لا يعرف الكثيرون أن فيلسوفا مهما ألقى بظلاله على القرن العشرين برمته وحركته الإنسانية والفكرية مثل الفرنسى: جان بول سارتر، قد وقع فى معضلة إنسانية وفلسفية ظلت تطارده حتى وفاته! اتخذ سارتر موقفا داعما لمشروع توطين اليهود فى أرض فلسطين، وقدم دعما سياسيا وفلسفيا للصهيونية استمر حتى أيامه الأخيرة، وفشل مثقفون عرب من الوزن الثقيل مثل إدوارد سعيد فى محاولة تغيير موقفه، أو انتزاع اعتراف منه بحق الفلسطينيين الضائع فى خضم دعمه للصهيونية.
وقع فيلسوف الحرية ضحية لمنهجه الظاهرى (الفينومينولوجى) فى مقاربة الظاهرة الإنسانية، ووقف الحدس والموقف الذاتى والآنى عاجزا إزاء تعاطف سارتر مع يهود فرنسا وما تركته بصمات النازية على أوربا فيما بعد الحرب العالمية الثانية؛ ليتخذ قرارا بدعم حرية يهود أوربا والعالم على حساب حرية العربى الفلسطينى، وظلت جدلية العربى-الصهيونى تطارد سارتر، ولم تنجح محاولاته بعد ذلك فى التوفيق بين حرية هذا وحرية ذاك!
الأساس الفلسفى لموقف سارتر من الصهيونية قدمه فى كتابه: "تأملات فى المسألة اليهودية" الذى صدر عام 1944 ( وقمت بترجمته للعربية للمرة الأولى هذا العام عن دار روافد وصدر فى معرض القاهرة الدولى للكتاب)، وكان فى سياق دفاعه عن حق يهود فرنسا فى العودة إليها، مع تفنيده لمظاهر "الصورة النمطية" الشائعة تاريخيا عن اليهود فى أوربا آنذاك. وقام الأساس المنهجى للكتاب على مجموعة من الانطباعات الظاهرية واستطلاعات الرأى الذاتية التى قام بها سارتر بنفسه بين سكان أوربا من اليهود وغيرهم! ليخلص لنتيجة مدفوعا بفكرة الذنب تجاه يهود أوربا، بأن شخصية اليهودى عبر التاريخ ليست سوى شخصية سلبية مظلومة رد فعل للآخرين! معتبرا اليهودية ليست جوهرا فى حد ذاتها؛ بقدر ما هى انعكاس سلوكى دُفع له اليهود من خلال إصرار الآخرين على معاملتهم بشكل معين بوصفهم يهودا.
لم يكتف سارتر فى أطروحته هذه بتقديم الدعم السياسى فقط للصهيونية فى فلسطين؛ وإنما قدم لها تنظيرا فلسفيا باعتبارها التمثل الحقيقى لممارسة يهود العالم لحقهم فى الوجود الحر، واتخاذ موقف يعبر عنهم بوصفهم جماعة تحمل "موقفا وجوديا مشتركا"! كما أن هذا المؤلَّف كان من أهم أوراق الدعاية الصهيونية التى قدمت فكرة ومغالطة كبيرة، لم نلتفت لها فى دراساتنا العربية بالشكل اللائق بعد؛ حيث قدم سارتر الصهيونية باعتبارها الحل والمقابل للهولوكوست اليهودى فى أوربا! واعتبر من يرفض الصهيونية واحتلال اليهود لفلسطين داعما للفكر النازى وعمليات الاضطهاد والقتل التى قام بها هتلر فى حق يهود أوربا ويهود فرنسا تحديدا، ثم والأخطر ربط ذلك بالصهيونية واعتبر من يعادى الصهيونية معاديا لليهود ومضطهدا لهم! وهى المعادلة التى نلمح أثرها للآن فى الثقافة الغربية؛ من خلال ربط التصدى للممارسات الصهيونية العنصرية بما سمى: معاداة السامية التاريخية فى أوربا!
