السلام عليكم
تفسير قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،
مَن يهد الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فقد عزمت في هذه الكلمات أن أجمع بعض أقوال علماء التفسير في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ ﴾ [النساء: 22]في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 22][1].
وهأنذا أعرض عليكم بعض أقوال العلماء فيها.
• جاء في تفسير مُقاتل بن سليمان ﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ لأن العرب كانوا يَنكحون نساء الآباء، ثم حرم
النسب والصِّهر، وذلك أن محصنًا مات أبوه، فشدَّ على امرأته فتزوجها[2].
• قال ابن وهب: حدَّثني عبدالله بن محمد بن أبي فروة عن سعيد المقبري قال: كان أبو هريرة يقول:
﴿ اللَّمَمَ ﴾ [النجم: 32]، لمم أهل الجاهلية؛ وقال لي عبدالله بن أبي فروة: وسمعت زيد بن أسلم،
وإنسانٌ يذكر ذلك، فقال: صدق، إنما اللمم لمَمُ أهل الجاهلية؛ يقول الله: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا
مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [النساء: 23][3].
قال الشافعي - رحمه الله -:
فأيُّ امرأة نكحها رجل، حَرُمت على ولده (دخل بها الأب، أو لم يدخل بها)، وكذلك ولد ولده مِن قِبَل
الرجال والنساء، وإن سَفَلوا؛ لأن الأبوة تجمعهم معًا.
كان أكبر ولد الرجل يَخلُف على امرأة أبيه، وكان الرجل يَجمع بين الأختَين، فنَهى - عز وجل - أن
يكون منهم أحد يجمع في عمره بين أختَين، أو ينكح ما نكح أبوه، إلا ما قد سلف في الجاهلية قبل
عِلمهم بتحريمه.
• قال الشافعي - رحمه الله -: وفي قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ ﴾ [النساء: 23]، وكان الرجل يجمع بين الأختَين، فنهى الله - عز وجل عن أن يكون منهم أحد
يجمع في عمره بين أختين، أو ينكح ما نكح أبوه إلا ما قد سلف في الجاهلية، قبل علمهم بتحريمه،
ليس أنه أقر في أيديهم ما كانوا قد جمعوا بينه قبل الإسلام، كما أقرَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
على نِكاح الجاهلية الذي لا يحلُّ في الإسلام بحال.
قال الإمام الطبري: قال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [النساء: 23]؛ لأن معناه:
فإنكم تُؤخَذون به؛ فلذلك قال: ﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ أي: فليس عليكم جناح، ومثل هذا في كلام العرب
كثير؛ تقول: "لا نصنَع ما صنعت"، "ولا نأكل ما أكلت".
• ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 22].
قد ذُكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يَخلفون على حلائل آبائهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك،
فحرم الله - تبارك وتعالى - عليهم المقام عليهنَّ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم
وشِركهم مِن فعل ذلك، لم يؤاخذهم به، إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه[4].
• قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن
عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار، قال: توفي أبو قيس، وكان من صالح الأنصار، فخطب ابنُه
قيس امرأتَه، فقالت: إنما أعدُّك ولدًا، وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فأستأمِره، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا قيس توفي،
فقال خيرًا، إن ابنه قيس خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنتُ أعدُّه ولدًا، فما ترى؟ قال لها:
((ارجعي إلى بيتك)).
قال: فنزلت هذه الآية: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾[5].
• قال ابن أبي زمنين في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ يعني:
ما قد مضى قبل التحريم؛ ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا ﴾ بغضًا من الله، ﴿ وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾؛ أي: بئس
المسلك[6].
• {﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ ﴿ ما ﴾ بمعنى: مَن، وقيل: ولا تنكحوا،
النكاح؛ يعني: ما نكح ﴿ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ اسم الجنس ليدخل فيه الحرائر والإماء، أما الحرائر
فتَحرُم بالعقد، والإماء بالوطء.
﴿ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ﴾؛ قال المفضَّل: يعني بعد ما سلف، فدعوه واجتنبوه[7].
قال الثعلبي: وسمعتُ أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه كما قد سلف؛
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا ﴾ [النساء: 22]: يورث بغض الله، والمقت أشد البغض، ﴿ وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾
[النساء: 22]: وبئس ذلك طريقًا، كانت العرب يقولون لولد الرجل من امرأة أبيه: مَقيت ومقي،
وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن عمرو بن أمية.
[1] ﴿ وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ﴾؛ نزلت في محصن بن أبي قيس بن الأسلت بن الأفلح
الأنصاري، وفي امرأته كبشة بنت معن بن معبد بن عدي بن عاصم الأنصاري، من الأوس من بني
خطمة بن الأوس.
[2] تفسير مقاتل بن سليمان (1: 365).
[3] تفسير القرآن من الجامع لابن وهب (1: 17).
[4] تفسير الطبري "جامع البيان" ت شاكر (8: 132
[5] تفسير ابن أبي حاتم، (3: 909).
[6] تفسير القرآن العزيز؛ لابن أبي زمنين (1: 357)
[7] تفسير الثعلبي "الكشف والبيان عن تفسير القرآن" (3: 281).