facebook twitter rss
v





العودة  

جديد مواضيع منتديات بيت العرب الجزائري


ركن أخلاق المسلم


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2016-07-30, 02:23 PM   #1
hakimdima
مشرف الأقسام التعليمية


العضوية رقم : 10954
التسجيل : Jul 2016
العمر : 39
الإقامة : الجزائر
المشاركات : 6,072
بمعدل : 2.00 يوميا
الوظيفة : متعاقد
نقاط التقييم : 10
hakimdima is on a distinguished road
hakimdima غير متواجد حالياً
معلومات الإتصال :
افتراضي من أخلاق المسلم الشفقة

الشفقة
معنى الشَّفَقَة لغةً واصطلاحًا
معنى الشَّفَقَة لغةً:
الشَّفَق والشَّفَقَة: رِقَّة مِنْ نُصْحٍ أو حُبٍّ، يؤدِّي إلى خوفٍ، والشَّفَقَة: الاسم من الإشْفَاق.. وأَشْفَقْت عليه، فأنا مُشْفِق وشَفِيق.
والشَّفَق: الخوف، تقول: أنا مُشْفِق عليك، أي: خائف. وأنا مُشْفِق من هذا الأمر، أي: خائف. والشَّفَق -أيضًا- الشَّفَقَة، وهو أن يكون النَّاصح -من بلوغ نُصْحه- خائفًا على المنصُوح، تقول: أَشْفَقْت عليه أن يناله مكروه، والشَّفِيق: النَّاصح الحريص على صلاح المنصوح
[1842] ((الصحاح)) للجوهري (4/1501-1502)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/261)، ((لسان العرب)) لابن منظور (10/179).
معنى الشَّفَقَة اصطلاحًا:
قال الرَّاغب: (الإشْفَاق عناية مختلطة بخوف)
[1843] وعلل ذلك بقوله: (لأنَّ المشْفِق يحبُّ المشْفَق عليه، ويخاف ما يلحقه، فإذا عُدِّي بـ(مِنْ)، فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عُدِّي بـ(في) فمعنى العناية فيه أظهر). ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني (458-459). .
قال ابن القيِّم: (الإشْفَاق رِقَّة الخوف، وهو خوف برحمة من الخائف لمن يُخاف عليه، فنسبته إلى الخوف، نسبة الرَّأفة إلى الرَّحمة، فإنَّها ألطف الرَّحمة وأرقُّها)
[1844] ((مدارج السالكين)) (1/514). .
قال الجرجاني: (هي صرف الهمَّة إلى إزالة المكروه عن النَّاس)
[1845] ((التعريفات)) (ص 127). وقال أبو إسماعيل الهروي: (الإشْفَاق: دوام الحذر، مقرونًا بالتَّرحُّم). ((منازل السائرين)) (ص 27).

الفرق بين الشَّفَقَة وبعض الصِّفات
– الفرق بين الشَّفَقَة والخَشْيَة:
قال أبو هلال: (إنَّ الشَّفَقَة ضرب من الرِّقَّة وضعف القلب، ينال الإنسان، ومِنْ ثمَّ يُقال للأمِّ: أنَّها تُشْفِق على ولدها، أي: تَرِقُّ له، وليست هي من الخَشْيَة والخوف في شيء، والشَّاهد قوله تعالى: إنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، ولو كانت الخَشْيَة هي الشَّفَقَة، لما حَسُن أن يقول ذلك، كما لا يَحْسُن أن يقول: يَخْشَون من خَشْيَة ربِّهم. ومن هذا الأصل قولهم: ثوبٌ شَفَقٌ، إذا كان رقيقًا… فقولك: أَشْفَقت من كذا، معناه: ضَعُف قلبي عن احتماله)
[1846] ((الفروق اللغوية)) (ص 300). .
– الفرق بين الشَّفَقَة والرِّقَّة:
قال أبو هلال: (إنَّه قد يرِقُّ الإنسان لمن لا يُشْفِق عليه، كالذي يَئِد الموْؤُدَة
[1847] الموْؤُدَة: وأد ابنته يئدها وأدًا، فهي موءودة، أي دفنها في القبر وهى حية. ((الصحاح)) للجوهري (2/546). ، فيَرِقُّ لها -لا محالة-؛ لأنَّ طبع الإنسانيَّة يوجب ذلك، ولا يُشْفِق عليها، لأنَّه لو أَشْفَق عليها ما وَأَدَها)
[1848] ((الفروق اللغوية)) (ص 300). .
التَّرغيب في الشَّفَقَة من السنة النبوية
– عن ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرج الله عنه كربةً مِن كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة))
[1849] رواه البخاري (2442) ومسلم (2580). .
