إنَّ القرآن العظيم لا تنقضي عجائبُه، ولا تُحصَى معانِيهِ وفوائدُه، فهو كلامُ اللهِ العليمِ الخبيرِ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا حثنا اللهُ سبحانَهُ على قراءته وتدبره، ففي تدبُّرِ القرآنِ والعملِ بِهِ شفاءٌ للفردِ وللمجتمع من أمراضه الحسية والمعنوية، وتلبيةٌ لحاجاتِهِ الدنيوية والأخروية، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فالله الذي خلق عباده هو أعلم بما يصلحهم، قال تعالى: (ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وقال سبحانه: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ).
فمَنْ عَرَفَ فَضْلَ القرآنِ تلهَّفَ إليه تَلَهُّفَ الظمآنِ إلى الماء، والزُّروعِ إلى السَّماء، والمريضِ إلى الشفاء، والغريقِ إلى الهواء، والمسجونِ إلى الحرية والفضاء..
والذي يعيش بدون القرآن والعمل به والاستهداء بهديه، فإنَّ حياتَه (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
وقد بيَّنَ اللهُ سبحانَهُ الغايةَ من إنزالِ القرآنِ فقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، فالتفكر في آيات الله والتدبر لها يوصل إلى الهداية بكتاب الله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
فتدبر القرآن هو مفتاحٌ للعلوم والمعارف، وبه يزداد الإيمان في القلب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة.
وقد نعى الله على المشركين إعراضَهم عن القرآن وعدمَ استفادَتِهم من عِبَره وهديه فقال سبحانه: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ).
إِنَّ تدبر القرآن هو التأمُّلُ لفهم المعنى، والتوصُّلُ إلى معرفةِ مقاصدِ الآياتِ وأهدافها، وما ترمي إليه من المعاني والحِكَمِ والأحكام، وذلك بقصد الانتفاع بما فيها من العلم والإيمان، والاهتداء بها والامتثال بما تدعو إليه..
ولكن كيف يمكن تدبر القرآن الكريم؟ هناك خُطُواتٌ عمليةٌ ووسائلُ تعين على تدبر القرآن الكريم، منها:
1ـتنويرُ البصيرةِ بالإقبالِ على الله تعالى والقُرْبِ مما يحبُّه الله والامتثالِ لأمره، والابتعادِ عما نهى عنه، قال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)، فالعلمُ نورٌ، والمعصيةُ ظُلْمَةٌ، ولا بدَّ لمن يريدُ النورَ أنْ يبتعدَ عن كلِّ ما فيه ظُلْمَة، فكلما ابتعدَ المسلمُ عن المعاصي كان أقربَ إلى التوفيقِ والسداد.
2ـ ومما يعين على تدبر القرآن: استشعارُ عَظَمَةِ القرآنِ وذلك باليقينِ التام بأنك مع القرآن حيٌّ وبدونه ميت، ومع القرآن مُبْصِرٌ وبدونه أعمى، ومع القرآنِ مُهْتَدٍ وبدونه ضَال.
والاستشعارُ بأن القرآن كلام الله تعالى وأنه رسائلُ أرسَلَها الله إلى عباده لهدايتهم لأفضل السُّبُل التي فيها نفعهم في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو أكملُ نظامٍ عرفته البشرية لإصلاح الناس، وخيرُ ما يعبِّرُ عن الإسلام هو القرآن العظيم.
فالقرآن شفاءٌ من أمراض الشهوات والشبهات، والقرآن يعطي منهجاً سليماً في الحياة ويُصْلِحُ الفردَ والمجتمع.
وكيف لا يَسْتَشْعِرُ عَظَمَةَ القرآن مَنْ عَرَفَ أنَّ القرآنَ هو كلامُ الله تعالى، فإذا كان القرآنُ هو كلامُ اللهِ سبحانه فإنَّ فضلَ القرآنِ على سائر الكلام كفضلِ اللهِ تعالى على خلقه.
لقد وصف الله تعالى تأثُّرَ المؤمنين بالقرآن فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)، وقال تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
فقد وَصَفَ اللهُ المؤمنين الذين يخشونه بأنهم تَقْشَعِرُّ جلودُهُم من هذا القرآن الكريم تعظيماً له، وذلك الذي بعثهم على الخضوع له والانقياد، ولذلك قال بعدها: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ). فالتدبر لا يكون إلا بالتعظيم لله ولكتابه العظيم.
منقول