ومنها :- أن من السنة الصلاة بين كل أذانين , أي بين الأذان والإقامة ، وهذا من باب الاستنان المطلق ، لكن لا ينبغي المداومة عليها حتى لا يتخذها الناس من السنن الراتبة ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (( بين كل أذانين صلاة ، بين كل أذانين صلاة ، بين كل أذانين صلاة ،لمن شاء ، كراهية أن يتخذها الناس سنة )) رواه الجماعة ، فقوله " كراهية أن يتخذها الناس سنة " هذا من باب سد الذرائع ، ولذلك فالقاعدة عندنا تقول ( ما ليس بسنة راتبة ، فالسنة تركه أحيانا ) فلا تنبغي المداومة على ما ليس بسنة راتبة ، من باب سد ذريعة اتخاذه الناس سنة راتبة ، قال الشاطبي ( وبالجملة : فكل عمل أصله ثابت شرعًا ، إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يُخاف أن يعتقد أنه سنة ؛ فتركه مطلوب في الجملة من باب سد الذرائع ) والله أعلم .
ومنها:- وهو دليل على عمل الصحابة لهذه القاعدة امتناع عثمان رضي الله عنه عن قصر الصلاة وهو مسافر بمنى ، فيقال له : أليس قصرت مع النبي ? فيقول:- بلى ، ولكني إمام الناس ، فينظر إليَّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون هكذا فرضت. قال الطرطوشي تعليقًا على ذلك (تأملوا رحمكم الله فإن في القصر قولين لأهل الإسلام :منهم من يقول : فريضة ... ، ومنهم من يقول سنة ...ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لمّا خاف من سوء العاقبة ، وأنْ يعتقد الناس أن الفرض ركعتان ) والحق وإن كان هو القصر ، لكن نحن نريد بهذا الفرع أن نثبت أن هذه القاعدة من القواعد المعتمدة عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , الله أعلم .
ومنها :- ترك بعض الصحابة رضي الله عنهم الأضحية خشية أن يظن أنها واجبة ، نُقل ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه ( إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة ) قال الطرطوشي تعليقًا على ذلك ( انظروا رحمكم الله فإن القول في هذا الأثر كالقول فيما قبله ؛ فإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية أحدهما سنة ، والثاني : واجبة . ثم اقتحم الصحابة ترك السنة ؛ حذرًا أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدونها فريضة ) وهذا دليل على اعتبار الصحابة لقاعدة سد الذرائع ، والله أعلم .
ومنها :- الحق الحقيق بالقبول هو أنه ليس في الدين شيء يقال له :- بدعة حسنة ، بل البدع في الدين كلها قبيحة ، ليس فيها شيء حسن ، نعم الأمور المحدثة في أمر من أمور الدنيا مما لا تعلق له بالدين لا حرج فيه ، إن لم يخالف دليلا صحيحا ، وأما الإحداث في الدين فإنه كله قبيح ، وضلالة وليس فيه شيء حسن ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( وكل بدعة ضلالة )) ولقد حارب أهل العلم رحمهم الله تعالى من أهل السنة والجماعة القول بالبدعة الحسنة في الدين ، وألفوا فيها الردود ، وما ذلك إلا لسد ذريعة الإحداث في الدين ، فهذا النوع من التأليف والرد إنما يراد به سد الذرائع ، فلا يجوز القول بأن ثمة بدعة وإحداث في أمر الدين يوصف بأنه حسن ، حماية لجناب الدين ، وسدا لباب الإحداث فيه ، والله أعلم .
ومنها :- ما نُقل عن الإمام مالك رحمه الله تعالى قال ابن وضاح ( وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير ، ولقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة, وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء خوفًا من ذلك ، وقد جاءت الآثار عن النبي ? بالرغبة في ذلك ، ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه ) فانظر كيف حرص أهل العلم على تحقيق هذا الأصل ليسد باب الإحداث في الدين ، والله أعلم .
ومنها :- روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال :- قال النبي صلى الله عليه وسلم (( الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات , لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه... الحديث )) فانظر كيف ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأمور المشتبهة إلى التورع بتركها ، وما ذلك إلا لسد ذريعة الوقوع في المحرم الصريح ، وحتى يكون ذلك أحوط لأمر الدين والعرض ، وهذا أصل في سد الذرائع ، ومثله حديث (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) ولذلك قرر أهل العلم أن من الورع ترك ما لا بأس به ، خشية من الوقوع فيما فيه البأس ، وأن من حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، وأن النفس إن استساغت الوقوع في الأمور المشتبهة ، فإنه سيسهل عليها الوقوع في المحرم الصريح , وكل هذا مفرع على قاعدة سد الذرائع ، والله أعلم .