ورواه التِّرمذي بلفظ آخر وقال في تبويبه له: (ما جاء في شَفَقَة المسلم على المسلم)
[1850] ((سنن الترمذي)) (4/324). .
– وعن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى))
[1851] رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللَّفظ له. .
قال ابن حبان: (وفيه مَثَّل النَّبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما يجب أن يكونوا عليه من الشَّفَقَة والرَّأفة)
[1852] انظر: ((صحيح ابن حبان)) (1/496). .
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحْدَه، فليصل كيف شاء))
[1853] رواه البخاري (703)، ومسلم (467). .
قال ابن عثيمين: (ومن الشَّفَقَة والرَّحمة بالمؤمنين: أنَّه إذا كان الإنسان إمامًا لهم، فإنَّه لا ينبغي له أن يُطِيل عليهم في الصَّلاة… والمراد بالتَّخفيف: ما وافق سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو التَّخفيف، وليس المراد بالتَّخفيف ما وَافَق أهواء النَّاس)
[1854] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/555). .
– وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم، أو أمر يشغلهم))
[1855] رواه أبو داود (3132)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1316) واللَّفظ له، وأحمد (1/205) (1751). قال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (3/300)، وحسن إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/242)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1316). .
قال وليُّ الله الدَّهْلوي: (هذا نهاية الشَّفَقَة بأهل المصيبة، وحفظهم من أن يتضوَّروا بالجوع)
[1856] ((حجة الله البالغة)) للدهلوي (1/487). .
أقوال السَّلف والعلماء في الشَّفَقَة
– عن أسلم (أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه استعمل مولى له -يُدْعى هُنَيًّا- على الحِمَى
[1857] الحِمَى: أحميت المكان فهو محمي إذا جعلته حمى. وهذا شيء حمى: أي محظور لا يقرب، وحميته حماية إذا دفعت عنه ومنعت منه من يقربه. ((النهاية في غريب الأثر)) لابن الأثير (1/1055). ، فقال: يا هُني، اضْمُم جناحك عن المسلمين، واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنَّ دعوة المظلوم مستجابة)
[1858] رواه البخاري (3059). .
قال العيني: (قوله: اضْمُم جناحك، ضَمُّ الجَناح: كناية عن الرَّحمة والشَّفَقَة، وحاصل المعنى: كُفَّ يدك عن ظلم المسلمين)
[1859] ((عمدة القاري)) للعيني (14/304). .
– وعن عبد الملك بن حميد، قال: كنَّا مع عبد الملك بن صالح بدمشق، فأصاب كتابًا في ديوان دمشق: (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من عبد الله بن عبَّاس، إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنِّي أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، عصمنا الله وإيَّاك بالتَّقوى… أمَّا بعد، فإنَّك من ذوي النُّهى من قريش، وأهل الحلم والخُلُق الجميل منها، فليَصْدر رأيك بما فيه النَّظر لنفسك، والتَّقيَّة على دينك، والشَّفَقَة على الإسلام وأهله، فإنَّه خير لك، وأوفر لحظِّك في دنياك وآخرتك)
[1860] رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/415). .
– وقال الجنيد -عندما سُئل عن الشَّفَقَة على الخَلْق ما هي؟-: (تعطيهم من نفسك ما يطلبون، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، ولا تخاطبهم بما لا يعلمون)
[1861] رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/264) (8092). .
– وقال أبو الخير: (القلوب ظُرُوف، فقلب مملوء إيمانًا، فعلامته الشَّفَقَة على جميع المسلمين، والاهتمام بما يهمُّهم، ومعاونتهم على أن يعود صلاحه إليهم. وقلب مملوء نفاقًا، فعلامته الحقد والغلُّ والغشُّ والحسد)
[1862] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (66/161). .
وقال المناوي: (الشَّفَقَة تَحَنُّن الرَّأفة، والإكباب على من يُشفِق عليه، وإنَّما يصير مُنكبًّا بشدَّة الرَّأفة، فإذا كانت الشَّفَقَة بغير مِعَةٍ -مشتقَّة من أمعاء البطن-انتشرت فأفسدت، وإذا كانت في مِعَةٍ، كانت في حصن، فلم تنتشر، ولم تَفْسَد؛ لأنَّ هنا حدًّا يحويها)
[1863] ((فيض القدير)) للمناوي (2/529).
فوائد الشَّفَقَة
1- أنَّ المتَحَلِّي بها يتحلَّى بخُلُق تحلَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أنَّ أهلها مخصوصون برحمة الله، جزاءً لشَفَقَتهم ورحمتهم بخَلْقه.
3- أنَّ من ثمارها: محبَّة الله للعبد، ومن ثمَّ محبَّة النَّاس له.
4- أنَّها ركيزة عظيمة ينبني عليها مجتمع مسلم متماسك، يعطف بعضه على بعض، ويُشفق بعضه على بعض.
