بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن:
(400) - (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ *)
( آل عمران:96).
بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
أجمع المفسرون علي أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع في الأرض, وتعددت الروايات في تحديد من بني هذا البيت العتيق, وإن كان من الثابت قرآنا وسنة أن الملائكة بنته عند تمام خلق السماوات والأرض, وكانوا أول من طاف به. ثم تهدم البيت وأعيد بناؤه عدة مرات, إلي أن أمر الله - تعالى - أبا الأنبياء إبراهيم وولده إسماعيل - علي نبينا وعليهما من الله السلام - أن يرفعا هذا البيت من قواعده. ثم تهدم البيت بعد أن بناه إبراهيم عدة مرات وأعيد بناؤه.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا: أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع علي سطح الأرض:
إن هذا النص القرآني الكريم واضح الدلالة علي أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس. والتعبير( أول بيت) لم يحدد أنه أول بيت للعبادة, وإن كانت الكعبة المشرفة هي أول بيت عبد الله - تعالي- فيه علي الأرض. وعلي ذلك فالاستنتاج أنه أول بيت علي الإطلاق يبني علي سطح الأرض أقرب إلي فهم دلالة النص. ويدعم ذلك وصف القرآن الكريم للكعبة المشرفة بوصف البيت العتيق كما جاء في سورة الحج ( آية29). كذلك فإن التعبير القرآني (وضع للناس) ينفي أن يكون أحد من الناس قد وضعه, أي: بناه ابتداء, مما يدعم القول بأن الملائكة هم الذين بنوا الكعبة المشرفة. ثم تهدم هذا البيت العتيق وبنته أجيال من الناس ست مرات علي الأقل, ويؤكد ذلك أن الكرامة والبركة والشرف هي للبقعة المكانية, وليست لأحجار البناء ( باستثناء كل من الحجر الأسعد ومقام إبراهيم).
ثانيا: أن اليابسة كلها نمت من تحت الكعبة المشرفة:
تفيد أحدث النتائج في دراسات علوم الأرض أن كوكبنا مر بمرحلة من تاريخه القديم غمر فيها بالماء غمرا كاملا, فاختفت اليابسة تماما. ثم فجر الله - تعالي- قاع هذا المحيط الغامر بثورة بركانية ظلت تلقي بحممها فوق قاع هذا المحيط الأول حتي تكونت سلسلة جبلية في وسطه تشبه ما يعرف اليوم باسم (حيود أواسط المحيطات) وهي سلاسل من الصخور البركانية والرسوبية المختلطة, تجري بطول أواسط كل المحيطات الحالية, وتغذيها الانشطة البركانية فوق قيعان المحيطات باستمرار, علي فترات متبادلة من النشاط والهدوء حتي تظهر بعض قممها فوق مستوي سطح الماء في المحيط لتكون عددا من الجزر البركانية مثل كل من جزر هاواي, واليابان, والفلبين, وإندونيسيا وغيرها.
والسلسلة الجبلية التي تكونت فوق قاع المحيط الأول الغامر للأرض ظلت تنمو بتواصل نشاطها البركاني حتي برزت أول قمة منها فوق مستوي سطح الماء فكانت أرض مكة المكرمة, فأمر الله - تعالي- ملائكته ببناء الكعبة المشرفة علي هذه القطعة الأولي من اليابسة, ولذلك قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم- :
" كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض" (الهروي, الزمخشري).
" وقال عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم: دحيت الأرض من مكة فمدها الله تعالي من تحتها فسميت أم القري" (مسند الإمام أحمد).
وفي شرح هذين الحديثين الشريفين ذكر كل من ابن عباس رضي الله عنهما وابن قتيبة (أرضاه الله) أن مكة المكرمة سميت باسم أم القري لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض.
والدحو في اللغة هو المد والبسط والإلقاء, وهي كلمة جامعة للتعبير عن ثورة البركان الذي يوسع من امتداد طفوحه البركانية كلما تجدد نشاطه وذلك بإلقاء مزيد من تلك الطفوح.
وأخرج كل من الطبراني والبيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوفا عليه أنه( أي البيت الحرام) كان أول ما ظهر علي وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة( بفتح الزاي) أي كتلة من الزبد بيضاء فدحيت الأرض من تحته . وقد ظلت الثورات البركانية فوق قاع المحيط الأول تلقي بحممها حتي تعددت الجزر البركانية فيه وبدأت تتلاحم مكونة كتلة أرضية واحدة تعرف باسم القارة الأم أو أم القارات.
ثم شاءت إرادة الله - سبحانه وتعالي - أن يفتت تلك القارة الأم بشبكة من الصدوع إلي القارات السبع التي نعرفها اليوم . وكانت هذه القارات أشد قربا إلي بعضها البعض من أوضاعها الحالية, ثم أخذت في الانزياح متباعدة عن بعضها البعض حتي وصلت إلي أوضاعها الحالية. ولاتزال قارات الأرض السبع في حركات مستمرة, ولكنها حركات بطيئة لا يشعر بها الإنسان وإن أمكنه قياسها بأجهزته المتطورة.