مع أن الذاكرة الفلسطينية تزدحم بصور عشرات آلاف الشهداء الذين سقطوا على ثرى الوطن، إلا أن الصورة التي ارتسمت، قبل
أيام قليلة، في سماء هذا الوطن إثر سقوط الشهيد محمد الفقيه، كانت مختلفة، ليس لأن الشهيد كان يمثل حالة استثنائية، وأنه كان يستحق مثل هذا الاستثناء، ولكن لأنه استطاع أن يوحد الفلسطينيين خلفه، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والتنظيمية، وأن يعيد الألق والتوهج للحالة الكفاحية للشعب الفلسطيني.
ففي صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، استفاق أهالي بلدة صوريف شمال مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، التي تحولت إلى ساحة حرب، على مشهد جرافات الاحتلال وهي تقوم بانتشال جثة الشهيد بعدما دمرت المنزل الذي تحصن فيه بالقذائف الصاروخية، عقب ليلة طويلة حشدت فيها قوات الاحتلال مئات الجنود وعشرات الآليات والمروحيات التابعة لـ«فرقة الإعدام» لم يتوقف خلالها إطلاق النار لأكثر من سبع ساعات، بعدما رفض الشهيد الاستسلام وأصرّ على المقاومة حتى النهاية. هكذا بكل بساطة، رحل الشهيد الفقيه ليحلق عالياً في سماء الوطن تاركاً لزملائه المقاومين وأبناء شعبه درساً في البطولة والتضحية ونكران الذات، والذي انعكس في أجواء الحزن وحالة الحداد والإضرابات التي غابت فيها النعرات التنظيمية والفصائلية، ووحدت المقاومين خلف قضيتهم ضد عدو واحد هو الاحتلال، بالرغم من حالة الانقسام والتشرذم التي تسود الساحة الفلسطينية.
تتلخص حكاية هذا الشهيد، ابن الـ29 عاماً، وهو من مدينة دورا جنوب غرب الخليل في سيرته الذاتية، وفي تجرده ونزاهته وإيمانه العميق بعدالة قضيته، وبُعده عن التعصب الحزبي والفصائلي، إذ لم يتردد في مطلع يوليو/تموز الماضي عن تنفيذ عملية بطولية (عملية عتنائيل)، بمشاركة عنصر في جهاز الأمن التابع للسلطة وآخرين، تمكن خلالها من قتل وجرح عدد من المستوطنين، بينهم واحد من رؤوس الإرهاب الصهيوني، قيل إنه ابن عم رئيس جهاز الموساد السابق، ويعتبر من أشرس الحاخامات المستوطنين المطالِبين باستئصال الفلسطينيين، حيث جُنَّ جنون الاحتلال، وقام بإغلاق محافظة الخليل وإحكام حصاره عليها، وعزل القرى والبلدات عن بعضها بعضاً، وبدأ حملات مطاردة واقتحامات يومية استمرت نحو شهر، تمكن خلالها من اعتقال عدد من عائلة وأقارب الشهيد، كما اعتقل عدداً من أفراد المجموعة التي نفذت العملية.
كان الشهيد قد تجرع مرارة سجن الاحتلال بين عامي 2006 2011، وبعد أقل من شهر من الإفراج عنه «استضافته» (اعتقاله السياسي) سجون السلطة لمدة أربعين يوماً، ثم واصلت استدعاءه حتى الأسبوع الأخير قبل استشهاده. ورغم الملاحقات، اجتهد الشهيد في حياته العملية، فالتحق بجامعتي القدس المفتوحة وبولتيكنك فلسطين، ودرس الإدارة والمحاسبة، وعمل في شركة محلية للاتصالات، ثم تزوج قبيل استشهاده بقليل، وترك زوجته في أول حمل لها من دون أن يرى وليده المنتظر.
منقول