لقد أسقط سارتر حق العربى الفلسطينى فى سعيه للبحث عن حرية وجودية متساوية وعادلة مفترضة لكل البشر وفق فلسفته الوجودية! بداية حاول تجاهله تماما فى فترة الدعاية للمشروع الصهيونى وما قبل إعلان الدولة حتى إقامتها أواخر أربعينيات القرن العشرين؛ حيث انقسمت بعد التجاهل التام لمرحلتين؛ الأولى من التأسيس وحتى ما قبل عدوان 1967: حيث صور سارتر العربى وكأنه امتداد للنازى الأوربى المضطهد لليهود والمهدد لوجودهم، على عكس الحقيقة وكون الصهيونية مشروع أقيم على حساب سلب الحرية الوجودية للفلسطينيين، حيث نظر سارتر لهذه الفترة على اعتبارها فترة تهديد للوجود الصهيونى الناشئ الذى تبناه منذ تأسيسه أواخر الأربعينيات.
وكانت المرحلة الثانية بعد حرب 67 التى حاول فيها – حرجا وعلى استحياء – الموازنة بين تبنيه للصهيونية و بين مشكلة الشعب الفلسطينى الذى أصبح مشتتا وموزعا على أقليات فى بلدان العالم والبلدان العربية المجاورة، وأصبح فى موقف وجودى مماثل تماما ليهود أوربا المشتتين إبان الحرب العالمية الثانية! حيث وقع سارتر فى هذه المرحلة فى حيرة وفى حالة عجز عن مواجهة المعضلة التى وضع نفسه فيها، ولم يجد أمامه من سبيل سوى الحلول التوفيقية والتلفيقية، حيث لا يستطيع التراجع عن دعمه السياسى لإسرائيل، أو دعمه الفلسفى للجماعات اليهودية والمشروع الصهيونى. ليقرر سارتر أن العلاقة بين يهود الصهيونية والعرب الفلسطينيين هى علاقة بين مظلومين تعرض كل منهما للظلم والاضطهاد! ويجب أن يقدر كل منهما موقف الآخر، ويبحثا عن آليات التعايش والسلام التى تضمن بشكل أساسى مكتسبات ووجود المشروع الصهيونى الذى دعمه سارتر!
فيمكن القول أن المحدد الرئيسى الذى حكم سارتر فى الفترة الأخيرة من حياته إزاء القضية الفلسطينية وعلاقته بالصهيونية؛ كان ينقسم إلى عاملين؛ الأول: خط أحمر لا يسمح بالاقتراب من مكتسبات المشروع الصهيونى العنصرى ولا يناقشها، الثانى: اعتبار العرب ضحايا مضطهدين بدورهم لكن يجب عليهم أن يتعايشوا مع الوجود الصهيونى على أرضهم، ويرضخوا لسلطته السياسية فى الواقع، ويجب عليهم أن يقبلوا بمساحةٍ من الوجود السياسى المقيد، فى ظل السيطرة السياسية الغالبة للصهيونية وهيمنتها وجوديا!
انقسم موقف سارتر إجمالا من العربى الفلسطينى إلى ثلاث مراحل متباينة للغاية، وهى: الإنكار والتجاهل – المضْطَهِد العدوانى – الضحية المظلوم! الأولى: مرحلة الإنكار والتجاهل وهى فترة تأليف الكتاب حيث كان مدفوعا بأحداث الاضطهاد النازى، وإحساس الذنب تجاه اليهود الذى أعماه عن رؤية حقيقة موقفه المتحيز الذى ينصر اليهود على حساب جماعة إنسانية أخرى سلبها حقها الوجودى الحر.
المرحلة الثانية: المضْطَهِد العدوانى وهى التى ظل متأثرا فيها بأحداث اضطهاد اليهود فى أوربا من جانب النازى، فأسقط صورة النازى على العربى، رغم أن العربى كان يدافع عن أرضه ووجوده الإنسانى تجاه محتل غاشم، وفى هذه الفترة أيضا يمكن القول أن سارتر كان تحت تأثير نفسى لفكرة وحيدة وضاغطة، للمآسى التى شهدتها فرنسا تحت الاحتلال النازى فى حق اليهود، فأصبح بصره أعمى تجاه المذابح الجديدة التى حدثت فى حق الفلسطينيين من الأطفال والشيوخ والنساء.
