شهدت بلاد المغرب الأوسط في عهد الدولة الرستمية ازدهارا تجاريا كبيرا ونموا عظيما في حركة الاقتصاد حيث ساعد على استقرار هذه المناطق تحت حكم الرستميين
على ازدهارها بعد معاناتها زمنا طويلا من عدم الاستقرار الاقتصادي بسبب الاضطرابات , وباستقرار الأوضاع السياسية سارت عناصر الحياة الاقتصادية الزراعة والصناعة والتجارة في طريقها نحو التحسن حيث كان يمتلك الرستميون مجالات ضخمة من الأراضي الزراعية وتوفرها على الوديان ومجاري المياه التي تحيط بعاصمتها تيهرت , وكانت أهم المزروعات التي جادت في المنطقة الكتان والسمسم والحبوب , ونشطت الزراعة أيضا في الواحات والمدن الصحراوية فاشتهرت واحة
ورجلان بغابات النخيل الواسعة وانتشرت النطاقات الرعوية الشاسعة التي دعمت اقتصاد الدولة بثروة حيوانية وفيرة , أما بالنسبة للصناعة هي الأخرى في المجتمع
الرستمي لتلبي حاجات أفراده , وكان توفر مواد الخام اللازمة لمختلف الصناعات
أثره في وفرتها فاشتهرت بصناعة المنسوجات على اختلاف أنواعها الصوفية والكتانية والحريرية لتوفر خامات الصوف والكتان من المراعي والمزارع , واشتهرت قابس بصناعة دبغ الجلود كما تعددت المناجم التي أمدت الصناع بحاجاتهم ولوازم صناعتهم
ففي جبل ارزو توفر معدن الحديد وخشب العطور , وعرف الرستميون الطواجين وصناعة الأواني الفخارية والخزف وخاصة ما كان يستعمل من هذه الأواني لغرس الأزهار, وقام الرستميون بدور بارز في مجال التجارة حيث لم تعق الخلافات السياسية والمذهبية بين الرستميين وجيرانهم حركة التجارة ,ومما أعطى دفعة قوية في هذا المجال وقوع عاصمتهم على طريقين من أشهر الطرق التجارية , طريق الشرق والغرب , وطريق الشمال والجنوب , إذ هيأ لها ذلك أن تكون مركزا للتبادل التجاري بين بلاد السودان والمغرب والمشرق وسواحل البحر المتوسط .
وكانت تيهرت مركزا تجاريا داخليا وكانت ابرز العلاقات التجارية في عهد الرستميين قائمة بينهم وبين الأمويين والأندلس والسودان , حيث قام الرستميون بدور الوسيط التجاري بين الطرفين
واهم البضائع التي يصدرها الرستميون إلى الأندلس هي الحبوب وأشهر السلع التي نقلها الرستميون من بلاد السودان الذهب و العاج وريش النعام وجلود الحيوانات
وقد جعلت هذه الحركة التجارية النشطة من تيهرت عاصمة فذة متألقة بين حواضر المغرب الكبرى .
