في وسط إسبانيا، عند مرتفع مهيب تحيط به أودية عميقة، وأجراف غائرة تتدفق منها مياه نهر تاجة، تشمخ مدينة طليطلة أو توليدو Toledo، التي أُنشئت في زمن الإغريق وازدهرت في عهد الرومان، وتفوقت سياسيًا على سائر مدن الأندلس أيام الفتح الإسلامي، ولذلك تحتل هذه المدينة مساحة كبيرة في الذاكرة العربية، وتحظى باهتمام واسع لدى الباحثين في أمجاد العرب وأيامهم في الأندلس التي استمرت ما يقارب 800 عام، فهي من أهم الشواهد التي تروي حكاية الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس، وما شهدته من ازدهار وتطور في شتى المجالات العلمية والفنية والمعمارية.
ولهذه المدينة أهمية كبيرة من حيث تنوع المشهد الحضاري فيها، إذ يجد الباحث في أزقتها القديمة شوارع ضيقة مرصوفة بالحصى، وأزقة حادة تضم بين جنباتها موروثًا ثقافيًا ومعماريًا هائلًا، من بينها قلعة رومانية يعود تاريخها إلى 2000 عام، كما اتخذ القوطيون الغربيون من مدينة طليطلة عاصمة لهم في القرن السادس، وكانت في العصور الوسطى بوتقة لانصهار المسلمين والمسيحيين واليهود، ما نتج عنه اندماج متناغم من تأثيرات الديانات الثلاث، إضافة إلى كونها عاصمة بني ذي النون، وهم من ملوك الطوائف. وإن من أبرز معالم العمران العربي المسلم في طليطلة مسجد باب المردوم.
موقع مسجد باب المردوم:
ويعرف هذا الجامع اليوم باسم باب مردوم Bib Mardom، نسبة إلى باب مجاور له ما زال قائمًا، ويعرف باسم الباب المردوم. ويقع مسجد باب المردوم فى حى سان نيكولاس بمدينة طليطلة فى الأندلس أمام أحد أبواب المدينة القديمة، بُنى المسجد فى عصر الخلافة الأموية في الأندلس، وهو واحد من أقدم المعالم الأثرية الإسلامية فى طليطلة.
تاريخ بناء المسجد:
يعلو واجهة جامع بابا لمردوم نقش كتابي تاريخي من قطع آجرية بارزة في إفريز يقع بين صفين من الأسنة البارزة من نفس المادة، تم اكتشافه فى الوجهة الغربية لمسج دباب المردوم مكتوب عليها: "بسم الله الرحمن الرحيم أقام هذا المسجد أحمد بن حديدى من ماله ابتغاء ثواب الله فتم بعون الله على يد موسى بن على البناء وسعادة فتم فى المحرم سنة تسعين وثلث مائة".
إذًا بُنى المسجد فى عام 390 هـ / 999م تحت إشراف المهندس موسي بن على، وتولى السيد أحمد بن حديدى سداد نفقات البناء من ماله الخاص. وأسرة بنى حديد أو بنى حديدى كانت أسرة مشهورة فى طليطلة، وكان أحمد بن حديدى بانى هذا المسجد من أحد أعيانها، وتولى الوزارة أيام إسماعيل بن ذي النون ملك طليطلة وقد اشتهر أمر ابن حديدى المذكور بالقتل على يدي القادر بالله يحيى بن ذي النون ملك طليطلة (467 - 472 هـ). وهاجرت هذه الأسرة إلى مصر عقب سقوط طليطلة وقد تولى أحد أفرادها وهو مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد منصب قاضى الإسكندرية فى العصر الفاطمى.
وصف جامع باب المردوم:
يعد مسجد باب المردوم نموذج لما كانت عليه المساجد في الأندلس في العصر الأموى. فعلى الرغم من صغر مساحة مسجد بابالمردوم فإنه يعتبر أهم مسجد في الأندلس بعد جامع قرطبة، لاحتفاظه بقباب تسعة، قائمة على الضلوع المتقاطعة، تمثل أولى مراحل التطور التي مرت بها قباب جامع قرطبة.