5- أنَّها مظهر من مظاهر العِشْرة الطَّيِّبة، قال محمَّد الغزي: (ومنها: أن تكون الشَّفَقَة على الأخ الموافق أكثر من الشَّفَقَة على الولد. قال أبو زائدة: كتب الأحنف إلى صديق له: أمَّا بعد، فإذا قدم أخ لك موافق، فليكن منك بمنزلة السَّمع والبصر؛ فإنَّ الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف. ألم تسمع قول الله عزَّ وجلَّ لنوح -عليه السَّلام- في ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود: 46])
[1864] ((آداب العشْرة)) لمحمد الغزي (ص 52). .
6- من أعظم فوائدها: أنَّها خُلق مُتعدٍّ إلى جميع خَلْق الله: من إنسان أو حيوان، بعيدٍ أو قريبٍ، مسلمٍ أو غير مسلمٍ.
7- أنَّها سبب للالتفات إلى ضَعفة المجتمع من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والكبار والعَجَزة.
وغير ذلك من الفوائد العظيمة.
الشفقة المذمومة
الشَّفَقَة المذمومة: وهو ما يحصل بسببها تعطيل لشرع الله، أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره، كمن يُشْفِق على من ارتكب جُرمًا يستحق به حدًّا، فيحاول إقالته والعفو عنه، ويحسب أنَّ ذلك من الشَّفَقَة على الخَلق، وهو ليس منها في شيء.
قال الحسن: (إن منعته أُمُّه عن العشاء في الجماعة -شفقةً- لم يُطِعها)
[1865] رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (644). وينظر: ((تغليق التعليق)) لابن حجر (2/275). .
قال العيني: (يعني: إن منعت الرَّجل أُمُّه عن الحضور إلى صلاة العشاء مع الجماعة شَفَقَة عليه، أي: لأجل الشَّفَقَة. لم يُطِع أمَّه فيه.. مع أنَّ طاعة الوالدين فرض في غير المعصية، وإنَّما عيَّن العشاء، مع أنَّ الحُكم في كلِّ الصَّلوات سواء؛ لكونها من أثقل الصَّلاة على المنافقين… وإنَّما عيَّن الأمَّ مع أنَّ الأب كذلك في وجوب طاعتهما؛ لأنَّ الأمَّ أكثر شَفَقَة من الأب على الأولاد)
[1866] ((عمدة القاري)) (5/159). .
وعن عامر بن سعد، أنَّ أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبر والده سعد بن أبي وقاص: ((أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي أَعْزِل عن امرأتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ تفعل ذلك؟ فقال الرَّجل: أُشفِق على ولدها، أو على أولادها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضارًّا، ضرَّ فارس والرُّوم)). وقال زهير في روايته: (إن كان لذلك فلا، ما ضارَّ ذلك فارس ولا الرُّوم)
[1867] رواه مسلم (1443). .
أو كمن يُشْفِق على الطُّلَّاب فيتركهم يغشُّون في الامتحان شَفَقَة منه عليهم أن يرسبوا.
أو كمن يَقتل من الأطباء -بدافع الشَّفَقَة- مرضاهم الذين لا يُرجى شفاؤهم، ويتألَّمون من مرضهم.. فكلُّ هذا ممَّا لا تجوز فيه الشَّفَقَة.
درجات الشَّفَقَة

للشَّفَقَة ثلاث درجات، كما ذكر الإمام الهروي في كتابه ((منازل السائرين)):
(الدَّرجة الأولى: إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد، وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع، وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها)
[1868] ((منازل السائرين)) (ص 28). .
قال ابن القيِّم في شرحه للدَّرجة: (إشْفَاق على النَّفس أن تَجْمَح إلى العِناد: أي: تُسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان، ومعاندة العبوديَّة. وإشْفَاق على العمل أن يصير إلى الضَّياع: أي: يخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله فيها: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23]، وهي الأعمال التي كانت لغير الله، وعلى غير أمره وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاف -أيضًا- أن يَضِيع عمله في المستقبل، إمَّا بتركه، وإمَّا بمعاصي تفرِّقه وتُحبِطه، فيذهب ضائعًا… قال: وإشْفَاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها: هذا قد يوهم نوع تناقض، فإنَّه كيف يُشفِق مع معرفة العُذر؟! وليس بمتناقض، فإنَّ الإشْفَاق -كما تقدَّم- خوف مقرون برحمة، فيُشفِق عليهم من جهة مخالفة الأمر والنَّهي، مع نوع رحمة، بملاحظة جَرَيان القدر عليهم)
[1869] ((مدارج السالكين)) (1/514). .
(الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاقٌ على الوقت أن يشوبه تفرُّقٌ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض، وعلى اليقين أن يُداخله سبب)
[1870] ((منازل السائرين)) لأبي إسماعيل الهروي (ص 28). .
