بطل من أبطال الإسلام، وعلم من أعلام الفقه، ورائد من رواد القضاء..
كان في القضاء عادلاً، وفي الفقه معلمًا، وفي الحرب قائدًا. لم يمنعه تقدم السن وأعباء الحياة من أن يترك حلقات العلم والحكم، وأن يودع القلم والمحبرة ليتفرغ لقيادة المجاهدين، وتأديب الغادرين، ورفع راية الإسلام.
هو أسد بن الفرات بن سنان من حرّان بديار بكر. كان يعتز باسمه واسم أبيه وجده، فيقول: أنا أسد وهو خير الوحوش، وأبي الفرات وهو خير المياه، وجدي سنان وهو خير السلاح.
أسد بن الفرات .. مولده وعلمه
ولد أسد بن الفرات عام 145هـ. تفتح عقله على العلم، وحلّق فكره في الفقه، فكان في صدر شبابه لا يعرف إلا العلم والدرس والتحصيل.
انتقل إلى تونس فنشأ بها وترعرع بين ربوعها، فكان لنشأته الفقهية أكبر الأثر في تكوينه.. التقى بالعالم المالكي الفقيه علي بن زياد ودرس عليه المذهب المالكي فنبغ فيه، ودرس الحديث والأثر. ظهر عليه النبوغ والذكاء، فقد كان يتفجر علمًا وتُقى. جلس يعلم الناس فالتف الناس حوله وأقبل العلماء عليه فلكل سؤال جوابه، ولكل معضلة حلّ.
لم يكتف بذلك بل أراد أن يأخذ العلم من منبعه، وأن يحصل عليه من قائله، فعمل على لقاء الإمام مالك فتم له ما أراد. تتلمذ على يديه وسمع منه الموطأ، وتبحر في هذا المذهب وألف الأسدية في فقه الإمام مالك، ثم رجع ليفقه الناس في تونس والقيروان.
عرف الناس علمه وفضله، فقد كان أكثر الناس علمًا أذكاهم فهمًا، وأفصحهم لسانًا. ثم تاقت نفسه إلى الاستزادة من العلم والمعرفة، فيمَّم وجهه شطر العراق حيث فقيه الرأي والقياس وأقطاب العلم وجهابذة النظر، فنشأ عن هذا اللقاء فيض القريحة وقوة الحجة. التقى هناك بالقاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهما من أجلِّ أصحاب أبي حنيفة، فنقل عنهما أصول المذهب الحنفي. عارض وناقش ودرس الأصول والقواعد. رأى فيه أهل العراق رجاجة عقله وثاقب نظره وفكره المستقل وحسه المرهف، فلقي منهم كل احترام وتقدير، وكما نقل عنهم مذهب الإمام أبي حنيفة، نقلوا عنه مذهب الإمام مالك.
لا عجب أن يشد أسد بن الفرات رحاله إلى بغداد لينهل من علمها، ويتفقه على أيدي علمائها؛ فقد كان العراق يومئذ مركز الإشعاع العقلي، جمع بين العلم والفن والتفسير والحديث والفقه واللغة والأدب والنحو والصرف.
قال صاحب (ضحى الإسلام) نقلاً عن المقدسي يصف بغداد: "هذا إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء، لطيف الماء، عجيب الهواء، ومختار الخلفاء. أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء، ومنه كان أبو عبيد والفراء وحمزة والكسائي، وكل فقيه ومقرئ وأديب وسري وحكيم، وزاهد ونجيب، وظريف ولبيب".
وقال عنه ابن كثير في (البداية والنهاية 1/102): "قال ابن علي: ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد ولا أحسن منهم".
عاد القاضي الفقيه أسد بن الفرات إلى القيروان، وازداد علمًا وفقهًا ومعرفة، فأخذ يفيض على الناس مما آتاه الله، والناس مقبلون عليه يرجون فضله وينالون من علمه.
أسد بن الفرات .. القاضي المجاهد الشهيد
بينما الناس مقبلون على الدرس والتحصيل، والشيخ يعلو صيته وترتفع شهرته، ويتبوأ مكانته الاجتماعية في المجتمع الذي يعيش فيه، حتى أطلقوا عليه قاضي القضاة أو شيخ الفتيا.
وبينما الشيخ يعقد حلقات العلم والناس يتدافعون نحوه، إذا بداعي الجهاد يدعو الناس للجهاد في سبيل الله.
ففي عهد الخليفة المنصور ينادي زياد الله بن الأغلب في الناس هلمُّوا إلى الجهاد في سبيل الله، ويستحث الناس لفتح جزيرة صقلية. فيتدافع المسلمون ملبين داعي الجهاد في سبيل الله، وكان القاضي أسد بن الفرات برغم كبر سنه يتقد حمية على الإسلام. فهو يرى في الجهاد قرّة عينه، وراحة نفسه، فما إن أعلن الجهاد واستعد الناس لأداء الواجب، واجب التضحية والفداء، حتى هبَّ القاضي الفاضل والمعلم الورع وصاحب الكتب والمحبرة وابن السبعين من عمره أو أكبر..