ومسجد باب المردوم مسجد صغير لا يزيد طول ضلعه على ثمانية أمتار، وفى جنوبه بروز المحراب، وكان مربعًا من خارجه فى الأصل، فلما حولوا المسجد إلى كنيسة بنوا جدارًا مستديرًا لينشئوا وراءه ما يحتاجه مصلب الكنيسة ومذبحها من غرف صغيرة.
والمسجد فى هيئته الأولى مربع تقوم كل من واجهاته على ثلاثة عقود ضخمة عالية من الحجر، بداخل كل منها باب أصغر على هيئة عقد مستدير، وهذه العقود تحمل فوقها صفًا من النوافذ عربية على هيئة بوابات زخرفية، ولا شك أنها كانت مغطاة بالزجاج على أيام حكم المسلمين لتفيض النور داخل المسجد، والآن تسد هذه النوافذ بألواح خشبية ذات فتحات مربعة تسمح بمرور الضوء إلى داخل المسجد.
وكانت للمسجد قبة صغيرة تقوم على أربعة أعمدة ضخمة فى وسطه، وقد ازيلت القبة الآن، ولكن أجزاء السقف حولها مزينة بدعامات من الحجر المتقاطع، تدلنا على أن قبته كانت تشبه فى هيئتها القباب الصغيرة التى توجد مثيلتها فى جامع قرطبة. فإذا أفضيت إلى داخل المسجد وجدت صحنًا صغيرًا فى وسطه الأعمدة الأربعة التى أشرنا إليها.
وهذا المسجد، الذى تفضى إليه الآن عن طريق شوارع ضيقة، نموذج للمساجد الإسلامية الصغيرة فى الأندلس، ومن هنا فإن أهميته عظيمة للباحثين واساتذة العمارة الأندلسية، رغم ما أدخل عليه من تعديلات ليصبح كنيسة مسيحية.
يقول الدكتور السيد عبد العزيز سالم في وصف مسجد باب المردوم: "والمسجد مربع الشكل على نظام الكنائس البيزنطية لا يتجاوز طول الجانب منه ثمانية أمتار، وقد شيدت جدرانه من الحجر الجراني والآجر وفقًا للأسلوب الذي اختصت به طليطلة، ..، ويتكون المسجد من ثلاثة أروقة طولية تقطعها ثلاثة أروقة عرضية بحيث يحدث من ذلك التقاطع تسعة أساطين، تفصل بينها أربعة أعمدة تيجانها قوطية قديمة، يتفرع منها اثنا عشر قوسا على شكل حدوة الفرس، ويعلو كل أسطوان من الأساطين التسعة قبة تتقاطع فيها الأقواس على نحو ما رأيناه في قباب قرطبة، والقبة الوسطى أكثر من القباب الأخرى ارتفاعا. ونظام التقبيب يقوم على تقاطع الضلوع المتجاوزة في صور مختلفة، منها ما يمثل شكلا رباعيًّا منحرفًا ذا أقطار، بحيث يبدو كما لو كان قبوتين من الطراز القوطي إحداهما داخل الأخرى، ومنها ما يبدو على شكل مثمن، ومنها ما يقلد تقاطع القبة المخرمة الكبرى بجامع قرطبة.
وتعرض قباب جامع باب المردوم تطورًا لقباب قرطبة نحو الزخرفة. أما واجهة المسجد الرئيسية وهي الواجهة الجنوبية الغربية، فتطل على الطريق المؤدي إلى باب مردوم بثلاثة عقود، وفي أعلاها النقش الكوفي. والقوس الأيمن من هذه الأقواس متجاوز على شكل حدوة الفرس، على مثال عقود جامع قرطبة. والقوس الأيسر مفصص أما الأوسط فمجدد، ويعلو الأقواس الثلاثة التي تعتبر أبوابا لبيت الصلاة، بائكة صماء من أقواس متقاطعة ويتوج هذه البائكة الزخرفية إفريز بداخله شبكة مخرمة من المعينات. أما الواجهة التي تطل على صحن المسجد فتتألف من ثلاثة عقود متجاوزة بمثابة أبواب، تعلوها ستة أقواس متجاوزة صماء يتناوب فيها اللونان الأبيض والأحمر نتيجة لتعاقب قوالب الحجر والآجر على نظام أقواس جامع قرطبة".
