معلومات مجهولة عن الشيخ عبد الحميد ابن باديس يرويها شقيقه عبد الحق
حاوره : عبد الناصر بن عيسى ـ قسنطينة
تمر علينا كل سنة ذكرى وفاة ورحيل إمام الأئمة الشيخ عبد الحميد بن باديس.. ولا نحسن في الكثير من الأحيان أن نفعل شيئا. سوى أن نتذكر.. ونقف تلك الوقفة الباردة على بعض أعماله وأقواله ..لنردد ثم نلوذ بالصمت .سنوات وسنوات تمر، ولسنا ندري لماذا نقف فقط عند تلك الحدود البسيطة في التعامل مع ظاهرة كبيرة وشخصية علمية عظيمة كابن باديس.. لماذا لا نحاول إحياء الكثير مما اجتهد طول حياته لإحيائه وبعثه، فاستطاع بذلك أن يحيي أمة بأكمله، ويصون مبادئ مجتمع بأجمعه .يحافظ له على لسانه وعلى قلبه ووجدانه وعلى مبادئه وأخلاقه.. سنوات طويلة بخّرت الكثير من الباديسيات.. معاهد انهارت.. وكتب ضاعت.. ومبادئ اضمحلت. وجهود كبيرة ضخمة كادت تندرس وتزول.. لدرجة صار من المشروع أن يُطرح
مثل هذا لسؤال المثير: هل مات ابن باديس فعلا في قلوبنا..؟
لقد غاب عن قوانين التعليم وعن قوانين الأسرة, وهو الآن في أحسن الأحوال صورة مكبّرة معلقة في بعض الشوارع ، وفي بعض دور الثقافة في كل 16 أفريل من كل سنة.
الشيخ توفي في ربيع عمره العلمي ولم يترك إبنا أو إبنة وبعد رحيل شقيقته "نفيسة" منذ سنوات عن عمر يناهز التسعين سنة.. لم يبق من العائلة إلا الشيخ عبد الحق بن باديس, وهو الشقيق الأصغر للشيخ عبد الحميد ويبلغ حاليا من العمر 85 سنة (مواليد 15 نوفمبر 1920 بقسنطينة) أي أنه كان في سن العشرين عند وفاة الشيخ بن باديس.
التقيناه بمسجد عائلة بن باديس (سيدي قموش) فعصَر ذاكرته ومنحنا هذه الذكريات الخاصة جدا والمجهولة من حياة إمام الأئمة.
المصحف الكنز
من بين أشياء بن باديس التي مازالت موجودة "قشابية وبطانية" التي كان يستعملها ومحفظة تحصل عليها هدية عام 1937 إبان حفل افتتاح دار الحديث بتلمسان, وجهاز المذياع.. إضافة إلى مصحف استقدمه من البقاع المقدسة ورافقه إلى غاية آخر أيام عمره.. ليقرر شقيقه عبد الحق منذ خمس سنوات إهداءه إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
لكن لماذا بوتفليقة دون الزعماء السابقين؟
يقول الشيخ عبد الحق ... "أول مدينة زارها بوتفليقة عند تسلمه مقاليد الحكم.. هي قسنطينة.. كما أنه يزور باستمرار ضريح الشيخ بن باديس لأجل ذلك منحته هذا المصحف الغالي".
لكن المعروف أن بن باديس أمضى عمره وأنشأ جرائده لمحاربة الزوايا وشيوخها حتى تعرّض لمحاولة إغتيال من طرف أحد رجال الزواية العلوية "مستغانم".. والزاويا استعادوا الآن أمجادهم في الزمن البوتفليقي؟..
هذا ما رفض الشيخ عبد الحق الخوض فيه واعتبره خوض في السياسة وفي خصوصيات الرئيس..
كان عبد الحق تلميذا في المدرسة الباديسية منذ موسم (1937-1938) في جامع الأخضر إلى أن رحل الشيخ عبد الحميد فأكمل دراسته على يد الشيخ مبارك الميلي وحصل على شهادة الأهلية.
