غير خاف على أحد أن الله عز وجل لم يشرع العبادة ويوجبها على عباده لحاجته إليها ، فهو الغني سبحانه ، وإنما شرعها لحكم ومعان عظيمة ، ومقاصد جليلة, تعود على العبد نفسه بالنفع في دينه ودنياه .
وإذا كان المقصود الأول من العبادة هو الاستسلام والانقياد والعبودية والإذعان ، وقدم الإسلام لا تثبت إلا على ظهر الاستسلام لله سبحانه ، فلا يعني ذلك خلو هذه العبادات عن الحكمة ، وأن لا يبحث المسلم عن المعاني والأسرار الكامنة وراء الأوامر والنواهي .
والصوم شأنه شأن سائر العبادات والقربات له معانٍ وأسرار عظيمة يمكن تلمسها والوقوف عندها لمعرفة الحكمة من مشروعية هذه العبادة الجليلة .
أول هذه المعاني والتي تشترك فيها جميع العبادات , أن الصوم فيه تربية على العبودية والاستسلام لله جل وعلا , فعندما تغرب الشمس يأكل الصائم ويشرب امتثالا لأمر الله , وإذا طلع الفجر يمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات , فهو يتعبد الله عز وجل في صيامه وفطره , فإذا أمره ربه عز وجل بالأكل في وقت معين أكل , وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل ، فالقضية إذاً ليست قضية أذواق وأمزجة , وإنما هي قضية طاعة واستسلام وانقياد لأمر الله .
والصوم كذلك يربي في النفس مراقبة الله عز وجل , وإخلاص العمل له , والبعد عن الرياء والسمعة , فهي عبادة بين العبد وبين ربه جل وعلا , ولهذا جاء أن الصوم عبادة السر , فإن بإمكان الإنسان ألا يصوم , وأن يتناول أي مفطر من المفطرات من غير أن يشعر به أحد من الناس, بل إنه بمجرد تغيير النية وقطعها يفطر ولو لم يتناول شيئا من المفطرات طوال يومه , فامتناعه عن ذلك كله على الرغم من أنه يستطيع الوصول إليه خفية , دليل على استشعاره اطلاع الله على سرائره وخفاياه , ومراقبته له , ولأجل هذا المعنى اختص الله جل وعلا عبادة الصوم من بين سائر العبادات , ولم يجعل لها جزاء محدداً , قال - صلى الله عليه وسلم- : ( كل عمل ابن آدم يضاعف , الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف , قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يدع شهوته وطعامه من أجلي ) أخرجه مسلم . فقوله جل وعلا ( من أجلي ) تأكيد لهذا المعنى العظيم .
والصوم يربي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة , وانتظار ما عند الله عز وجل , حيث يتخلى الصائم عن بعض شهوات النفس ومحبوباتها , تطلعا إلى ما عند الله عز وجل من الأجر والثواب , وفي ذلك توطين للنفس على الإيمان بالآخرة , والتعلق بها , والترفع عن عاجل الملاذ الدنيوية , التي تقود إلى التثاقل إلى الأرض والإخلاد إليها .
والصوم يربي النفس على الصبر , وقوة الإرادة والعزيمة , فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم , والمقصود من الصوم إنما هو حبس النفس عن الشهوات , وفطامها عن المألوفات , ولهذا كان نصف الصبر , والله تعالى يقول : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ( الزمر :10) .
وفي الصوم كذلك تربية للمجتمع ، وتنمية للشعور بالوحدة والتكافل بين المسلمين , فالصائم حين يرى الناس من حوله صياما كلهم , فإنه يشعر بالترابط والتلاحم مع هذا المجتمع , فالكل صائم , والكل يتذوق لذة بالجوع في سبيل الله ، والكل يمسك ويفطر دون تفريق أو امتياز , لا يستثنى من ذلك أحد لغناه أو لجاهه أو منصبه , فأكرمهم عند الله أتقاهم , وأفضلهم أزكاهم .
فما أعظمها من صورة معبرة عن وحدة المجتمع في ظل العبودية لله جل وعلا .
والصوم يضيّق مجاري الدم , ويخمد نيران الشهوات , ويقلل فرص إغواء الشيطان لابن آدم , فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم , ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح : ( الصوم جنة ) ، أي وقاية يتقي به العبد الشهوات والمعاصي , ولهذا أمر - صلى الله عليه وسلم- من اشتدت عليه شهوة النكاح مع عدم قدرته عليه بالصيام ، وجعله وجاءً لهذه الشهوة ومخففا من حدتها .
ومن معاني الصوم أن يتذكر الصائم بصومه الجائعين والمحتاجين , فيتألم لآلامهم , ويشعر بمعاناتهم , فالذي لا يحس بالجوع والعطش قد لا يشعر بمعاناة غيره من أهل الفقر والحاجة , وإذا كان أحدنا يجد ما يفطر عليه من الطعام والشراب , فغيرنا قد لا يجد شيئا من ذلك .
تلك هي بعض معاني هذه العبادة العظيمة , وقد جمعها الله عز وجل في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة : 183) فالحكمة التي شرع الصوم من أجلها هي تحقيق تقوى الله عز وجل, وهي ثمرة الصوم الشرعي ونتيجته , ومالم يكن الصوم طريقا لتحصيل هذه التقوى فقدْ فَقَدَ الغاية والمعنى الذي شرع لأجله , فليس المقصود من الصيام هو مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فقط دون أي أثر لهذا الصوم على حياة الإنسان وسلوكه , ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) وقال : ( رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ) رواه الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح , قال جابر رضي الله عنه " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم , ودع أذى الجار , وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك , ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء " .
فينبغي للمسلم أن يستحضر هذه المعاني وهو يؤدي عباد ة الصوم , حتى لا تخرج العبادة عن مقصودها , وحتى لا تتحول إلى عادة يؤديها مسايرة للبيئة والمجتمع .
منقول