إذا بهذا الشيخ بعد أن بلغ هذه السن التي تفتر فيها القوى، وتذبل فيها القرائح، ويخلد الإنسان عادة إلى الدعة والسكينة والهدوء، إذا بهذا القاضي ينقلب شابًّا يافعًا ومجاهدًا صادقًا، فيعلن استعداده للتطوع ليعمل جنديًّا في سبيل الله، ومجاهدًا في ميدان الحق، ولكن زياد الله بن الأغلب رجل يعرف أقدار الرجال، فهو يعرف للقاضي حقه وفضله ومكانته في المجتمع وسنه وورعه، فيسند إليه القيادة، قيادة المعركة البحرية العظيمة.
***
لم يكن غزو المسلمين في البحر غريبًا عنهم، فهم رجال سادوا البحر كما سادوا البر، وكان المسلمون يفرحون للغزو في البحر طمعًا في ثواب الله لمن خاض البحر مجاهدًا في سبيل الله.. بل كان المسلمون يطلبون من غزاة البحر الدعاء لهم باعتبارهم مجاهدين لهم من الأجر والثواب أكثر من غيرهم. وقد ثبتت أحاديث شريفة عن رسول الله ترغِّب المسلمين في الغزو في البحر، وتبين لهم فضله.
من ذلك ما رواه البخاري (1/ص416) من فتح الباري لابن حجر: عن أم حرام أن رسول الله قالَ -من القيلولة- يومًا في بيتها فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما يضحكك؟ قال : "عجبتُ من قوم من أمتي يركبون البحر كالملوكِ على الأَسِرَّةِ". فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم. فقال : "أنتِ منهم". ثم نام ، فاستيقظ وهو يضحك، فقال مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقلتُ: يا رسول الله، ادعُ الله أن أكون منهم. فقال : "أنتِ من الأولين". فتزوج بها عبادةُ بن الصامت، فخرج بها إلى الغزو، فلما رجعت قرّبت دابتها لتركبها فوقعت فاندق عنقها.
وفي رواية مسلم بشرح النووي (3/ص575) أن أمّ ملحان قالت لما ضحك رسول الله : ما يضحكك يا رسول الله؟ قال : "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأَسِرَّةِ أو مثل الملوك على الأَسِرَّة..." إلى آخر الحديث.
لذلك لم يكن ركوب البحر غريبًا على المسلمين، فقد غزا معاوية بن أبي سفيان جزيرة قبرص، كما قاد عبد الله بن أبي سعيد بن أبي السرح أكبر معركة بحرية عام 34هـ وهي معركة ذات الصواري، وكانت معركة رهيبة غيَّرت تاريخ البحر الأبيض المتوسط.
قال الطبري في تاريخه (4/ص289) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كنت معهم فالتقينا في البحر فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا فأرسينا ساعة، فأرسوا قريبًا منها، وسكنت الريح عنا فقلنا: الأمن بيننا وبينكم. قالوا: ذلك لكم ولنا منكم مثل ذلك. ثم قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم البحر. قال: فنخروا نخرة واحدة وقالوا: الماء.
فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها إلى بعض، حتى كنا يضرب بعضنا بعضًا على سفننا وسفنهم. فقاتلنا أشد القتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن ويتواجئون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركامًا، وقال ممن حضر ذلك اليوم: رأيتُ الساحل حيث تضرب الريح الموج، وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم غالب على الماء، ولقد قتل من المسلمين يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى. وصبروا يومئذ صبرًا لم يصبروا في موطن قد مثله. ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مُدبِرًا، فما انكشف إلا لما أصابه من القتل والجرح، ولقد أصابه يومئذ جراحات مكث منها حينًا جريحًا.
***
إن أسد بن الفرات الذي جمعت له قيادة الأسطول البحري ومنصب قاضي القضاة مع منصب شيخ الفتيا، كان جديرًا بهذه المناصب كلها.
خرج القاضي أسد بن الفرات ليتولى قيادة الأسطول البحري، وتجمع الناس حوله ما بين مودع وداع، بل كان الناس يسرعون الخُطا لينالوا شرف الجهاد في سبيل الله.
ووصل الركب إلى بسوسة، وكان يومًا من الأيام المشهورة في تاريخ الإسلام. تجمع المجاهدون يرتقبون الساعة الفاصلة التي تنطلق فيها السفن للقاء أعداء دين الله. وأخذ الجند مكانهم، وارتفعت الأعلام، ودقت الطبول، ووقف القائد القاضي أسد بن الفرات مكانه بينهم.
كان على القائد في ذلك الوقت أن ينزع الخوف من قلوب جنده، وعليهم أن يطرحوا التردد جانبًا، وأن يقبلوا على المعركة مستبسلين لا يخافون ولا يرهبون الردى.
