك مباشراً لطبعهما، أجازني بما له من الإجازة العامة المطلقة عن والده وعن غيره من فضلاء عصره”.
وترجم له العالم والصوفي الشاعر والمؤرخ الشيخ عبدالهادي الوفائي في كتابه “التاريخ الحمصي” فكان مما قال: “الشيخ طاهر الأتاسي العالم الفاضل، أتقن جميع العلوم وفاق على الشعراء بالشعر، فكم له من قصائد رائقة وألفاظ دقيقة وقدودٍ شتّى، ولو كان عنده علم الموسيقا لفاق على الشيخ أمين الجندي، وكان بالشعر يفوق على والده خالد أفندي المفتي”.
وأشاد به العلامة الداعية الدكتور مصطفى حسني السباعي وترجم له فقال في تأبينه في مجلة الفتح (ننقلها من كتاب “مصطفى السباعي: الداعية المجدد” للدكتور زرزور): “وهو المفتي الوحيد في بلاد الشام الذي يزن الأمور بميزان المصلحة العامة، ويطبقها على المقاصد الشرعية السامية، فإذا تحقق في مسألة من المسائل المعروضة عليه مصلحة عامة تعود على العلم أو الدين أو الأمة، التمس لها الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، أو أقوال مشاهير العلماء، ضارباً صفحاً عما هنالك من نصوص فقهية قد يحول الأخذ بظاهرها دون تحقيق تلك المصلحة المرجوة”، ثم قال: “وقلّ أن تجد في المفتين المعاصرين من له هذه الروح وهذه القوة، وهذا التمكن البالغ في فهم دقائق الفقه الإسلامي ومقاصده”.
وذكره عدنان الملوحي، الصحفي، عندما ذكر آل الأتاسي في ترجمته للرئيس الجليل هاشم بك الأتاسي، فقال: “وكان عدد من هذه الأسرة من العلماء والأعلام، ومنهم كان يعين مفتي حمص على مدى عقود طويلة، وأذكر منهم، وأنا يومئذ صغير، الشيخ طاهر الأتاسي، وكان أبي الشيخ الإمام يزوره في مجلسه وديوانه في منزله في حارة “بيت الأتاسي” بالقرب من طريق الشام، وكنت أرافق أبي في بعض زياراته المعتادة للمفتي الشيخ طاهر، وكنت ألاحظ إهتمام سماحته بأبي وتقديمه على غيره من علماء ومشايخ المدينة وأئمتها”.
وقال فيه الشيخ وصفي المسدي، والذي لازمه صغيراً في آخر حياة الأتاسي ودرس عليه: “كان الشيخ طاهر أفندي في الحقيقة خاتمة العلماء، كان عالماً في جميع فروع العلم، بل وله باع طويل في التصوف والمنطق، وكنت قد فتحت معه درساً في أصول الفقه الحنفي فقرأ كتاب التوضيح والتلويح، فكنا لا نفهم الدرس لصعوبته فكان رحمه الله يفسره لنا”، وقال: “وفي الشعر كان شاعراً مجيداً، كلفه ذات مرة الإخوان المسلمون بقصيدة شعرية بمناسبة الهجرة أو المولد، فكتب لهم قصيدة، وصعد إلى المنبر يومها الشيخ مؤيد شمسي باشا (مفتي الحنابلة بحمص) فألقاها، وهي قصيدة لها قيمتها، وكان الشيخ مؤيد يلقيها في المجالس”، وقال: “كان الشيخ طاهر رجل علم بحق، والكتب كانت حوله دوماً، وكثيراً ما وجد سارحاً في كتبه لياليا كاملة رحمه الله”، وقال: “وتوليت تبييض الفتاوى له فكانت كل فتوى درساً، وكان عالماً بضبط الأنغام والموسيقى، إذ أن ذات مرة طلب منه التلاميذ والمشايخ في حمص أن يعقد لهم مجلساً يستمعون فيه إلى قراءة الشيخ محمد رفعت، فعين طاهر أفندي لهم يوماً وأحضر له ولده فيضي المذياع، وجلسوا يستمعون إلى قراءة الشيخ والشيخ طاهر يشير بين الحين والآخر إلى القراءة وضبطها فيقول لهم: هذا رصد، وهذا حجاز، فإذا به أيضاً عالم بضبط الأنغام”.
وجاء ذكر “طاهر الأتاسي الحمصي: فقيه عالم بالموسيقى” في كتاب “موسوعة العالم الإسلامي ورجالها” تحت عنوان ” الفقهاء وأهل الدين والقانون” في قسم “عصر النهضة العربية” في تجميعٍ لأشهر علماء الأمة الإسلامية في ذلك الزمان. ومن الشخصيات التاريخية العظيمة من علماء الشام الشريف التي كانت في تلك القائمة نجد أمين الجندي، والأمير عبدالقادر الجزائري، ومحيي الدين اليافي، ومحمود الحمزاوي، وعبدالرحمن الكواكبي، وجمال الدين القاسمي، ومحسن الأمين، وكامل الغزي، ومحمد عابدين، وبدر الدين الحسني، ومحمد البيروتي، وغيرهم من أعظم علماء الشام في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي.
