بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والإسلام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، مع برنامج الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، معنا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق، والخطيب والمدرس الديني في جوامع دمشق، أهلاً وسهلاً بكم.
لقد بثّ الله سبحانه وتعال في الأرض آيات للموقنين، فحيثما نظرت، وأينما ذهبت في حركاتك وسكناتك، وبيتك وحقلك، وفي دكانك أو معملك، إذا مشيت على الأرض، أو ركبت البحر، أو الطائرة فإن الآية الكونية هي معك في كل مكان تدل على عظمة الخالق، في هذه الحلقة، واستكمالاً لهذه السلسلة التي نتحدث فيها عن عظمة الخالق في الإعجاز العلمي، واستكمالاً لحديثنا عن الحشرات والحيوانات، النحل آية عظمى، نتحدث عنها إن شاء الله .
الأستاذ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
إن النحل آية من آيات الله الباهرة الدالة على عظمته، قال تعالى:
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)﴾
(سورة النحل)
تكلمت في الحلقة السابقة أن الآيات الكونية لا تعد ولا تحصى، ولكننا إذا بقينا في المنهج، أي في الآيات التي وردت في القرآن الكريم نكون قد توخينا الموضوعات الأولى في موضوعات الآيات الكونية الدالة على عظمته تعالى.
أول شيء يلفت النظر أن هذه الياء:
﴿أَنِ اتَّخِذَي﴾
هي ياء المؤنثة المخاطبة، وكأن الآية منصبة على الإناث حصراً دون الذكور، قال تعالى:
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾
(سورة النحل)
إن أردت التفكر فهذه آية مناسبة للتفكر، إن النحلة هي الحشرة الوحيدة التي تستطيع تخزين رحيق الأزهار من أجل الغذاء، وهي فضلاً عن بناء عن خلاياها وتصنيعها للشمع والعسل فهي تقوم بعمل جليل، وهو تلقيح الأزهار، يغيب عن معظم الناس أن هذه الحشرة لها فائدة كبيرة جداً في تلقيح النباتات، لكننا نتصور أنها من أجل صنع العسل فقط، صنع العسل أحد وظائفها، ومن دون تدخل النحل فإن عدداً كبيراً من النباتات لا يثمر، والنحل من الخلايا ذات النظام الاجتماعي الدقيق المحكم، النحل والنمل من أرقى الحشرات الاجتماعية، طبعاً في خلقها، وعملها، ودقائق صنعها إعجاز، ولكننا قد نلتفت في هذا الموضوع إلى النظام الاجتماعي الذي تخضع له النحلات، طبعاً هذا النظام الاجتماعي تعجز عن تقليده أرقى المجتمعات البشرية، لكن ذكرت في لقاء سابق أن هذا النظام الاجتماعي البالغ التعقيد ليس أمراً تكليفياً من الله كما هي حال البشر، بل هو أمر تكويني من صنع الله وحده.
الغريزة في الحيوان عمل معقد جداً، ولكن ليس كسبياً، إنه عمل وهبي، كما يقولون، تزور النحلة ما يزيد على ألف زهرة لكي تحصل على قطرة من الرحيق !
أستاذ عبد الحليم، من أجل توفير الوقت والجهد حينما تقع النحلة على زهرة، وتمتص رحيقها تترك علامة أن هذه الزهرة مصّ رحيقها لتوفر على أخواتها وقتاً وجهداً في مص رحيق زهرة قد مصّ رحيقها، وتحتاج القطرة الواحدة من الرحيق إلى أن تحط النحلة على ألف زهرة أو أكثر، ومن اجل أن تجمع النحلة مئة غرام من الرحيق تحتاج إلى مليون زهرة، ومن أجل أن تصنع نحلة واحدة كيلو عسل تحتاج لن تطير مائة ألف كيلو متر، تدور حول الأرض عشر مرات ! لو أننا كلفنا نحلة واحدة أن تصنع كيلو من العسل لاحتاجت إلى أن تطير أربعمئة ألف كيلو متر، أي ما يعادل عشرة أضعاف محيط الأرض.