لم يمت بالسرطان
مازالت بعض الإشاعات تتحدث عن اغتيال عبد الحميد بن باديس بالسم وآخرون يتحدثون عن سرطان الأمعاء والحقيقة أن العلامة أصبح يُجهد نفسه بما لا طاقة له به في سنواته الأخيرة فكان يستقل قطار (قسنطينة – الجزائر) كل مساء أربعاء ليعود مساء كل جمعة, وزادت حصصه التدريسية اليومية لترتفع إلى ثلاث حصص في اليوم.. ومع أنه لم يكن يعاني من أي مرض حتى أنه لم يلبس في حياته نظارات طبية ولم يشتكي من تسوس أسنانه إلا أنه رقد في فراش المرض في 14 أفريل 1940 وعلى مدى ثلاثة أيام لم يستطع مغادرة فراشه فكان يقوم بتمريضه "من ضعفه وشحوبه" والده وشقيقته (بتول) طوال النهار ويتولى عبد الحق السهر معه ليلا, وفي حوالي الساعة الثانية بعد الزوال من السادس عشر من أفريل 1940 لفظ أنفاسه الأخيرة وكان محاطا بوالده وشقيقه الأكبر (الزبير) والطبيب الفرنسي القادم من العاصمة "ليفي فالونزي" والطبيب القسنطيني الشهير "بن جلول", وقد مات رحمه الله ولم تكن في رأسه شعرة بيضاء واحدة.
مقتل إبنه إسماعيل
عندما رحل عم عبد الحميد بن باديس ترك في عنق شقيقه أمانة عبارة عن "بناته", فقام الوالد بتزويج إبنه عبد الحميد بإحدى بنات أخيه ولم يكن حينها عبد الحميد قد تجاوز سن الـ15, ودام الزواج عدة سنوات أنجب الإبن إسماعيل.. ظل إسماعيل يدرس عند أبيه "عبد الحميد" ويقضي أوقات فراغه في مزرعة كائنة بالهرية التي تبعد عن قسنطينة بـ20 كلم, وهي مزرعة ورثتها عائلة إبن باديس عن الآباء والأجداد إلى أن حان الموعد الرهيب .. فبينما كان إسماعيل يتجوّل بالمزرعة شاهد أحد حراس المزرعة يعلق بندقيته المعبأة بالرصاص في جذع شجرة. فحملها إسماعيل بكل براءة وراح يلهو بها فخرجت رصاصة قاتلة استقرت بصدر الصغير.
وهناك بالمدينة الكبيرة كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يقدم دروسه لتلامذته داخل المسجد عندما تقدم منه أحد أصدقائه وأسرّ له الخبر المحزن, فأكمل الدرس حتى نهايته ثم انفرد في زاوية خاصة وراح يُذرف الدموع, وتكرر نفس المشهد عندما توفي شقيقه سليم, وكان حينها أيضا في حلقة تدريس.
وللعلم فإن عبد الحميد بن باديس لم يحضر وفاة والده الذي توفي عام 1951, أي إحدى عشر سنة بعد رحيل عبد الحميد. أما عن أسباب طلاقه فتعود بالتأكيد إلى دخوله عالم الدعوة حيث اكترى بيتا خاصا به, ولم يعد يزور البيت إلا نادرا, وهذا ما أثار حفيظة الزوجة المسكينة التي غادرت مرة بيت أهل بن باديس, وعندما رجع ولم يجدها رفض رغم إلحاح والده الذهاب لإحضارها.
وانتظر عدة أيام وعندما تأكد من عدم رجوعها للبيت لفظ كلمة الطلاق ورفض العودة عن قراره رغم محاولات أهل الزوجين وأكثر من ذلك رفض الزواج ثانية.
لباسه وأطباقه المفضلة
لم يكن الشيخ بن باديس يلبس إلا ما ينسج محليا, ويتكون لباسه العادي من برنوس صوفي أو وبري ولم يلبس في حياته قماش "فلانال" أما سراويله فكانت دوما قسنطينية تقليدية من "الحوكة" ويطلب دائما من تلاميذه أن لا يلبسوا البرانيس الفرنسية, حتى أنه مرة شاهد إبن أخيه الحكيم بن باديس "الذي يسمى المستشفى الجامعي الآن باسمه" شاهده يضع على رأسه "البيري" فنزعه عنه وراح يدوسه بقدمه, وكان الشيخ عبد الحميد يغطي رأسه شتاء بالشاش وصيفا بالكبوس, كما امتلك ساعة جيبية.. للأسف ضاعت بعد وفاته.
