كانت الجباية في أوائل الهجرة قاصرة على الزكاة ثم حدثت الغنائم بعد واقعة بدر الكبرى ثم الجزية لمن صالح النبي (صلّى الله عليه وآله) من نصارى جزيرة العرب ويهودها وتوفي النبي (صلّى الله عليه وآله) ومصادر الجباية الزكاة والغنائم والجزية.
وما زالت مصادر الجباية ترتقي وتتفرّع حتى أصبحت في أيام العباسيين عديدة ترجع إلى أحد عشر وهي:
1 ـ الصدقة أو الزكاة.
2 ـ الجزية.
3 ـ الخراج.
4 ـ المكوس (العزرة).
5 ـ الملاحات والأسماك.
6 ـ أعشار السفن.
7 ـ أخماس المعادن.
8 ـ المراصد (الكمارك).
9 ـ غلة دار الضرب.
10 ـ المستغلات.
11 ـ ضرائب الصناعة وغيرها.
الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها ولكثرته في الدولة العباسية أسباب أهمها أربعة وهي:
لما كان المعوّل في مقدار الجباية على الخراج فجباية المملكة تتعاظم بزيادة مساحة أرضها وخصب تربتها، والمملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول كانت عظيمة الاتساع جداً بل هي أوسع ممالك التمدن القديم (وخصوصاً إذا اعتبرنا إسبانيا منها) إلا مملكة الاسكندر فربما قاربتها. فمجموع مساحة هذه المملكة 3.328.014 ميلاً مربعاً وذلك نحو مساحة أوربا كلها. فخراج أوروبا لو جباه المسلمون لم يزد على خراج مملكتهم فاعتبر عدد تلك الممالك وفيها أعظم دول الأرض اليوم، فلو كان اعتماد تلك الدول في جبايتها على الخراج لما استقام أمرها وإنما عمدتها على ضرائب المشروبات الروحية والجمارك.
2 ـ اشتغال الناس في الزراعة
قلنا في كلامنا عن بيت المال في عصر الأمويين أن عمالهم كانوا يسيئون إلى أصحاب الخراج من الرعايا بما يستعملونه من العنف والتعسف في تحصيلها فتشاغل الناس عن الزرع فأهملت الأرض وزادها إهمالاً انتشار الفتن والحروب في العراق وفارس وسائر أنحاء المملكة الإسلامية ونقم الناس على حكومتهم وأبطلوا الزراعة نكاية فيها ولقلة انتفاعهم بها فأصبح معظم البلاد خراباً من الإهمال وفيها الضياع والمزارع، فلما تولى العباسيون عاد الناس إلى الاشتغال بالزرع وغيره.
ومما ساعد على عمران المملكة العباسية أن الخلفاء كانوا يبذلون جهدهم في تعمير ما تركه الأمويون خراباً من الضياع والمزارع بتسليمها إلى من يصلحها ويعمرها فضلاً عما كانوا يبذلونه من العناية في حفر الأنهر وإنشاء السدود وغيرها من مسهّلات الري.
(السواد) فعمرت بذلك البلاد وكثرت غلتها وخصوصاً السواد (العراق) فإنه من أخصب بقاع الأرض وإذا راجعت ما ذكرناه من جبابته رأيت خراجه 120.000.000 درهم. والسواد كثير الجباية من أيام الفرس فقد جباه قباز بن فيروز 150.000.000 درهم وجباه كسرى بن قباز 287.000.000 درهم وجباه غيرهم من ملوك الفرس 120.000.000 درهم سوى 3.000.000 من الوضائع لمواد الكسائرة، كانوا يجبون ذلك على غير ظلم ولا عسف ولكنهم كانوا يعتنون بالري فيحفرون الترع ويبنون السدود والجسور، وقد جعلوا همهم إحياء أرضه بحفر الأنهر وإنشاء الجسور حتى تشبكت الترع في السواد وأصبح ما بين دجلة والفرات سواداً مشتبكاً غير مميز تخترق إليه أنهار من الفرات وقس على ذلك سائر أنحاء العراق، وهو لم يصر إلى هذا الخصب والرخاء إلا في أيام العباسيين لارتياح الناس إلى العمل ورغبة الخلفاء في تعمير البلاد مع قابلية الأرض لذلك، وخراج خراسان نحو 40.000.000 درهم وهكذا سائر البلاد.
كان الخراج المضروب على الأرض في المملكة العباسية يختلف نوعه باختلاف البلاد فبعضها بالمساحة أي أن يضربوا على المساحة المعلومة من الأرض مالاً معيناً في العام سواء زرعت تلك الأرض أم لم تزرع، والبعض الآخر بالمقاسمة أي أن يكون الخراج جزءً من حاصل الأرض بعد زرعها واستغلالها، وما لم يزرع لا يطالب بالخراج وكل من خراج المساحة والمقاسمة درجات وفئات. فبينما أخذ عمر من خراج العراق أقل من السبع أخذ المهدي العباسي نصف غلته تقريباً وهو خراج ثقيل.