يشبه شكل مسجد باب المردوم الهندسي مسجد بو فتاتة في سوسة، والذي تم بناؤه بين عامي 223و 226هـ/ 838 و841م. ومسجد الأبواب الثلاث في القيروان، والذي تم بناؤه عام 252هـ / 866م، مما يؤكد استنباط الشكل من أسلوب ميز العصر الوسيط. كما أن هناك تشابه معماري يميز مسجد باب المردوم، يكمن في المسجد الجنائزي في طابا في مصر، والذي تم بناؤه عام 331هـ / 943م. وهناك أيضًا بناءان في مصر يحتويان على مزايا متشابهة، وهما مسجد القبلة الجنائزي وضريح "سبعة وسبعين واليًا" في أسوان (دمر عام 1901م). ويعتبر مسجد باب المردوم النموذج الأندلسي لنوع الأبنية تحت القبب، والتي ذاع صيتها وصولًا إلى أفغانستان،حيث تميز مسجد "بالخ" الذي تم بناؤه في القرن التاسع، بمخطط مماثل.
باب المردوم معلم إسلامي أصيل:
رغم أن الكثير من المعالم الإسلامية في طليطلة قد تم محوها من طرف ملوك قشتالة المتعاقبين، إلا أن هذا المسجد لايزال شاهدا على تاريخ المدينة المفقود بشكل فريد، وهو مسجد إسلامي بطراز عربي بحت، يفند الأساطير القشتالية من أنه كان مؤسسا على كنيسة قديمة، بدليل أنه في 22 فبراير سنة 1899م تم تدمير الحائط الخارجي الذي كان يغطي البناء الإسلامي، فتم اكتشاف كتابة عربية منقوشة على الواجهة الرئيسية للمسجد مؤكدة الهوية الإسلامية لمشيد هذه المعلمة الإسلامية.
فبعد إستيلاء ألفونسو السادس على طليطلة فى سنة 478هـ / 1085م منح المسجد لفرسان القديس يوحنا، ثم تم تحويله إلى كنيسة نور المسيح، واليوم بعد تحويله إلى مزار سياحى، وأصبح اسمه "مسجد نور المسيح Mezquita Cristo de la Luz".
بعد أن حوِّل المسجد إلى كنيسة، أضيفت إليه في الجانب الشرفي حنية مدجنة، وأطلق عليه اسم سانتا كروث Santa Cruz، ووهبه ألفونسو الثامن لإحدى الجمعيات الدينية، ويسمي اليوم النصارى الكنيسة القائمة على أرباعه: "مسجد القديس المسيح ذو الأنوار"، وأشير هنا إلى الاحتفاظ بكلمة مسجد؛ حيث يدعي القشتاليون أن ألفونسو السادس الذي أخذ طليطلة من يد المسلمين ذهب إلى مسجد "باب المردوم" فانحنى به فرسه، و جلس تحت حجارة يشع منها نور، فلما حمل الحجر وجد صورة ذات نور شديد تعود لفترة ما قبل الدخول الإسلامي للأندلس سنة 711م. فسموه بهذا الاسم! ولاتزال الكثير من الحفريات جارية إلى يومنا بين أنقاض المسجد، غير أن الباحثين اجتمعوا على أنه لا أثر لكنيسة على أسسه.
المراجع:
- الدكتور السيد عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي إلى السقوط، دار النهضة العربية، 1988م.
- محمد عبد الله عنان: الآثار الأندلسية الباقية فى أسبانيا والبرتغال.
- باسيليو بابون مالدونادو: الفن الطليطلى الإسلامى والمدجن.
الشارقة غيث خوري: مسجد باب المردوم أثر طليطلة الشامخ، موقع الخليج.
- داليا راشد: مسجد باب المردوم، موقع أندلسي.
- مسجد باب المردوم .. طليطلة، صفحة الأندلس عاصمة الإسلام ودرة الإسلام المفقود.
منقول