المذيع:
قدرة عجيبة، وسبحان الله بما منّ به على هذه المخلوقات بجمع الرحيق من الأزهار، وتعليم كل زهرة بزهرتها كي لا تأتي نحلة أخرى، وتأخذ الرحيق.
الأستاذ:
إن سرعة النحلة في طيرانها تزيد على خمسة وستين كيلو مترًا في الساعة في حالة طيرانها من دون حمولة، هذه السرعة تقترب من سرعة السيارة، فإذا كانت محملة بالرحيق تهبط سرعتها إلى ثلاثين كيلو مترًا، سرعتها محملة سرعتها فارغة، حمولة النحلة من رحيق الأزهار يعدل ثلثي وزنها، السيارة وزنها ألف كيلو تحمل ثلاثمائة تقريباً، ويحتاج كيلو من العسل كما قلت قبل قليل إلى طيران ما يعادل أربعمئة ألف كيلو متر تقريباً، أي يحتاج الكيلو الواحد من العسل إلى عشر دورات حول الأرض إلى خط الاستواء، طبعاً إن بعض الدول المتقدمة في الصناعة تأخذ المواد الأولية من قارة، وفي طريقها إلى المصانع تجري على هذه المواد عمليات كثيرة معقدة في الباخرة نفسها.
قرأت مرة مقالة عن اليابان أنه ليس عندهم مواد أولية إطلاقاً، وهم من كبار مصدري الستانلس، صنعوا بواخر تصل إلى أواخر أستراليا، تأخذ المواد الأولية، وفي الطريق إلى الشرق الأوسط تصنع هذه المواد الأولية في الباخرة، وتسلِّمها مصنَّعة جاهزة، هذا تفعله النحلة، في طريقها الذي قد يصل إلى عشر كيلو مترات من مكان رحيق الأزهار إلى خلاياها في الطريق تجري عمليات كيماوية معقدة جداً، تحويل الرحيق إلى عسل، ويتم هذا في الطريق كما تفعل بعض البواخر اليوم في صنع الستانلس، ريثما تصل إلى مكان التسليم، إذا كان موسم الأزهار غزيراً فإنها تعطي حمولتها لنحلة أخرى، وتعود سريعاً لكسب الوقت، وجني رحيق الأزهار، يوجد نحلات ضعيفة لا تكلف بالسفر إلى مكان بعيد، هذه تأخذ الحمولة من أختها في مدخل الخلية، وتنطلق إلى داخل خلية كي تضع الحمولة في المكان المناسب، وتعود النحلة إلى مكان رحيق الأزهار إذا كان الموسم جيِّدًا.
المذيع:
ذكرت لنا فضيلة الدكتور أن النحلة ليس فقط تأتي بالرحيق من الأزهار، بل إن هناك مكانة اجتماعية للنحلة، وهي اجتماعية، لها وظائف محددة غير جمع الرحيق.
الأستاذ:
الملكة هي أكبر النحل حجماً، هي تضع كل يوم في فصل الربيع تقريباً من ألف إلى ألفي بيضة كل يوم، والذي يأخذ بالألباب أن هذه الملكة تضع الملكات في مكان، والذكور في مكان، والإناث في مكان، وكأنها تعلم مسبقاً أنها ستلد ملكة، أو أنثى، أو ذكرًا، هذا فوق طاقة البشر ! طبعاً تضع الملكات في مكان كي تتلقى غذاء خاصًّا مناسباً لها، والذكور في مكان، لأن لهم غذاء خاصًّا مناسبًا لها.