ومنها :- لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن من حكمة تشريع المندوب حماية الفرائض ، فإن من كان على المندوب حريصا ، فلا جرم أنه سيكون على الفرض أحرص , ولا يطمع الشيطان فيمن حافظ على الأمور المندوبة أن يوقعه في ترك الأمور المفروضة ، فصار من حكمة تشريع المندوبات في الشرع سد ذريعة ترك الفرائض ، فالأدلة الدالة على تشريع المندوبات دالة على قاعدة سد الذرائع ، والله أعلم .
ومنها:- أن الحق أنه لا يجوز للسيد أن ينادي رقيقه بقوله ( عبدي ) أو ( أمتي ) بل يقول :- فتاي وفتاتي ، وغلامي , وهذا من باب سد ذريعة المشاركة مع الرب جل وعلا في شيء من الربوبية ومن باب التأدب مع الله تعالى عن أبي هريرة أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال (( لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضّئ ربّك, وليقل سيّدي ومولاي )) وقال (( ولا يقل عبدي وأَمَتي وليقل فتاي وفتاتي وغُلامي )) فلا يجوز استعمالُه لغيره، وإنْ كان المتكلَّم لا يقصد المعنى وإنّما يقصد مجرّد الملكيّة والرِّق، لكن من باب سدّ الذرائع ، وقد قرره الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد ، فهذا الباب ممنوع تفريعا على قاعدة سد الذرائع ، والله أعلم .
ومنها :- المتقرر في القواعد عندنا أن لكل علم رجاله ، فلا يجوز للعبد أن يحدث بكل ما سمع, ولا يجوز له تحديث القوم بما لا تبلغه عقولهم ، لأن ذلك مما يوجب لهم الفتنة ، وفساد الفهم ، فلا بد أن يعطى كل قوم من العلم ما تحتمله عقولهم ، وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ )) وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:- بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ . وقال مالك رحمه الله تعالى ( اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ وَلَا يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه:- بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ . وقال عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى ( لَا يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ مَا سَمِعَ ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه:- مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً . فلا بد من الانتباه لهذا الأمر ، فإن بعض الناس يحدث القوم بكل حديث سمعه , من غير تمييز ولا تعقل , وهذا غلط بل لا بد أن يختار لكل قوم من الحديث ما يتناسب مع عقولهم ، وإن من الحكمة الإمساك عن بعض الحديث عن بعض العامة وصغار الطلبة ممن لا يحتمل عقله نوع هذا الحديث ، ولذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يحرصون على تقسيم الحلقات للمتعلمين ، فحلقة لصغار الطلبة , وحلقة للمتوسطين ، وحلقة للمنتهين, ويعطون كل أفراد حلقة ما يناسبهم من العلم ، حتى لا تختلط عليهم المسائل , ولا ينبو بهم الفهم ، وهذا من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، والله أعلم .
ومنها :- أن أهل السنة رحمهم الله تعالى قد قرروا في كتب العقيدة أن الواجب الكف عن ما شجر بين بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأسلم ، بل الواجب أن لا نعمل فيه ألسنتنا وأن لا نبحث فيه ، ولا نقلب فيه صفحات التاريخ ، مع الاعتقاد الجازم أنهم كانوا فيه مجتهدين فالمصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ، فأهل السنة لم يختلفوا في قضية الكلام فيما جرى بين الصحابة ، بل موقفهم فيه واضح ؛ وتحريره : أن ذكر ما جرى بين الصحابة على وجه التاريخ دون طعن على أحد منهم هذا مكروه عندهم ، لأنه لا عمل تحته ، ويخاف أن يجر صاحبه إلى المحذور فنهيهم عنه من باب سد الذرائع ، وهذا وجيه من الناحية الشرعية والعقلية ، فلا يشك شاك أن الإنسان لو كف عن عمل لا ينفعه ، وقد يضره دل كفه على كمال عقله وتورعه لدينه ، وأن فعله له يدل على ضعف في عقله ، وقلة احتياطه لدينه ، فسد أهل السنة البحث في هذا الباب حتى لا يكون سببا للقدح في الصحابة أو إساءة الظن فيهم ، أو الكلام بما لا ينبغي في أحد منهم ، فانظر كيف تأثير العمل بهذه القاعدة المباركة الطيبة ، وكيف يسد عن الأمة أبواب الشر والبلاء ، فالحمد الله تعالى على فهمها واعتمادها والهداية لها .
ومنها :- أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد له صمدا سدا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى ، إن صح الحديث في ذلك , فهو من باب سد الذرائع
__________________