أما عن مأكله فكان يعود إلى البيت مع موعد الغذاء والعشاء ليغسل يديه ويلتف رفقة والده وأخواه العربي وعبد الحق وصهره أبو بكر حول المائدة لتناول الطعام, وعكس ما يُشاع عن تقشفه في المأكل يؤكد السيد عبد الحق أن عبد الحميد كان يأكل ككل الناس.
يشتهي لحم الخروف المفوّر "الذي يُطهى في البُخار" ويأكل الفول الذي يسمى في قسنطينة "روس البراطل" بشهية كبيرة, فكان يضيف للحم مزيدا من الكمّون وللفول القليل من الخل, كما يشارك دوما عائلته في تناول الحلويات القسنطينية التقليدية كالقطايف والبقلاوة والجوزية, ويصرُ على أن يأخذ لتلامذته القادمين من الضواحي في كل ربيع "البراج باللبن" كما كان مداوما على تناول الفطور الصباحي المكون من الحليب والخبز والقهوة التي لم يكن يشربها بإدمان, كان يستعمل ملعقة خشبية في الأكل وهذا داخل إناء من الطين.
هوايات إبن باديس
إمتلك والد عبد الحميد ثلاث سيارات على مدى حياة عبد الحميد. الأولى من نوع "تيركاميري" والثانية من نوع "دورلوني" ثم بعد ذلك غيّرها بسيارة من نوع "بيرلي" وكان له سائق خاص؟ ولا يحتاج عبد الحميد السيارة إلا لأجل التنزه في جبل الوحش والمريج وهي مناطق ساحرة فقدت للأسف سحرها بعد الإستقلال ويفضلها إبن باديس الذي يأخذ معه إخوته الصغار, فبينما يلعبون الكرة يغرق عبد الحميد في قراءة كتاب "العُروة الوثقى" لجمال الدين الأفغاني, كما يتوجه رفقة إخوته إلى منطقة الحوض والمونيمان مشيا على الأقدام حتى يصلوا إلى مسبح سيدي مسيد "جاف حاليا" .. وأحيانا يكتري (فيلا) في نواحي بلكور العاصمة ليقضي بها أياما رفقة العائلة دون أن يمارس السباحة في حياته, كما أنه لم يدخل ملعب كرة رغم أنه شارك في إنشاء نادي مولودية قسنطينة واختار له اللون الأبيض, ومع أنه يمارس الرياضة إلا أنه كان كثيرا ما يُسرحُ تلامذته أيام العُطل ليمارسوا الكرة والسباحة في المسبح الطبيعي "سيدي مسيد".
طرائف في حياة العلامة
حدث مرة أن غضب والد عبد الحميد من أحد أبنائه "شقيق عبد الحميد", فصاح في وجهه وقال "صدق تعالى عندما قال إنما أموالكم وأولادكم فتنة" فنهض عبد الحميد وقال له "أكمل يا والدي.. والله عنده أجره عظيم" فرد عليه والده بغضب مَرح "الأجر أديوه أنتوما".
كما حدث وأن إلتف حول المائدة أفراد العائلة في أحد أيام رمضان, وفجأة خرج أحد إخوته من المقصورة فقال له عبد الحميد "خيرّ لك أن تصلي معنا ونحن في شهر رمضان" فابتسم شقيقه ورد قائلا "لكنني سمعت أن من عائلة الإمام العالم يُدخِل الله أربعين فردا الجنة", فرد عبد الحميد "ومن أدراك بأنني سأدخل أنا الجنة حتى أدخِلك معي", فرد الأخ مبتسما "إذا كنتَ أنت بتقواك وورعِك هذا في الشك فأنا لن أصل أبدا لأنه لا أمل لي في الجنة", وبينما كان الشيخ عبد الحميد يتجول في السيارة رفقة عبد الحق في نواحي هضبة المنصورة, فجأة طلب من أخيه أن يُخرج كراسة صغيرة ويكتب فيها هذه الأبيات التي لم تسجل في أي كتاب وهي :
كم عالم يسكن بيتا بالكراء
وجاهل يملك دورا وقرى
لما قرأت قوله سبحانه
نحن قسمنا بينهم زال المرار
ومرت السنوات... 65 سنة شيّدت فيها المدن والفيلات وبقي شقيق إبن باديس يقطن بيتا متواضعا في حي شعبي.. وماتت شقيقته (نفيسة) في شقة عادية بعمارة عادية.