أما الجانب الفكري في عصر بني رستم، فقد ارتبط ارتباطا كبيرا بالمذهب الاباضي , وإذا كان داعية الاباضية الأول سلمة بن سعيد قد تكمن من اختيار أربعة من معتنقي أفكاره
الاباضية وأطلق عليهم اسم حملة العلم ووفدت هذه الجماعة إلى البصرة لتلقي العلم
على يد داعية الاباضية الأكبر أبي عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة, حين عودة هذه الجماعة إلى بلاد المغرب بدأت في نشر ثقافة المذهب الاباضي في حلقاتهم , حيث انتشرت في جهات المغرب الادنى وافريقية , ولقن حملة العلم أتباعهم علم الأصول والفروع والسير والتوحيد والشريعة وعلوم اللغة والفلك والرياضيات , ومنذ ذلك الوقت طغت شؤون الدعوة الاباضية على الحياة الفكرية في بلاد المغرب الأوسط
وخلقت مجالا عظيما للتنافس بين إتباع المذهب الاباضي وبين الفرق والمذاهب الأخرى
كالسنة والمالكية والمعتزلة والشيعة وقد أفسح الرستميون المجال لهذه الفرق والمذاهب فعقدت المناظرات بين علماء الاباضية والمعتزلة , وقد أدى نشاط الحركة الفكرية على هذا النحو إلى أن يتجه الرستميون إلى توثيق علاقتهم الثقافية بمختلف البيئات العلمية
والاحتكاك بمراكز الثقافة سواء في المغرب والأندلس أو في المشرق
كما حرص بنو رستم على تأسيس مكتبة ضخمة أطلق عليها اسم المعصومة حوت على ثلاثمائة ألف مجلد في مختلف أنواع العلوم والفنون والآداب وقد قام الشيعة بحرقها لتدمير كل اثر للفكر الاباضي المعادي لهم كما كرس الأئمة الرستميين حياتهم لنشر العلم في المجتمع الاباضي وكان العلم شرطا أساسيا لتولي الإمامة , وكان بعضهم و يقوم بالتدريس في جامع تيهرت , كما اشتركوا في حركة التأليف فنبغ عدد كبير من
العلماء في العصر الرستمي , وكان شيوخ المذهب منهم يمثلون فئة اجتماعية ذات شأن كبير في تيهرت , كما شاركت المرأة الرستمية في الحركة الفكرية فكانت أخت الإمام
افلح بن عبد الوهاب عالمة بالحساب والفلك .
ومن المراكز العلمية الهامة في الدولة الرستمية غير تيهرت مدينة شروس ومدينة جادو
وقرية اجناون وجزيرة جربة , وقد أتاح تعايش العلماء على اختلاف مذاهبهم وأفكارهم
في تيهرت الفرصة لتكوين مدرسة لها معالمها الخاصة وسماتها الواضحة في تاريخ الفكر الإسلامي في بلاد المغرب.
أصبحت بذلك عاصمة للعلم والفكر والثقافة تشع بنور علمها على شمال إفريقيا وغربها وشرقها وفي جنوب شبه الجزيرة العربية, والحضارة الرستمية العربية قد تأثرت بحضارات فارسية و فينيقية سابقة.
علاقتها بجيرانها وأسباب سقوطها
كانت علاقة الدولة الرستمية مع الخلافة العباسية متوترة حيث انه بعدما انشأ عبد الرحمان بن رستم دولته الفتية واختار لها موقعا حصينا لم يحاول ولاة افريقية مهاجمتها بعد ابن الأشعث الذي رفع الحصار على جبل بسوفجج معقل عبد الرحمان
بن رستم سنة 144 هـ الموافق 761م وعلى الرغم من تمكن عمر بن حفص من إنزال الهزيمة بجيش ابن رستم بالقرب من تهودة سنة 151هـ الموافق ل 768 م , فانه
لم يفكر بعد في مهاجمة تيهرت , فعاد إلى القيروان وبمرور الزمن استطاع عبد الرحمان
بن رستم أن يثبت أركان دولته , فهابه روح بن حاتم ورغب في مهادنة بن رستم فهادنه
سنة 171 هـ الموافق ل 787م , كما وادع ابنه عبد الوهاب من بعده.
ولما قامت دولة الاغالبة استمر الهدوء سائدا بين تيهرت والقيروان حتى عكره عبد الوهاب بن رستم عندما هاجم طرابلس سنة 196هـ الموافق 811م على أن الهدوء
الذي ساد العلاقات بين الطرفين خلال هذه الفترة , لايعني أن العباسيين قد غيروا من موقفهم تجاه الرستميين فلم تتوقف محاولاتهم الرامية إلى القضاء على الخوارج في المغرب الأوسط , على الرغم من أن هذا الهدف أصبح من أولى مهمات الاغالبة الذين أقاموا دولتهم بدعم وتأييد من الخلافة العباسية ليقفوا في وجه أعدائها ويحاولوا دون تقدمهم نحو الشرق , وقد حرصت الخلافة العباسية على إثارة المشاكل في وجه الدولة الرستمية في تيهرت وشجعت حركات التمرد ضدهم كما حدث في عهد افلح بن عبد الوهاب , وبالمقابل فان سياسة الرستميين وأهدافهم التوسعية في المغرب لا تحتاج إلى دليل فقد قاموا بفرض نفوذهم على المناطق المجاورة لطرابلس , كما قاموا بإحراق
المدينة العباسية التي بناها محمد بن الأغلب سنة 227هـ الموافق 841م , كما حرصوا على اثارة القلاقل في وجه أمراء القيروان وعقد المحالفات مع الأمويين في الأندلس.