قال ابن القيِّم: (الدَّرجة الثَّانية: إشْفَاق على الوقت أن يشوبه تفرُّق، أي: يحذر على وقته أن يخالطه ما يفرِّقه عن الحضور مع الله عزَّ وجلَّ. قال: وعلى القلب أن يزاحمه عارض، والعارض المزاحم: إمَّا فَتْرة، وإما شُبْهة، وإمَّا شهوة، وكلُّ سبب يعوق السَّالك. قال: وعلى اليقين أن يُداخله سبب، هو الطُّمأنينة إلى من بيده الأسباب كلُّها، فمتى داخل يقينه ركونٌ إلى سبب وتعلُّق به، واطمأنَّ إليه، قدح ذلك في يقينه، وليس المراد قطع الأسباب عن أن تكون أسبابًا، والإعراض عنها، فإنَّ هذا زندقة وكُفر ومُحَال… ولكن الذي يريد أن يُحْذَر منه: إضافة يقينه إلى سبب غير الله، ولا يتعلَّق بالأسباب، بل يَـفْنَى بالمسبِّب عنها)
[1871] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/514-515). .
(الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاق يصون سعيه من العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ)
[1872] ((منازل السائرين)) لأبي إسماعيل الهروي (ص 28). .
قال ابن القيِّم: (الدَّرجة الثَّالثة: إشْفَاقٌ يصون سعيه عن العُجب، ويكُفُّ صاحبه عن مخاصمة الخَلْق، ويحمل المريد على حفظ الجِدِّ. الأوَّل: يتعلَّق بالعمل، والثَّاني: بالخَلْق، والثَّالث: بالإرادة، وكلٌّ منها له ما يُفسده. فالعُجب: يُفسد العمل، كما يُفسده الرِّياء، فيُشفِق على سعيه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه. والمخاصمة للخَلْق مُفْسِدة للخُلُق، فيُشفِق على خُلُقه من هذا المفْسِد شَفَقَةً تصونه عنه. والإرادة يُفْسِدها عدم الجِدِّ، وهو الهزل واللَّعب، فيُشْفق على إرادته مما يُفسدها. فإذا صحَّ له عمله وخُلُقه وإرادته، استقام سلوكه وقلبه وحاله)
[1873] ((مدارج السالكين)) (1/515-516).
صور الشَّفَقَة
أ- شَفَقَة الإمام على المأمومين، وتجنُّب ما يشق عليهم:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَعْتم
[1874] أَعْتم: دخل في وقت العتمة. ((فتح الباري)) (2/46). النَّبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامَّة اللَّيل، وحتى نام أهل المسجد، ثمَّ خرج فصلَّى، فقال: إنَّه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمَّتي))
[1875] رواه مسلم (638). .
2- عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحده فليصل كيف شاء))
[1876] رواه البخاري (703)، ومسلم (467) واللَّفظ له. .
ب- الشَّفَقَة على الأبناء، والعطف عليهم، والحُزن إذا أصابهم مكروه:
1- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((قَدِم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أتقبِّلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: لكنَّا -والله- ما نُقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأملك إن كان الله نزع منكم الرَّحمة))، وقال ابن نمير: ((من قلبك الرَّحمة))
[1877] رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317) واللَّفظ له. . قال ابن عثيمين: (وفي هذا دليلٌ على تقبيل الصِّبيان شَفَقَة عليهم ورقَّة لهم ورحمة بهم)
[1878] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/554). .
2- وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: ((أرْسَلت ابنة النَّبي صلى الله عليه وسلم إليه: إنَّ ابنًا لي قُبِض فائتنا. فأرسل يقرئ السَّلام، ويقول: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام، ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرُفِع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبي ونَفْسُه تتقَعْقَع
[1879] تتقَعْقَع: تتحرك وتضطرب بصوت. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/175). – قال: حسبته أنَّه قال: كأنَّها شَنٌّ
[1880] الشَنّ: القربة الخلقة اليابسة. ((فتح الباري)) (3/157). – ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنَّما يرحم الله من عباده الرُّحماء))
[1881] رواه البخاري (1284) واللَّفظ له، ومسلم (923). .
3- عن شدَّاد بن الهاد رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمَّ كبَّر للصَّلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصَّبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة، قال النَّاس: يا رسول الله، إنَّك سجدتَّ بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يُوحى إليك. قال: كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتَحَلَني، فكرهت أن أُعْجِلَه حتى يقضي حاجته))
[1882] رواه النسائي (2/229)، وأحمد (3/493) (16076). احتج به ابن حزم في ((المحلى)) (3/90)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2/229)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (475). .
