الجميع يعرف حكاية الخنساء، المرأة القوية التي فقدت أبنائها الأربعة بموقعة القادسية فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب، رضيت بقضاء الله واحتسبت، ودعت الله سبحانه وتعالي وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن فى فلسطين وحدها، تولد بها كل يوم خنساء جديدة تقدم نموذجاً رائعاً للصبر والصمود، وتقديم كل غال ونفيس من مال وأبناء وبنات فى سبيل الله والوطن، وهاهي الحاجة "مريم غبن ـ أم غسان" أحد خنساوات فلسطين، تجسد هذا الدور جيداً وبكل جدارة بعد أن قدمت لوطنها خمسة من أبنائها دفعة واحدة.
وتحكي أم غسان لبرنامج "حكايا الأبرياء" بقناة اقرأ قصتها وهي تنظر إلى ذلك البستان الأخضر الذي زرعته هي وأولادها منذ كانوا صغاراً فيا لها من أيام مرت سريعة، كانت أيام جميلة رغم ما حملته من تعب وسهر الليالي من أجل تربية هؤلاء الصغار، وتوفير لقمة العيش الكريمة لهم دون الحاجة إلى الآخرين، حتى كبروا وأشتد عودهم، ولكنهم رحلوا مبكراً قبل أن تتذوق أمهم طعم الراحة والسكينة.
اعتادت الست مريم على صلاة الصبح جماعة هي وزوجها وأولادها، بعدها رن هاتف ابنها محمد يبلغه عمه بأن أحد الأقارب توفي إلى رحمة الله وطلب من أم غسان نزول أبنائها إلى المزرعة لالتقاط توت الفراولة لعدم قدرته على مواصلة العمل، وبالفعل راح أبناء أم غسان إلى المزرعة لقطف ثمار التوت، وذهبت السيدة مريم وزوجها لقضاء واجب العزاء ، ولم تعلم أم غسان ما ينتظرها فى هذا اليوم العصيب.
وبنظرات مليئة بالألم والحسرة قالت الست مريم: كنت أحاول قدر المستطاع أن أوفر الحياة الكريمة لأطفالي، كنت أبيع التوت صباحاً، وأقوم بكل أعمال المنزل ليلاً، ولا أنام في اليوم سوى ساعتين فقط، حتى أوفر لأطفالي لقمة العيش، حتى لا يمدوا أيديهم إلى الجيران، ولا يفكر أحد أبنائي فى السرقة أو غيره، والله أنعم علي بأطفال أبرار، كل منهم يحاول أن يدللني طوال الوقت بكوب من الشاي أو الماء البارد، قضيت أسعد أيامي مع أطفالي الشهداء، كانوا يقرئون القرآن فى الليل ويذهبون صباحاً إلى المدرسة وبعد العودة يخلعون ملابسهم ويذهبون للمزرعة لمواصلة العمل اليومي الدءوب، كانوا أخوة محبين وخلوقين يحبون بعضهم البعض فى الدنيا واحتضنتهم تربة واحدة في الآخرة.
أبناء أم غسان الشهداء
لقد كان منزل الحاجة مريم يعج بصراخ ولعب أبنائها ، كانت عائلة مثابرة الكل فيها يعمل من أجل توفير لقمة العيش، كانوا يقومون بزراعة التوت الأرضي، وكل أرضهم الخضراء زرعوها بأيديهم الفتية ، وحولوها من أرض جرداء إلى بستان جميل، ومزرعة تتغني بنشاط أولئك الصبية، لكنهم رحلوا قبل أن يجنوا ثمار ما زرعت أياديهم.
وفي أثناء تواجد أم غسان عند الأقارب سمعت انفجار كبير بالرغم من بعد المسافة، لم تهتم بالأمر، ولكنها خرجت تسأل ماذا يحدث، وما هذا الضجيج؟ ولكنها فوجئت أن الناس تحاول طمأنتها ، فأخذت ترتجف ويخفق قلبها بسرعة، ووضعت يدها على رأسها وقالت "جبري عليك يارب .. عوضي عليك يارب "، وأثناء الزحام كانت سيارة الاسعاف تملئ المكان والأشلاء والدماء هنا وهناك ، فأخذت تبحث عن فلذات أكبادها.
وفي وسط هذه الأجواء ومع ضجيج وبكاء النساء ، علمت "أم غسان" أن الله اختار أبنائها ، لم تجد سوي الصلاة لتهون عليها ، قامت لتصلي الضحى وتحمد الله على ما أنعم عليها به، وبعد الانتهاء من الصلاة وجدت النساء يصطفون خلفها يهمهمن، ماذا تفعل هذه المرأة هل هي مجنونة؟ أجابت أم مريم بعد الصلاة: صليت 11 ركعة لله وحمدت الله وشكرته.
تقول الست مريم مبتسمة وفي رضا تام : فى الصلاة دعيت الله أن يصبرني عندما أري أولادي ملفوفين فى شرائطهم ، كما صبرني عند الصدمة الأولي ، فأنا دائماً أبكي على الشهداء وأنا لا أعرفهم ، فكيف سيكون حالي عندما أستقبل أولادي الخمسة ، لذا كل ما أردته من الله فى هذه اللحظة هو الثبات.
ثم خرجت "أم غسان" تبحث عن أبنائها وسط جثث وأشلاء الشهداء، وخوفاً عليها من مشهد تشييع أبنائها أخبروها بأنه تم دفنهم بعيداً فى الصحراء حتى لا تنهار، ولكنها وبمنتهي العزم والصلابة أدركت مقصدهم، وقالت لو فعلتم ذلك لأخرج ليلاً أنبش الأرض وأبحث عنهم، مؤكدة لهم أنها صابرة ومحتسبة أبنائها عند الله وستظل صامدة، ثم طلبت أن يخرج أبنائها الخمس من البيت لتوديعهم فى صمت قبل أن يذهبوا إلى رحمة الله.
أثناء وداع بسام
وبالفعل أحضر الشباب أبناء مريم الشهداء محملين على الأكتاف ، حينها وقفت الحاجة مريم تدعي الله سبحانه وتعالي أن يثبتها لتصون الأمانة، ولم تجد إلا أن تقول "إنا لله وإنا إليه لراجعون" والجميع حولها يترقب وينظر إلى هذه الأم الشجاعة.
اقتربت شيئا فشيئا من أبنائها لتنظر إليهم واحداً يلو الآخر، يقولون لها هذا فلان فترد قائلة : الملقى فى الجنة، إلى أن رأت وجه ابنها "بسام" فطلبت منهم أن ينزلوه كي تقبله ، وتذكرته عندما استيقظت فى الصباح في نفس يوم استشهاده ووجدته يقرأ القرآن الكريم ويحفظ بعد آياته بعد أن صلي الصبح .. فدعت له وقالت له الله يهديك يا ابنى.
وكان يوم الثلاثاء الرابع من يناير 2005 أسوأ يوم في حياة الحاجة مريم ، ذلك اليوم التى لم تنسي فيه تفاصيله الدقيقة المؤلمة ، فقد رحل فى ذلك اليوم أغلي 5 أشخاص فى حياتها إثر سقوط قذائف المدفعية الإسرائيلية على رؤوسهم وهم فى بستانهم الأخضر يحفرون الأرض ويزرعون الثمر.
منقول