إن العاملات من إناث النحل منهن من يأتين بالطعام الخاص للملكة، ويسمى هذا النحل الوصيفات، هناك نحلات وصيفات يقمن على خدمة الملكة، وتأمين الغذاء المناسب للملكة، ويباع في الأسواق عسل الملكة، وهو غالٍ جداً، وهو أفضل ما عند النحل، بعض النحلات العاملات يجمعن غبار الطلع ليكون غذاء ملكيًّا لملكتهم ! إذا ماتت الملكة اضطربت الخلية، ويلاحظ الإنسان هذا التبدل، وحمّة الملكة لا تلدغ الإنسان، بل ملكة أخرى تنافسها على منصبها، لذلك كانت مهمة الذكور تلقيح الملكات، ومهمة الإناث العمل، والملكة مهمتها الولادة.
هذه آية من آيات الله الدالة على عظمته، لقد شاءت حكمة الله جل جلاله أن يخلق مجتمعاً قائماً على أعلى مستويات التعاون والتكامل، والاختصاص والعمل الدؤوب، المنتج، والتنظيم المعجز، بأمر تكويني لا بأمر تكليفي، لذلك لا يمكن أن تجد في مجتمع النحل خللاً ولا فساداً، إنه كمال خلقي مطلق، لأن أمره هذا تكويني لا تكليفي، هذا ما نجده في مجتمع النحل، إنه مجتمع موحَّد متكامل، على رأسه ملكة واحدة لا تنازعها أخرى، تشعر كل نحلة في الخلية بوجود الملكة عن طريق مادة تفرزها الملكة، وتنقلها العاملات إلى كل أفراد الخلية، فإذا ماتت الملكة اضطرب النظام في الخلية، وعمت الفوضى، وشلّت الأعمال.
في وقت واحد لا تدير المملكة إلا ملكة واحدة، يوجد نائبة لها، أو كما يسمى وليّ العهد، إن إناث النحل تقوم بأعمال متنوعة كثيرة، توزع فيما بينها بحسب أعمارها واستعدادها الجسماني، وعند الضرورة والخطر، وفي المواسم الصعبة تعمل كل نحلة ما يفرض عليها، في أيام الرخاء هناك اختصاصات، أما في أيام الشدة فينبغي أن تقوم كل نحلة بكل هذه الأعمال، الوصيفات كما قلت يقمن على خدمة الملكة، وجلب الطعام الملكي، وهناك حاضنات ومربيات يقمن برعاية الصغار، وجلب الغذاء المناسب، وهناك عاملات يحضرن الماء إلى الخلية، وهناك أخريات يقمن بتهوية الخلية صيفاً، وتدفئتها شتاء، وترطيبها في وقت الجفاف، وغيرهن يقمن بتنظيف الخلية، وجعل جدرانها ملساء لامعة ناعمة عن طريق مواد خاصة، وهناك حارسات يقمن بحراسة الخلية من الأعداء، ولا يسمحن لنحلة أن تدخل الخلية ما لم تذكر كلمة السر، وإلا قُتلت، وتبدل كلمة السر عند الضرورة، وهناك من النحلات من يقمن بصنع أقراص الشمع ذات الشكل السداسي، الذي تنعدم فيه الفراغات البينية بأسلوب، وتصميم يعجز عن تقليده كبار المهندسين.
مثلاً، هل يستطيع إنسان بالغ ذروة العقل والمهارة أن يبدأ بتبليط صالة كبيرة، إنسان من اليمين، وإنسان من اليسار، وإنسان من الشمال، وإنسان من الجنوب، وأن يجتمع هؤلاء الأربعة على بلاطة نظامية بمقياس دقيق، هذا فوق طاقة البشر ! إن قرص الشمع تبدأ به النحلات من أطرافه، وتصل إلى الوسط بأشكال سداسية لا تتغير عن بعضها، ولا بعشر الميليمتر، هذا شيء فوق طاقة البشر.
المذيع:
إنها دقة عجيبة في التصميم والتنفيذ.