فالنَّبي صلى الله عليه وسلم يركب الطِّفل على ظهره الشَّريف وهو ساجد، ولا يقوم من سجوده، ليُكمل الطِّفل لعبه، حتى لا يزعجه، رحمةً به، وشَفَقَةً عليه.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنَّما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكُبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكين، أشقُّه بينهما. فقالت الصُّغرى: لا تفعل -يرحمك الله-، هو ابنها. فقضى به للصُّغرى)).
[1883] رواه البخاري (3427) واللَّفظ له، ومسلم (1720). .
قال ابن القيِّم: (ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحًا منها إلى راحة التَّسلِّي، والتَّأسِّي بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطِبْ نفس الصُّغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَة الأمِّ، ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتَّصل إلى الأخرى)
[1884] ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/67). .
6- عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: ((بينما هو يقرأ من اللَّيل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ، فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثمَّ قرأ، فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشْفَق أن تصيبه، فلما اجْتَرَّه، رفع رأسه إلى السَّماء حتى ما يراها، فلما أصبح، حدَّث النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير. قال: فأشْفَقت -يا رسول الله- أن تطأ يحيى…))
[1885] رواه البخاري (5018). .
ج – الشَّفَقَة على النِّساء:
عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: (تزوَّجني الزُّبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير نَاضِح
[1886] نَاضِح: الناضح البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقي عليه. ((فتح الباري)) (3/604). وغير فرسه، فكنت أَعْلِف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرِز غَرْبَه
[1887] غَرْبَه: هو الدلو. ((فتح الباري)) (9/323). وأعجن، ولم أكن أُحْسِن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكنَّ نِسْوة صِدْقٍ، وكنت أَنْقُل النَّوَى من أرض الزُّبير -التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي منِّي على ثُـلُثي فَرْسخ، فجئت يومًا والنَّوَى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني، ثمَّ قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرِّجال…)
[1888] رواه البخاري (5224) واللَّفظ له، ومسلم (2182). .
قال النَّووي: (وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشَّفَقَة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه)
[1889] ((شرح النَّووي على مسلم)) (14/166).
الوسائل المعينة على اكتساب الشَّفَقَة
1- عدم الشِّبَع:
قال أبو سليمان الدَّاراني: (من شَبِع دخل عليه ستُّ آفات: فَقَد حلاوة المنَاجاة، وتعذَّر حفظ الحِكْمة، وحرمان الشَّفَقَة على الخَلْق؛ لأنَّه إذا شَبِع، ظنَّ أنَّ الخَلْق كلَّهم شِبَاعٌ، وثُقْل العبادة، وزيادة الشَّهوات، وأنَّ سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشِّباع يدورون حول المزابل)
[1890] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/87). .
2- عدم الحسد:
قال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: (الحسد عدوُّ نعمة الله، وإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحاسدوا))
[1891] رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وحسد المسلمين من قلَّة الشَّفَقَة عليهم.
3- الاختلاط بالضُّعفاء والمساكين وذوي الحاجة:
فإنَّه ممَّا يُــرَقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحمة والشَّفَقَة بهؤلاء وغيرهم.
4- مَسْحُ رأس اليتيم:
((عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا شكا إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قسوةَ قلبِه فقال امسَحْ رأسَ اليتيمِ وأطعِمِ المسكينَ))
[1892] رواه أحمد (2/387) (9006). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/316)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/163): رجاله رجال الصحيح، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/486): سنده منقطع، وقال الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4930): روي بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح، والآخر فيه رجل لم يسم، وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (419): سنده رجال الصحيح ، ولكنه منقطع.
نماذج من الأنبياء والمرسلين
كان الأنبياء -صلوات الله عليهم- يحرصون في التعامل مع أقوامهم على الرَّحمة بهم والشَّفَقَة عليهم، فكانوا يُشْفِقون عليهم بالرَّغم من إيذاء قومهم لهم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأنِّي أنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، ضربه قومه فأَدْمَوه
[1893] أَدْمَوه: جعلوه صاحب دم خارج من رأسه. ((مرقاة المفاتيح)) للملا علي القاري (8/3330). ، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي، فإنَّهم لا يعلمون)
[1894] رواه البخاري (6929)، ومسلم (1792). .
قال النَّووي: (فيه ما كانوا عليه -صلوات الله وسلامه عليهم- من الحلم والتَّصبُّر والعفو والشَّفَقَة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغُفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم: بأنَّهم لا يعلمون. وهذا النَّبي المشار إليه من المتقدِّمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد)
[1895] ((شرح النَّووي على مسلم)) (12/150). .
نوح عليه السَّلام:
قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46].