ويظهر أن الهادي أو الرشيد زاد على ذلك الخراج العشر فصار خراج العراق نصف غلته وعشرها أي ستة أعشارها وظل ذلك شأنها إلى سنة 192هـ فأسقط الرشيد العشر وأبقى النصف فقط وما زال أهل السواد يدفعون نصف غلتهم خراجاً إلى سنة 204هـ فجعلها المأمون خمسين فكأنه أسقط عشرين في المائة من مقدار الخراج.
وخفض خراج بعض البلاد الأخرى غير السواد كالري فإنه جاءها سنة 210هـ فأقام فيها مدة وأمر بتخفيف الخراج عنها، فلما انصرف وبلغ أهل قم ذلك طلبوا إليه أن يحط خراجهم كما فعل بالري فأبى فتمرّدوا وامتنعوا عن أداء الخراج وكان مقداره 2.000.000 درهم فحاربهم المأمون وجباه في ذلك العام 7.000.000 درهم تأديباً لهم، وقس على ذلك سائر البلاد.
وجملة القول أن الخراج كان في العصر العباسي الأول ثقيلاً ومع ذلك لم يكن يعسر اقتضاؤه وقلّما شكا الناس ثقله وربما استطاع العامل أن يجمع الملايين من الدراهم بسهولة في بضعة أيام كما اتفق للمأمون لما مر بدمشق وكان أخوه المعتصم عاملاً له عليها وقد قلّ المال مع المأمون فشكا ذلك إلى المعتصم فقال: (يا أمير المؤمنين كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه) فجاءه بثلاثين ألف ألف درهم (30.000.000) من خراج ما يتولاه له ففرق معظمه وهو واقف.
على أننا لا نرى بأساً من الإشارة إلى ما بقي من مصادر الجباية في العصر العباسي الأول تتمة للموضوع منها:
1 ـ (أعشار السفن) هي ضريبة ذات بال كان يرد منها إلى بيت المال مبالغ وافرة لم نعثر على تفصيلها ولا وقفنا على مقدار ما كان يجبى في العصر العباسي ولكن يؤخذ مما نعلمه من اتساع التجارة في تلك الأيام بين العراق وسائر أقطار الدنيا حتى الهند والصين أن السفن كانت كثيرة وأحمالها ثمينة. وقد ذكروا تاجراً واحداً من تجار البصرة في القرن السادس للهجرة اسمه حسن بن العباس له مراكب تسافر إلى أقصى بلاد الهند والصين بلغ مقدار ما يتحصل من ضرائبها 100.000 دينار في العام فاعتبر ذلك وقس عليه غيره.
2 ـ (أخماس المعادن) كانت المعادن عندهم ضربين: ظاهرة وباطنة فالمعادن الظاهرة ما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً كمعادن الكحل والملح والقار والنفط فهذه لا يجوز إقطاعها لأنها كالماء، الناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه، وأما المعادن الباطنية فهي ما كان جوهرها مستكنّاً فيها فهذه كانت الحكومة تقطعها لمن يستخرجها ولها الخمس مما يخرج منها ونظراً لسعة المملكة العباسية فقد كانت المناجم فيها عديدة ومنها الذهب والفضة والنحاس والزئبق والفيروز والزبرجد وغيرها.
3 ـ (الجزية والزكاة) كانت الجزية في صدر الإسلام كثيرة ثم تناقصت بدخول الناس في الإسلام. والزكاة كان لها شأن كبير في أول الإسلام ثم قلت أهميتها.
4 ـ (المكوس والمراصد) وهما تقابلان الكمارك والعوائد في هذه الأيام وكانوا يأخذون ضريبة من كل تجارة واردة في البحر أو البر مهما يكن نوعها من الأنسجة أو المحصولات أو المصنوعات أو الرقيق أو غيره. وكان يحصل لهم من ذلك مال كبير.
فمثلاً ذكر ابن حوقل أنه كان يتحصل مما يخرج من آذربيجان إلى نواحي الري ولوازم على الرقيق والدواب وأسباب التجارات والأبقار والأغنام 1.000.000 درهم في السنة.
5 ـ (المستغلات وغلة دار الضرب) يراد بالمستغلات ما يجبى لبيت المال من أسواق أو منازل أو طواحين ابتناها الناس في أرض تربتها للسلطان فيؤدون عنها أجرة، وذكر ابن خرداذبه مبلغ غلات الأسواق والأرجاء ودور الضرب في مدينة السلام بغداد 1.500.000 درهم في السنة وبلغت غلات ومستغلات سامراء وأسواقها 10.000.000 درهم في السنة.
فالدولة العباسية إبان زهوها كانت تجبي من هذه الضرائب شيئاً كثيراً ولكن العمدة كانت على الخراج كما تقدم.