الأستاذ:
وهناك رائدات يقمن بمهمة استكشاف مواقع الأزهار، فإذا عثرن عليها عُدنَ إلى الخلية، ورقصنَ رقصة خاصة تحدد هذه الرقصة لبقية النحلات 0العاملات الموقع من حيث المسافة والاتجاه، وغزارة الإنتاج، وإذا كانت الوتيرة سريعة جداً والإنتاج كثيفًا جداً، والجمهرة الكبيرة من العاملات تنطلق إلى مكان الأزهار لجني رحيقها، لأنها المادة الأولية للعسل، وقد تبتعد هذه المواقع عن الخلية أكثر من عشر كيلو مترات، وتعود النحل للخلية بعد أخذ الرحيق بطريقة لا تزال مجهولة حتى الآن، والنحل أكفأ الحشرات بنقل وتخزين أكبر قدر ممكن من رحيق الأزهار في أقصر وقت ممكن، وأقل مجهود ممكن، وهي أكفأ الحشرات في تلقيح النباتات كي تساعدها على إنتاج البذور والثمار.
المذيع:
سبحان الله ! وبعد كل هذا الجهد والعمل الدقيق، وبعد أخذ الرحيق من الأزهار والعملية التصنيعية التي ذكرتها، وهي في الطريق تأتينا بهذا العسل المفيد جداً.
الأستاذ:
كان العسل يعدّ فيما مضى غذاء، وهو الآن دواء، أكثر من أربع وسبعين مادة علاجية في العسل ! إذا قال خالق الكون:
﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾
(سورة النحل)
أعرف طبيبًا جراح في دمشق، بعد أن ينتهي من عمله الجراحي يضع خيطاً من العسل على الجرح، حتى يسرّع العسلُ في التئام الجروح، أتمنى أن يكون هذا الموضوع واضحاً عند كل أخ كريم، حتى يستبدل العسل بهذه الحلويات الصناعية، الآن يوجد شرابات ليس فيها ذرة واحدة من مادة طبيعية، كلها مواد كيماوية، فكان عليه الصلاة والسلام يشرب شربة عسل، يضع لعقة عسل في كأس ماء، ويبقيه حتى الصباح، ثم يذوب العسل في الماء، المادة الحلوة المكثفة قد تؤذي المعدة، كان عليه الصلاة والسلام يشرب شربة عسل، ثم إن القيمة العلاجية للعسل أضعاف قيمته الغذائية، ففوائده العلاجية في مختلف الأجهزة والأعضاء والنسج ثابتة، بل تفوق الحد المعقول، كيف لا، وقد قال تعالى:
﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾
(سورة النحل)
بالمناسبة لا بد من ذكر هذه الحقيقة المؤلمة، أنت قد تشتري عسلا، لكنه أخذ من السكر فقط، لأن بعض ضعاف النفوس يضعون القطر إلى جانب خلايا النحل، فتمتص القطر، فيكون عسلاً، ولكن هذا العسل ليس له كبير فائدة، العسل الذي ينفع الإنسان ما أُخِذ من رحيق الأزهار بالذات، هذا الموضوع طويل جداً، ولكن في حلقة قادمة إن شاء الله نتحدث عن تركيب العسل وفوائده العلاجية، إن شاء الله تعالى.
المذيع:
فضيلة الدكتور، ذكرت النحلة في آيات كريمة، قال الله تعالى:
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)﴾
وكما ذكرتم فضيلة الدكتور أن مجتمع النمل مجتمع متكامل، من التعاون، والتكامل، والاختصاص، والعمل الدؤوب المنتج، والتنظيم المعجز، بأمر تكويني لا بأمر تكليفي، لإنتاج هذا الكمّ الكبير من العسل، وهو كما ذكرتم دواء، وليس فقط للأكل والاستهلاك، نشكركم فضيلة الدكتور على هذه الحقائق العلمية والشرعية في آن واحدٍ التي تعطونها في كل حلقة من هذه الحلقات.
إخوة الإيمان والإسلام، إلى حلقة قادمة بإذن الله تعالى من برنامج الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
المصادر:
- القرءان الكريم
- موسوعة النابلسي للعلوم الإسلاميه