قال السعدي: (لعلَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- حملته الشَّفَقَة، وأنَّ الله وعده بنجاة أهله، ظنَّ أنَّ الوعد لعمومهم: مَنْ آمن، ومَنْ لم يؤمن، فلذلك دعا ربَّه بذلك الدُّعاء، ومع هذا، ففوَّض الأمر لحكمة الله البالغة)
[1896] ((تفسير السعدي)) (ص 382). .
إبراهيم عليه السَّلام:
كان نبيُّ الله إبراهيم -عليه السَّلام- شَفِيقًا على النَّاس، وكان يجادل عن قوم لوط، حتى لا يأتيهم العذاب، وذلك لغلبة الشَّفَقَة عليه، قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود:74-76].
قال ابن عجيبة: (ظاهر قوله تعالى: يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ أنَّ مجادلته كانت عن قومه فقط، لغلبة الشَّفَقَة عليه، كما هو شأنه، ولذلك قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ حتى قال له تعالى: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا لـمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب)
[1897] ((البحر المديد)) لابن عجيبة (4/300-301). .
وقال أيضًا: (والحاصل أنَّ إبراهيم -عليه السَّلام- حملته الشَّفَقَة والرَّحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خُلَّته واصطفائيَّته، فالشَّفَقَة والرَّحمة من شأن الصَّالحين والعارفين المقرَّبين، غير أنَّ العارفين بالله -مع مراد مولاهم- يُشْفِقون على عباد الله، ما لم يتعيَّن مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لـمَّا تعيَّن قضاؤه: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)
[1898] ((البحر المديد)) لابن عجيبة (2/544). .
نماذج من شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم
1- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على أمَّته:
كان صلى الله عليه وسلم شَفِيقًا على أمَّته، رحيمًا بهم، وشَفَقَته ورحمته لم تكن خاصَّة بالمؤمنين، بل كان يُشْفِق على الكافرين ممَّن لا يدين بدين الإسلام. ونشير هنا إلى بعض النَّماذج التي هي من أقواله وسيرته، فصلوات ربِّي وسلامه عليه:
– عن أنس رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشَّفاعة: ((أمَّتي أمَّتي))
[1899] رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). .
قال الفارسي أبو الحسين: (انظر هل وصف الله عزَّ وجلَّ أحدًا من عباده بهذا الوصف من الشَّفَقَة والرَّحمة التي وَصَف بها حبيبَه صلى الله عليه وسلم ، ألا تراه في القيامة إذا اشتغل النَّاس بأنفسهم كيف يَدَع حَدَث نفسه، ويقول: (أمَّتي أمَّتي)، يرجع إلى الشَّفَقَة عليهم، ويقول: إنِّي أسلمت نفسي إليك، فافعل بي ما شئت، ولا تردَّني في شفاعتي في عبادك)
[1900] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (2/163). .
2- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على الكفَّار:
عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: ((هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العَقَبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أَسْتَفق إلَّا وأنا بِقَرْن الثَّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني مَلَك الجبال فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا))
[1901] رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795). .
قال ابن حجر: (وفي هذا الحديث بيان شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهو موافق لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران: 159]، وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107])
[1902] ((فتح الباري)) لابن حجر (6/316). .
3- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه:
– قال صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: (أَبْشِر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك. قال: قلت أمن عندك -يا رسول الله- أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله)
[1903] جزء من حديث رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769). .
قال ابن القيِّم: (وفى سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشَّفَقَة على الأمَّة، والرَّحمة بهم والرَّأفة، حتى لعلَّ فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه)
[1904] ((زاد المعاد)) (3/585). .
– عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: ((حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطَّائف، فلم ينل منهم شيئًا. فقال: إنَّا قافلون
[1905] قافلون: أصله الرجوع ومنه مقفله من خيبر ولا تسمى قافلة إلا إذا رجعت وقد يطلق في الابتداء عليها تفاؤلا. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/175). ، إن شاء الله. قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال. فغدوا عليه، فأصابهم جِراح. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّا قافلون غدًا. قال: فأعجبهم ذلك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم))
[1906] رواه البخاري (4325)، ومسلم (1778) واللَّفظ له. .
قال النَّووي: (معنى الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قصد الشَّفَقَة على أصحابه والرِّفق بهم بالرَّحيل عن الطَّائف؛ لصعوبة أمره، وشِدَّة الكفَّار الذين فيه، وتقويتهم بحصنهم، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنَّه سيفتحه بعد هذا بلا مشقَّة كما جرى…)
[1907] ((شرح النَّووي على مسلم)) (12/124). .
– عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّما أنا لكم مثل الوالد أعلِّمكم…))
[1908] رواه النسائي (1/38)، وابن ماجه (256)، وأحمد (2/250) (7403)، والدارمي (1/182). صحَّحه البغوي في ((شرح السنة)) (1/272)، والنَّووي في ((المجموع)) (2/95)، وصحَّح إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/297) وقال: وأصله في مسلم. و صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1/38). .