ومن الذين جاؤوا على ذكر فضله أو ترجموا له: نقيب أشراف دمشق محمد أديب الحصني في كتاب “منتخبات التواريخ لدمشق” الذي عرف به فقال: “العالم الجليل طاهر أفندي قاضي البصرة السابق ومفتي حمص اليوم”، والبستاني في “دائرة المعارف”، وترجم له كذلك مؤرخ حمص منير عيسى أسعد في “تاريخ حمص” كما أتى، والجندي في “أعلام الأدب والفن”، وعبدالهادي الوفائي في “التاريخ الحمصي” كما سلف، والزركلي في “الأعلام”، وكحالة في “معجم المؤلفين”، وعياش في “معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين”، ومجاهد في “الأعلام الشرقية في المائة الرابعة الهجرية”، وقدامة في “معالم وأعلام”، والبواب في “موسوعة أعلام سورية في القرن العشرين”، والدكتور عبدالإله النبهان في مقالة بعنوان “لمحات من أدب أواخر العهد العثماني” في مجلة تراث العرب، وغيرهم كثير.
وفي حمص سمي أحد الشوارع باسم طاهر الأتاسي اعترافاً بجميله على تلك المدينة، وعرف به تحت لوحة الاسم التي أقيمت في ذلك الشارع بلوحة أخرى كما هو متبع اليوم في سوريا، فجاء في اللوحة: “طاهر الأتاسي: مفتي حمص وفقيهها، مولده ووفاته بها، تولى الافتاء في حمص، وكان عارفاً بالأدب وله إلمام واسع بالموسيقى”.
ومن الجدير بالذكر أن العلامة الأتاسي ينتمي إلى آل السباعي الأدارسة الحسنيين عن طريق أمه السباعية، وقد تزوج العلامة الأتاسي بابنة عمه السيدة نفيسة بنت أحمد أفندي بن العلامة المفتي محمد سعيد أفندي الأتاسي وأنجبت له ابنيه السيد فيضي الأتاسي الآتية ترجمته واسحاق الذي توفاه الله صغيراً.
انتقل المرحوم العلامة إلى رحمة الله في يوم الجمعة الحادي عشر من ربيع الأول من شهور عام 1359 الهجري المقابل لشهر نيسان عام 1940م، ودفن في مدافن العائلة في حمص، وقد كان بحق من أكبر علماء حمص ومن أعظم فضلائها على مر التاريخ.
المصادر:
1) الأتاسي، محمد خالد ومحمد طاهر-شرح المجلة-مطبعة حمص، حمص-1930-1937م.
2) الزركلي، خير الدين-الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين-دار العلم للملايين، بيروت-الطبعة الرابعة،1979م.
3) أسعد، منيرالخوري عيسى- تاريخ حمص-مطرانية حمص الأرثوذكسية-الطبعة الأولى، 1984م.
4) الجندي، أدهم-أعلام الأدب والفن-مطبعة مجلة صوت سورية، دمشق-1954.
5) مجاهد، زكي محمد-الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة للهجرة-دار الغرب الإسلامي، بيروت-الطبعة الثانية، 1994م.
6) قدامة، أحمد-معالم وأعلام، القسم الأول: القطر السوري-مطبعة ألف باء-الأديب، دمشق-1965.
7) كحالة، عمر رضا-معجم المؤلفين-مؤسسة الرسالة، بيروت-الطبعة الأولى، 1414 للهجرة=1993.
8) الحكيم، يوسف-سوريا والإنتداب الفرنسي-دار النهار للنشر، بيروت-1983م.
9) اللجنة التنفيذية المركزية لمؤتمر العلماء الأول-بيان مؤتمر العلماء الأول المنعقد بدمشق بتاريخ 11-13 رجب 1357 و6-8 إيلول 1938-مطبعة الترقي بدمشق، 1357 (1938م).
10) الخوري، كوليت-أوراق فارس الخوري، الكتاب الثاني: العهد الفيصلي وبداية الإنتداب (1918-1924م)-دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق-الطبعة الأولى، 1997م.
11) العينتابي وعثمان، محمد فؤاد ونجوى-حلب في مئة عام-منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي-1414 للهجرة (1993م).
12) جرّار-حسن أدهم-الدكتور مصطفى السباعي: قائد جيل ورائد أمة-دار البشير للنشر والتوزيع-الطبعة الأولى، 1415 للهجرة (1994م).
13) آل رشيد، محمد بن عبدالله-محدث الشام: العلامة السيد بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، المولود سنة 1267والمتوفي سنة 1354 بأقلام تلامذته وعارفيه-مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ودار الحنان، دمشق-الطبعة الأولى، 1419 (1998م).
14) عياش، عبدالقادر-معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين-دار الفكر، دمشق-الطبعة الأولى 1405 للهجرة (1985م).
15) العربي العزوزي الإدريسي الحسني، السيد محمد-إتحاف ذوي العناية-مطبعة الإنصاف، بيروت-1370 للهجرة = 1950م.
16) زرزور، الدكتور عدنان محمد-مصطفى السباعي الداعية المجدد-دار القلم، دمشق-الطبعة الأولى، 1421 (2000).
17) مصطفى، شاكر-موسوعة دول العالم الإسلامي ورجالها-دار العلم للملايين، بيروت-الطبعة الأولى، 1995م.
منقول