من مزايا أمة محمد- صلى الله عليه و سلم-الوضوء
عن نعيم بن المجمر عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه و
سلم - أنه قال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن
استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)(1). وفي لفظ آخر: رأيت أبا هريرة يتوضأ
فغسل وجهه ويديه، حتى كان يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين،
ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يقول: (إن أمتي يدعون يوم
القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته وتحجيله
فليفعل)(2). وفي لفظ لمسلم: سمعت خليلي - صلى الله عليه و سلم - يقول: (تبلغ
الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)(3).
هذا حديث عظيم في الحث على الوضوء، ونذكر ما فيه من المسائل والفوائد في
الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه و سلم -: (إن أمتي) المقصود بالأمة هنا أمة
الإجابة، وهم المسلمون: وقد تطلق أمة محمد - صلى الله عليه و سلم - ويراد بها أمة
الدعوة، وليست مراده هنا.
وقوله: (يدعون) أي ينادون، أو يسمون.
وقوله: (غراً) بضم الغين وتشديد الراء، وهي جمع أغر، أي ذو غرة، وأصل الغرة
لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال، والشهرة، وطيب الذكر،
والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أثر
الوضوء. قاله الحافظ ابن حجر - رحمه الله-.
وقوله: (محجلين) من التحجيل، وهو: بياض يكون في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس،
قاله الحافظ ابن حجر - رحمه الله-، وقال أصله من الحجل، وهو الخلخال، والمراد به
هنا أيضاً النور.
وقال العلامة ابن الملقن - رحمه الله-: الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل:
بياض في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة
غرة وتحجيلاً. ثم قال: والمراد بالغرة هنا: غسل شيء من مقدم الرأس، وما يجاور
الوجه، زائداً على الجزء الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه، وفي التحجيل غسل
ما فوق المرفقين والكعبين.
الوقفة الثانية: قوله: (من آثار الوضوء) الوضوء بضم الواو فعل الوضوء، وبفتحها
الماء الذي يتوضأ به. وهنا يجوز الوجهان: قاله ابن دقيق العيد - رحمه الله-.
وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) أي: فليطل الغرة والتحجيل،
واقتصر على ذكر الغرة دون التحجيل لدلالتها عليه، مثل قوله تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) أي والبرد.
وهذه الجملة أي قوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، هل هي من كلام
رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أم من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه-؟ يقول
ابن حجر - رحمه الله-: (ثم إن ظاهره أنه بقية الحديث: لكن رواه أحمد من طريق
فليح عن نعيم، وفي آخره: قال نعيم لا أدري قوله من استطاع.. الخ، من قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة - رضي الله عنه-، ولم أر هذه الجملة
في رواية أحد من روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي
هريرة غير رواية نعيم. والله أعلم. اهـ كلامه - رحمه الله-.
الوقفة الثالثة: الظاهر من هذا الحديث استحباب الزيادة على محل الفرض، من الوجه،
واليدين، والرجلين، بمعنى أنه يزيد على غسل وجهه فيغسل جزءًا من صفحة العنق،
ويزيد في غسل يديه فيشرع في العضدين، ويزيد في غسل رجليه فيشرع في الساقين.
وهذا الاستحباب هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لكنهم اختلفوا في مقدار هذه
الزيادة، فمنهم من قال إلى المنكب والركبة، قال ابن حجر: (وقد ثبت عن أبي هريرة
رواية ورأياً)، وقيل الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى ما فوق ذلك.
وذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية -
رحمه الله-، وتلميذه ابن القيم - رحمه الله-، وهو عدم استحباب مجاوزة محل
الفرض، فيقتصر المتوضئ على حدود الوجه، واليدين، والرجلين، وقالوا: إن قوله
(فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)هذا من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه-
وليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه و سلم -، ولم يرد عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه زاد على محل الفرض على كثر من نقل لنا وضوءه - صلى الله
عليه وسلم-، وغاية ما في هذا الحديث هو الدلالة على نور أعضاء الوضوء يوم
القيامة، فرجح هؤلاء أن الجملة الأخيرة مدرجة من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه-
بناءً على فهمه.
وبناءً على هذا، فالذي يظهر هو عدم مجاوزة محل الفرض، لكن ينبغي التأكد من
غسل الوجه، واليدين، والرجلين بحدودهما، والله أعلم.
الوقفة الرابعة: يدل هذا الحديث على أفضلية الوضوء، حيث إن أثره يظهر على
المؤمنين يوم القيامة، فتتلألأ أعضاؤهم نوراً يُرَى، حيث ينادون فيأتون على رؤوس
الخلائق، تتلألأ وجوههم وأيديهم بالنور، وذلك من آثار هذه العبادة العظيمة.
(1) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء رقم 136، 1/71-72، ومسلم في كتاب الطهارة باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء 1/216 رقم 246.
(2)روه مسلم في الموضع السابق.
(3) التخريج السابق.