أما عن علاقة الدولة الرستمية مع دولة بني مدرار فقد التقت أهدافهما في عدائهم المشترك
للخلافة العباسية وتوطدت بينهم المودة والصداقة وزادت هذه الروابط وثاقة وإحكاما منذ أن زوج اليسع بن اليابس ,ابنه مدرار من أروى ابنة عبد الرحمان بن رستم .
وبالنسبة لطبيعة العلاقات بين الادارسة والرستميين فان الاختلاف المذهبي والعداء التقليدي الموروث بين العلويين والخوارج كان من اهم عوامل التوتر بين الدولتين,هذا فضلا عن العامل الجغرافي الذي أسهم في حدة الخلاف بين الرستميين والادارسة حيث كانت حدودهما متداخلة مما جعل من الصعوبة تحديد انتماء بعض القبائل التي كانت تعيش تارة في كنف الدولة الرستمية, وتارة أخرى تحول انتماؤها
إلى الادارسة , وقد لعبت تلمسان دورا مهما في النزاع بين الرستميين والادارسة
بسبب موقعها الاستراتيجي على الحدود الذي أصبح موضع تنافس بين الدولتين
كما اتسمت العلاقة بين الدولة الرستمية والدولة الأموية بالأندلس بأنها علاقة مودة وصداقة على الرغم من الخلاف المذهبي بين الدولتين إذ أن ثمة أسبابا وراء ذلك
وهي العداء المشترك لكلا الدولتين للخلافة العباسية فضلا عن ذلك قيام دولتي الاغالبة والادارسة في المغربين الأدنى والأقصى,قد أغلق المغرب بوجه الأمويين في الأندلس لذلك حرصوا على توثيق علاقتهم مع الرستميين في تيهرت مستهدفين من وراء ذلك إضعاف أعدائهم الادارسة من جهة,وتامين استمرار اتصال الأندلس بالمشرق من جهة أخرى.وقد انعكست علاقة الصداقة والمودة بين الدولتين على الناحية الاقتصادية التي شهدت نشاطا ملحوظا خلال هذه الحقبة,وتعبيرعن علاقات المودة والصداقة بين الدولتين تبادل الطرفان الهدايا النفيسة,وقد بلغت العلاقات بين الدولتين ذروتها في عهد الإمام أبي اليقظان محمد بن افلح الذي قامت بينه وبين الأمير محمد بن عبد الرحمان بن الحكم علاقات متينة فكان ابواليقظان لايقدم ويؤخر في أموره ومعضلاته إلا عن رأيه.
و لم يتمتع اليقظان في عهده طويلا حيث غمرته الفتن السياسية المائجة والأحوال المتدهورة وزحفت عليه جيوش الشيعة الفاطميين في سنة 296 ه فقتلته في طائفة من أفراد أسرته , وبقتله انقرضت هذه الدولة من تيهرت والتجأ باقي أفرادها إلى الصحراء وأسباب ضعف هذه الإمارة إلى اختلاف شيعتها واشتداد روح العصبية لقبائلها كما تعود تمكّن الخلافات المذهبية في رعاياها فقد كان فيها اباضية وصفرية وسنية وغيرها (1) حيث لما جاء الشيعة إلى تاهرت وجدوا المدينة فاقدة لكل قوة , على أن قوة الشيعة الجارفة كانت من اكبر عوامل انقراضها وانقراض جميع الإمارات الصغيرة والدويلات بافريقية والمغرب وغيرها (2) والخلاف والشقاق بين أئمتها على الحكم أخذت بذلك الدعوة الشيعية تنتشر لصالح العبيديين الفاطميين , وانتهى أمراء الدولة الرستمية وتشتت الاباضية في كل مكان وعلى إثرها سقطت الدولة الرستمية بتاريخ 296هـ الموافق 909م.