وقف القائد يخطب في جنده، فقد كان القائد القاضي صاحب رأي مسموع وبيان مبدع. أخذ يحض المجاهدين ويبين لهم درجة الاستشهاد. وكأنما أراد بذلك أن يقول لهم بفعله لا بقوله؛ فالجهاد لا يعرف السن، فكم من رجال في تاريخ الإسلام وخط الشيب رءوسهم، وقوَّست الأيام ظهورهم، ورغم هذا لم يقعدهم السن عن الجهاد ولا المرض عن أداء الواجب.
وقف القائد يحض المجاهدين على القتال، فهو يرى في النصر شفاء لصدور المؤمنين.. وقف القائد فقال: "أيها الناس، واللهِ ما وُلِّي لي أب ولا جد ولاية قَطُّ، وما أرى من سلفي ما رأيت ولا بلغ ما بلغت، وكل الذي أعدني وهيأني قلمي وعلمي، فاجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب الحق وفي تدوين العلم، وكابدوا وصابروا على كل الشدائد، فإنكم بذلك تنالون فخر الدنيا وسعادة الآخرة".
كان هذه خطبة القائد العظيم، وعلى أثرها انطلقت الجواري المنشآت في البحر كالأعلام. انطلقت السفن تمخر عباب الماء وعلى ظهورها رهبان الليل وفرسان النهار.. انطلقت السفن الماخرة.
يا سبحان الله! ما هذه الجيوش المتكاثرة؟ ما هذه القلوب العامرة؟ من هؤلاء المنطلقون كالأسد الكاسرة؟
إنهم المؤمنون الصادقون الخاشعون الراكعون الساجدون العابدون.
سار الأسطول الإسلامي يقوده الشيخ الكريم، والقائد العظيم، والقاضي البر الرحيم أسد بن الفرات.
قاد الشيخ المعركة، والجند حوله كلهم أذن صاغية، وقلوب واعية، فإشارته أمر، وأمره مطاع.
سار الأسطول الإسلامي حتى بلغ شواطئ صقلية، فأصدر القائد أمره ببدء المعركة، وبدأت رهيبة قاسية أصلى فيها المسلمون أعداءهم نارًا حامية، دكوا الحصون ودمروا القلاع، وأثخنوا في الأعداء قتلاً. ثم بدأ الجيش الإسلامي العظيم ينتقل من نصر إلى نصر حتى بلغ سرقوسة، وحاصرها المسلمون وشددوا قبضتهم عليها، وعلى حصارها استشهد القائد العظيم أسد بن الفرات.
صعدت روحه الطاهرة لتحتل مكانها بين الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
استشهد أسد بن الفرات تاركًا لخلفه إتمام ما بدأ به.
***
إن معركة صقلية بجنودها وقيادتها بكل الذين اشتركوا فيها تستحق الدراسة والتأمل.
يا سبحان الله! من كان يظن أن هؤلاء الأعراب، رعاة الإبل وسكان الخيام، الذين تربوا في الصحراء، أصبحوا بين عشية وضحاها سادة الدنيا وأساتذة العالم، ومهد الحضارة والحرية، وأهل الفكر والسياسة.
عجبًا لهؤلاء الأبطال الذين بذلوا أرواحهم لله، وجادوا بكل ما يملكون لله!
عجبًا لهؤلاء الذين أرغموا أنف الحوادث، وغيَّروا مجرى التاريخ!
ما قرأ إنسان منصف تاريخهم إلا فاضت عيناه، وما عاش إنسان معهم بأحاسيسه ومشاعره إلا كان الموت أحب إليه من الحياة.
لقد كان هؤلاء في الذروة العليا من قوة الروح، إيمان عميق، إيمان بأن النفس لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها.
***
هذا مثل نقدُّمه للقاضي المسلم التقي الذي تربَّى على مائدة القرآن الكريم، وتخرج في مدرسة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وقدَّم نفسه للتضحية والفداء.
نقدم هذا المثل ليعلم الخلف عن السلف كيف تُضرَب الأمثال في الفداء والتضحية والاستشهاد في سبيل الله.
في تاريخ هذا الرجل المجاهد الشهيد والقاضي المؤمن، والشجاع الأبيّ أسد بن الفرات ندرك سرَّ خلود أبطالنا المؤمنين المجاهدين الصادقين.
في تاريخ هذا القاضي القائد عظمة المجاهدين وعبقرية الفاتحين.
تاريخ هذا البطل الشهيد يجب أن يلقنه الأجداد للأحفاد، ويرويه الآباء للأبناء.
اللهم اجعلنا نسير على هديهم، ونقتفي أثرهم، ونحشر يوم القيامة معهم.
المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية، نقلاً عن مجلة الأمة العدد (27)، ربيع الأول 1403هـ.
منقول