المرحلة الثالثة: الضحية المظلوم وهى المرحلة التى أصبح فيها تجاهل الحق والوجود العربى حرجا إنسانيا لا يستطيع سارتر تجاهله، ولا يستطيع فى الوقت نفسه الاعتراف الكامل بالظلم البين الذى وقع عليه، حين سلبه حقه فى الوجود الحر! فاصطك لنفسه موقفا توفيقيا يحفظ ماء وجهه – نوعا – معتبرا أن العربى قد وقع عليه الظلم مثله مثل اليهودى فى أوربا! لكن ذلك الاعتراف من جانب سارتر ظل موقفا دعائيا لا يمكن لسارتر أن يقف عليه حقيقة؛ وإلا اكتشف مدى الأزمة التى خلقها للفلسطينيين، ومدى عجزه عن طرح مقاربة تعيدهم إلى موقف الوجود الإنسانى الحر مثلهم مثل أى جماعة بشرية أخرى لها الحق فى الحياة.
لم يستطع سارتر الاعتراف بأن الاضطهاد الغربى ليهود أوربا؛ هو علاقة بين أوربا وأحد أقلياتها! وليس على أى طرف آخر فى العالم – وقد تصادف أن يكون ذلك على حساب الطرف العربى الفلسطينى باسم التاريخ – أن يدفع ثمن ذلك. ودون أن يعترف أيضا أن العلاقة بين الاحتلال الصهيونى والمقاومة الفلسطينية هى علاقة بها ضحية واحدة فقط، بها مضطهد واحد فقط، وأعطت لجماعة إنسانية حق الوجود الحر؛ على حساب جماعة إنسانية أخرى تم سلب حقها فى الوجود الحر!
لقد قفز فيلسوف الحرية والإنسانية الشهير – عاصبا عينيه - على خطيئته فى حق الإنسان الفلسطينى الذى سلبه حريته الوجودية؛ معتبرا أن العلاقة بين الاحتلال الصهيونى والمقاومين الفلسطينيين هى علاقة متساوية بين طرفين مظلومين! تحمل – من وجهة نظره – المشترك الأبرز المتساوى المتمثل فى الظلم الذى وقع على الجانبين! فى مغالطة وفساد تدليل ٍ منهجى ٍ وعلمى ٍ وتاريخى ٍ. إن هناك إزاحة فى الزمان والمكان والتاريخ فى تبرير سارتر لدعمه للحق الصهيونى على حساب الحق العربى، على مستوى المكان: ظلم اليهود فى أوربا فكيف يكون الحل فى فلسطين! وعلى مستوى الزمان: ظلمتهم أوربا على مدار العصور الوسطى والحل جاء فى القرن العشرين على حساب العرب! وعلى مستوى التاريخ: انتهى وجود الجماعات اليهودية فى المنطقة كسلطة سياسية منذ فترة تزيد على الألفى عام، فكيف يستخدم ذلك لتبرير سلبهم لحق الفلسطينيين فى السيادة السياسية وفى الوجود الحر على أرضهم - الآن وحاليا - لصالح السيادة السياسية ليهود العالم!
المعضلة الحقيقية أن سارتر قد وضع يهود الصهيونية فى موقف الوجود العدمى؛ ونظريته فى "الصهيونية الوجودية" التى تعتبر أن فلسطين تخلق "الموقف المشترك" الجامع ليهود أوربا والعالم، وتمثل الموقف الوجودى الحر الغائب عن اليهود تاريخيا! تحولت شيئا فشيئا إلى "صهيونية عدمية"، تعبر عن صدام مستمر مع الفلسطينيين والعرب، وطورت ما يمكن تسميته بـ "الأبوكاليبسة" أو حالة "انتظار الكارثة الوجودية"؛ وخلقت مجتمعا مشوها ينتظر النهاية المأساوية دائما.
منقول