آخر ما كتب إبن باديس
"أخي الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي.. السلام عليكم. لقد بلغني موقفكم المشرف العادل.. لقد صُنتَ الدين والعلم فصانك الله وحفظك. عظم الله قدرك في الدنيا والآخرة". كان هذا آخر ما كتبه بن باديس وهي رسالة قصيرة أرسلها إلى تلمسان حيث كان أخاه البشير الإبراهيمي الذي رفض متاع الدنيا وهداياها التي بلغته من فرنسا, لأجل أن يقف في الصف الفرنسي في الحرب العالمية الثانية.. ولكنه رفض, وبلغت بطولاته الشيخ بن باديس فكتب له هاته الرسالة في 13 أفريل 1940, ورقد في اليوم الموالي في فراش الموت, وغاب الإبراهيمي عن جنازة رفيق دربه.
معالم زالت وأخرى في الطريق:
لا يوجد الآن ما يدل على أن العلامة عبد الحميد بن باديس وُلد وتعلم وتُوفي بقسنطينة. هذه المدينة التي هتك عرضها الثقافي والحضاري اللامبالاة من الشعب ومن السلطة. حتى تحول بيت عبد الحميد بن باديس إلى خراب وزال المعهد الذي كان يُعلم فيه تلامذته برغم هذا الترميم الذي بعثه من جديد على أمل أن يتحول إلى متحف.
تصوروا أنه يوجد في وسط المدينة وتعرّض سابقا للسرقة والنهب دون أن تكلف السلطات نفسها بتعيين حارس ينقذ ما يمكن إنقاذه, فكما ضاع تفسير القرآن الذي أعطاه عبد الحميد 25 سنة من عمره وكما ضاع تفسير موطأ الإمام مالك, ضاعت المعالم ونخشى أن يضيع عبد الحميد من ذاكرة الشعب.. إن لم نقل أنه ضاع فعلا.. فمن غير المفهوم أن تُبنى في قسنطينة الإستقلال جامعة إسلامية ضخمة وجامعة تعليمية ودور الثقافة فتأخذ أسماء مختلفة إلا إسم عبد الحميد بن باديس.. ولحسن الحظ يحتفظ شقيقه بمكتبة خاصة ملكا للعلامة عبد الحميد وهي مكتبة هامة تحوي بعض المخطوطات بخط يد المرحوم, إضافة إلى نفائس تاريخية وإسلامية وأدبية نادرة.
خصوصيات مجهولة
· كان إخوته ينادونه سيدي وكان هو ينادي والده "سيدي" بينما يناديه والده "الشيخ" وفي غيابه يناديه إخوته "سيدي حامد".
· لم يكن عبد الحميد يذهب إلى السوق أبدا يحدث وأن ساعد في تنظيف البيت حيث تكفل والده طوال حياته بكل شئ.
· صادف وفاة ابن باديس تواجد البشير الإبراهيمي في المنفى بتلمسان لهذا تكفل مبارك الميلي بمراسيم التأبين.
· لا توجد أي صورة تلفزية للشيخ عبد الحميد ما عدا بعض الثواني المصوّرة وهو يشارك جمعية العلماء في افتتاح دار الحديث بتلمسان.
· ست دقائق هي مدة الفيلم الموجود في الأرشيف والذي يصوّر مراسيم تشييع جثمان الشيخ.
· لم يحدث وأن عانى عبد الحميد من أي مرض وحتى من أي ألم أثناء وهَنِه الأخير, لكن التعب هو سبب وفاته المبكر حيث وصل به الحال لأن يقدم في اليوم 14 درسا من الفجر إلى العشاء.
· كان يمتلك بطاقة التنقل التي يشترك فيها بدفعه 13 ألف فرنك قديم تسمح له بالتنقل نحو العاصمة.
· رَبّى الشيخ عبد الحميد مرة (غزالتين) في بيته.
· كان ينوي إرسال بعثة من الفتيات للدراسة بالمشرق. لكن أمنيته لم تتحقق أولا لقيام الحرب العالمية الثانية وثانيا لوفاته.
* عن صحيفة "الشروق اليومي" بتصرف
أعجبني فنقلته