قال علي القاري: ((إنَّما أنا لكم مثل الوالد) أي: ما أنا لكم إلا مثل الوالد في الشَّفَقَة لولده، (أعلِّمكم) أي: أمور دينكم)
[1909] ((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (1/380). .
4- شَفَقَة النَّبي صلى الله عليه وسلم على الأطفال:
– عن شدَّاد بن الهاد رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثمَّ كبَّر للصَّلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصَّبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة، قال النَّاس: يا رسول الله، إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننَّا أنَّه قد حدث أمر، أو أنَّه يُوحَى إليك. قال: كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتَحَلَني
[1910] ارتَحَلَني: أي جعلني كالراحلة فركب على ظهري. ((النهاية في غريب الأثر)) لابن الأثير (2/503). فكرهت أن أُعْجِلَه حتى يقضي حاجته))
[1911] رواه النسائي (2/229)، وأحمد (3/493) (16076). وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2/229)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (475). .
– عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي وهو حامل أُمَامَة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص ابن الرَّبيع، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها؟ قال يحيى: قال مالك: نعم)
[1912] رواه البخاري (516)، ومسلم (543) واللَّفظ له. .
فمن رحمته صلى الله عليه وسلم وشَفَقَته بأُمَامَة أنَّه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط، فيضعها على الأرض.
قال النَّووي: (وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشَّفَقَة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه)
[1913] ((شرح النَّووي على مسلم)) (14/166).
نماذج من شَفَقَة الصَّحابة
أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:
– عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: ((كنت جالسًا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر
[1914] غامر: أي خاصم، والمعنى دخل في غمرة الخصومة، والغامر الذي يرمي بنفسه في الأمر العظيم كالحرب وغيره. وقيل هو من الغمر بكسر المعجمة وهو الحقد، أي صنع أمرا اقتضى له أن يحقد على من صنعه معه ويحقد الآخر عليه. ((فتح الباري)) لابن حجر (7/25). . فسلَّم، وقال: إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه ثمَّ ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر. ثلاثًا، ثمَّ إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم، فجعل وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر
[1915] يتمعَّر: أي تذهب نضارته من الغضب، وأصله من العر وهو الجرب، يقال: أمعر المكان إذا أجرب. ((فتح الباري)) لابن حجر (7/25). ، حتى أشْفَق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم. مـرَّتين، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كَذَبْت. وقال أبو بكر: صَدَق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مـرَّتين، فما أُوذي بعدها))
[1916] رواه البخاري (3661). .
قال العيني: ((حتى أشْفَق أبو بكر)) أي: حتى خاف أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره)
[1917] ((عمدة القاري)) (16/180). .
عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:
– عن الأصمعي، قال: (كلَّم النَّاس عبد الرَّحمن بن عوف أن يكلِّم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في أن يلين لهم؛ فإنَّه قد أخاف الأبكار في خدورهنَّ
[1918] خدورهنَّ: الخدر ستر يكون للجارية البكر في ناحية البيت، وقيل: الخدور البيوت. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/110). ؛ فكلَّمه عبد الرَّحمن، فالتفت عمر إلى عبد الرَّحمن -رضي الله عنهما- فقال له: يا عبد الرَّحمن! إنِّي لا أجد لهم إلَّا ذلك، والله لو أنَّهم يعلمون ما لهم عندي من الرَّأفة والرَّحمة والشَّفَقَة؛ لأخذوا ثوبي عن عاتقي)
[1919] رواه ابن قتيبة في ((المجالسة وجواهر العلم)) (4/43).
نماذج من شفقة العلماء
محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زُرعة:
محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زُرعة ابن أبي زُرعة بن إبراهيم الثَّقفي.
قال ابن عساكر: ولي قضاء مصر في سنة أربع وثمانين ومائتين، في إمارة خمارويه.
كان كثير الشَّفَقَة، رقيق القلب، يَغْرَم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتنزَّه، أخذ بيد رفيقه فادَّعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي، ويدَّعي أنَّه لا يقدر على وفائه، ويسأل خصمه فيه، فلا يجيبه، فيغرم عنه.