4ـ صدق العمال في إرسال المال المجموع
كان من جور عمال بني أمية أنهم كثيراً ما كانوا يستأثرون بالخراج لأنفسهم إما بإذن الخلفاء كما فعل عمرو بن العاص بمصر إذ جعلها معاوية طعمة له في مقابل نصرته إياه على علي (عليه السلام) أو بحجة الحاجة إلى المال في الحروب كما حصل في أيام الحجاج، أو استرضاء لعامل متمرد التماساً لقعوده أو أن يعصي العامل بالخراج لغير سبب كما فعل مسلمة بن عبد الملك في ولايته على العراق في أيام أخيه يزيد فإن يزيداً استحى أن يطالبه بالخراج ولعله خاف عصيانه، ناهيك بما كان يكتمه العُمال عن خلفائهم من أموال الفيء والغنائم وهو من حق بيت المال وقد يذكرونه ويطمعون فيه كما فعل يزيد بن المهلب بعد فتحه جرجان سنة 98هـ فإنه أصاب مالاً كثيراً بقي منه لبيت المال 6.000.000 درهم كتب عنها للخليفة لكنه استبقاها لنفسه ـ ذلك ونحوه دعا الخلفاء في بعض الأحوال أن يستخرجوا المال من عمالهم بالقوة ـ .
أما بنو العباس فقد كان معظم عمالهم في أوائل الدولة من أهلهم الأقربين ثم استعملوا أنصارهم الفرس وهم أكثر الناس رغبة في قيام دولتهم، وكان الخلفاء من الجهة الأخرى لا يقصرون في زيادة رواتبهم حتى بلغت في أيام المأمون ثلاثة ملايين درهم وهي عمالة الفضل بن السهل على المشرق، ومما ساعد بني العباس في أوائل دولتهم على حفظ نظام أعمالهم وإجماع العمال على ولائهم سداد رأي وزرائهم وخصوصاً البرامكة فإنهم كانوا واسطة عقد تلك الدولة وزهرة تمدنها، وكذلك كان الفرس على الإجمال لأنهم كانوا يعدون استيلاء بني العباس عليهم رحمة من الله كانوا يتوقعونها منذ أعوام للتخلص من بني أمية واحتقارهم إياهم.
يختلف عدد الموظفين في مصالح الحكومة باختلاف نمط تنظيمها ويقال بالإجمال أنهم أقلُّ عدداً في الحكومات الاستبدادية منهم في الحكومات المقيدة لاستغناء الحكم المطلق عن تدوين كل شيء وضبطه لمراجعة النظر فيه. ويكفي لبيان هذا الفرق مقابلة عدد موظفي الحكومة المصرية قبل نظامها الحالي بعددهم اليوم.
كانت حكومة مصر قبل دخول الفرنسيين إليها (في أواخر القرن الثامن عشر) لا تزال على نحو ما رتبها عليه السلطان سليم الفاتح وابنه السلطان سليمان. ولا ترى عدد الموظفين فيه يزيد على خمسين (ما عدا الجيش) فإذا اعتبرنا ما يلحقه من الكتّاب والنوّاب وغيرهم ربما بلغ إلى 200 أو قل 300 أو 400 وهو يقابل في هذه الأيام نظارات الحكومة ومجلس النظار والمعية ومصلحة الصحة والبوليس والسجون وسائر المصالح مما يربو عدد موظفيها على ألفين كما يأتي، أما اليوم فعددهم 17.771 وهو عدد موظفي الحكومة في نظاراتها ومصالحها ما عدا الجيش، فاعتبر الفرق العظيم بين هذا العدد وبين ما كان عليه في أيام المماليك وقس عليه عدد موظفي الحكومة في الدولة العباسية(1). 6 ـ عدم وجود الدَين على الحكومة
من أدران التمدن الحديث انغماس الحكومات الأوروبية في الديون وما من دولة إلا وهي مديونة بمال لابد لها من تأدية فوائده أو تسديد بعضه من دخلها كل عام، فهو عبء ثقيل على ماليتها وسبب كبير في قلة ما يفضل من دخلها مع كثرة أبواب الدخل عندها مما فرضته من الضرائب المختلفة التي لم تكن معروفة في الدولة العباسية أو أنها كانت خفيفة جداً. فمثلاً دخل انكلترا 120.000.000 جنيه يجتمع نحو أربعة أخماسها من ضرائب أكثرها حديثة العهد وأن نفقات الدولة تستغرقها كلها، فمن أسباب ذلك أن ربع هذا الدخل تقريباً يذهب في وفاء فائدة ما على هذه الدولة من الديون.
7 ـ اقتصاد الخلفاء الأولين وتدبيرهم
من الأمور المقررة في التاريخ السياسي أن مؤسسي الدول ومن يتلوهم من الأمراء الأولين يغلب فيهم الاقتصاد والتدبير ولولا ذلك لم يتأت لهم إنشاء الدول أو تثبيت دعائمها ويعبر فلاسفة التاريخ عن ذلك بصبوة الدولة. والصبوة تدعو إلى النمو بالادخار، فإذا بلغت الدولة شبابها وتم نموها عادت ناكصة على عقبيها كما يتقهقر المرء إلى الكهولة فالشيخوخة. فالدولة العباسية نشأت في حجر السفاح طفلة فتناولها المنصور صبية فغذّاها وأنماها حتى أدركت شبابها في أيام الرشيد والمأمون ثم تقهقرت إلى الكهولة فالشيخوخة فالهرم في أيام الخلفاء التابعين.
1ـ النظام الإسلامي حيث إنه بسيط للغاية، يوجب قلة الموظفين (3).