لكاتب: مراد السوداني
لأنها القدس أقرب نقطة بين السماء والأرض .. ولأنها الجوهر الأنقى والمعراج المقدّس .. ولأنها محمولة على قامات الدم المجيد وبطولات شعبنا العظيم، ولأنها تصدّ بجسدها العاري قنابل الموت الحمراء وأنياب الجرّافات السوداء .. لكلّ ذلك وغيره فقد استحقّت مدينة القدس أن تكون وشم فلسطين وقوس العروبة الجسور ونداء الأحرار في العالم ..
وفي ظلّ عمليات التشويه والتزوير والاستلاب والنهب الداهم التي تمارسها أدوات الاحتلال، كان لا بدّ من إحياء تراث المدينة وإعادة الاعتبار لمقولتها المعرفية والثقافية، والحفر في طبقات وعيها، حتى تتمكن المدينة من فضح جدران عزلهم ورعبهم، وحتى تستطيع الحكاية الفلسطينية منازلة حكاية النقيض المدّعاة وهويته المفبركة وما يختلقه من مقولات تبريرية لوجوده الاحتلالي .
من هنا انبرى الكاتب والباحث جهاد صالح لعمل دؤوب بإصرار النمل وعناده في الإعداد لموسوعة (روّاد الحركة الأدبية المقدسية) وتسليط الضوء على هوية المدينة ووعيها خشية من النسيان والهدم.. هذه الأسماء المضيئة منحت بلادنا الأفق الواسع للإبداع والإنجاز .. ومازالت آثارهم وإرثهم الإبداعي والمعرفي سراجاً وهّاجاً في ديجور هذا الزمان الذي يعمّمه الاحتلال بدماره وسواده الأثيم ..
سنابك خيل عديدة دقّت قلب المدينة عبر العصور .. دهمها غزاة وعابرون .. ومازالت حجارتها العتيقة تقاوم زهومة الدخلاء ونتنهم الدهري .. ومازالت روح المدينة معافاة تواصل الحرية والبقاء على قيد الحلم والاحتمال والعناد الأكيد ..
لقد قدّم الباحث جهاد صالح هذه الإضمامة من الروّاد المقدسيين انحيازاً للقدس في هذه اللّحظات الحرجة التي يراد للمدينة أن تقع في أحبولة الغياب والخُسْر المبين .. ثمّة من يدقّ الجرس بإصرار العارف واقتدار المتمكّن للتأكيد على الحقّ والحقيقة الفلسطينية غير القابلة للزوال والنهش.
إنّ الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين وهي تطلق هذه الموسوعة تعلن مقولتها الواضحة بضرورة تكريم مبدعين وإضاءة منجزهم الإبداعي والثقافي .. وإيلائهم مساحة وافرة من الدرس والمتابعة والتعميم حتى تتعرّف الأجيال إلى ما اجترحه الأسلاف من عظيم فعل، وإنجاز باقٍ على هذه الأرض الباقية. لأن الغزاة سيرحلون ..
الروّاد المقدسيون بسيرتهم ومسيرتهم الحافلة بالعطاء والمعرفة شكّلوا قنطرة للعبور إلى سماوة الصمود والإصرار على الحياة وأسبابها .. من بداية النهضة وحتى النكبة أسّس هؤلاء الروّاد خارطة الوعي الجماعي وأصّلوا وجع القدس وسياقاتها الثقافية، ما منح المدينة مساحة وافرة من التحدّي وجعل تاريخها يستعيد نقاط قوّته في مواجهة غوائل الحذف الاحتلالي .
إنّ الأمانة العامّة وهي تقدّم هذه الأوراق عن حياة روّادنا تصرّ على مقولة الخير والإبداع لتكون ممحاة لأسداف العتمة والظلموت الكابي. لتعود مدينة الله تشعّ الأمل والحلم والحياة على أرجاء الكون من جديد ..
هاهي الطبعة الثالثة لموسوعة الروّاد المقدسيين تأتي بدعم كريم من وكالة بيت مال القدس الشريف تأكيداً على الإنجاز وتثبيتاً لوعي المدينة والذاكرة الحيّة التي تسعى رواية العدو ونهبه اللامحدود إلى نسفها واستبدالها بغير الحقيقي والزائف ..
وإننا إذ نرفع الشكر عالياً لوكالة بيت مال القدس الشريف لانتباهتها الساطعة فإننا نؤكّد أن القدس تحتاج إلى الإسناد العالي في ظلّ السعار الاحتلالي الذي يطحن قلبها المقدّس وجوهرها الأنقى .. وستظلّ مدينة الله فيض الخير والبركات وطاقة الجمال الكوني التي تضفضف عزّة وكرامة وحرية وقدسية إلى أبد الآبدين ..
مراد السوداني
الأمين العام للاتحاد العام
للكتّاب والأدباء الفلسطينيين