وحكى بعض الشَّاميين أنَّه حصلت له إضاقة
[1920] إضاقة: أضاقه إضاقة، وضيقه تضييقًا فهو ضيق، والضيق ضد السعة. انظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (26/45-46). ، فقال لبعض أصدقائه: قدِّمني إلى القاضي فلعلَّه يعطيك عني شيئًا أنتفع به. ففعلت، وقلت: أيَّد الله القاضي: لي على هذا الرَّجل ستون درهمًا صحاحًا. فقال: ما تقول؟ فأقرَّ. فقال: أعطه حقَّه، فبكى، وقال: ما معي شيء. فقال لي: إن رأيت أن تنظره؟ فقلت: لا. قال: فصالحه. فقلت: لا. فقال إنَّك لقيط، فما الذي تريد؟ قلت: السِّجن. فقال: لا تفعل. فأدخل يده تحت مصلَّاه، فأخرج دراهم، فعدَّ لي ستين درهمًا، فدفعتها للرَّجل، وآليت أن لا أفعل ذلك بعدها
[1921] ((رفع الإصر عن قضاة مصر)) لابن حجر العسقلاني (ص 391).
الأمثال في الشَّفَقَة
– الشَّفيق بسوء ظنٍّ مولع.
(يراد أنَّ ذا الشَّفَقَة يضع سوء الظَّنِّ في غير موضعه)
[1922] ((جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/555). .
– ما هذا الشَّفَقُ الطَّارِفُ حُبى.
(الشَّفَق: الشَّفَقَة، والطَّارف: الحادث، وحُبى: اسم امرأة)
[1923] ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (2/286). .
– أشْفَق من أمٍّ على ولد
[1924] ((جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/538).
الشَّفَقَة في واحة الشِّعر
قال الشَّاعر:
وصاحبٌ كان لي وكنتُ له
أَشْفَقَ مِن والدٍ على ولدِ
كنَّا كساقٍ تسعَى بها قَدَمٌ
أو كذراعٍ نِيطَت
[1925] نيطت: ناطه نوطا: علقه. وانتاط: تعلق. والأنواط: المعاليق. ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص892). إلى عَضُدِ
[1926] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/93).
وقال الشاعر:
قد كنت أُشْفِق مما قد فُجِعت به
إن كان يدفعُ عن ذي اللَّوعة الشَّفقُ
[1927] ((جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/72).
وقال جرير:
يُسِرُّ لك البَغْضَاءَ كلُّ مُنَافِقٍ
كما كلُّ ذِي دِينٍ عليك شَفِيقُ
[1928] ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/141).
وقال ابن هرمة:
وموعظةُ الشَّفِيقِ تكونُ داءً
إِذا خالفْتَ موعظةَ الشَّفِيقِ
[1929] ((التذكرة السعدية)) لمحمد بن عبد الرحمن العبيدي (ص 338).
وقال الشَّاعر:
رُبَّ رَحيمٍ مُشْفِقٍ مُتعطِّفٍ
لا يَنتَهي بالحَصْر ما أَعطاه
كَمْ نعمةٍ أَولى وَكَمْ من كُرْبةٍ
أَجلى وَكَمْ من مُبتَلى عافاه
[1930] ((صيد الأفكار)) لحسين المهدي (1/471).
وقال محمَّد الإخسيكائي:
ارحمْ أخيَّ عبادَ اللهِ كلَّهم
وانظرْ إِليهمْ بعينِ اللُّطفِ والشَّفَقَه
وَقِّرْ كبيرَهمُ وارحَمْ صغيرَهمُ
وراعِ في كلِّ خلقٍ وجْهَ مَن خَلَقَه
[1931] ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (6/ 2640).
وقال: أبو الحسن الربعي:
الرِّفقُ ألطفُ ما اتَّخذْتَ رفيقَا
ويسوءُ ظنُّكَ أن تكون شَفِيقَا
فخُذِ المجازَ من الزَّمانِ وأهلِه
ودعِ التَّعمُّقَ فيه والتَّحْقيقا
[1932] ((مجمع الحكم والأمثال)) أحمد قبش (ص 194) (ص 193).
منقول


hakimdima غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
أخلاق, المسلم, الشفقة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: من أخلاق المسلم الشفقة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من أخلاق المسلم التودد hakimdima ركن أخلاق المسلم 0 2016-07-30 02:22 PM
من أخلاق المسلم التعاون hakimdima ركن أخلاق المسلم 0 2016-07-25 07:08 PM
من أخلاق المسلم الحلم hakimdima ركن أخلاق المسلم 0 2016-07-25 07:06 PM
من أخلاق المسلم الحياء hakimdima ركن أخلاق المسلم 0 2016-07-24 02:59 AM
من أخلاق المسلم islam ركن أخلاق المسلم 2 2012-11-29 12:26 PM


الساعة الآن 11:17 PM


Designed & Developed by : kakashi_senpai
Preview on Feedage: %D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A Add to My Yahoo! Add to Google! Add to AOL! Add to MSN
Subscribe in NewsGator Online Add to Netvibes Subscribe in Pakeflakes Subscribe in Bloglines Add to Alesti RSS Reader
Add to Feedage.com Groups Add to Windows Live iPing-it Add to Feedage RSS Alerts Add To Fwicki

Bookmark and Share

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML