هو محمد بن عبد الرزاق محمد كريم، الذي استطاع أن يمتلك قلوب الناس، وقد كان له الأثر الكبير في إثارة الناس، وقيادة المقاومة الشعبية ضدَّ الحملة الفرنسية في مصر.
نشأة محمد كريم
وُلِدَ السيد محمد كريم بحيِّ الأنفوشي بالإسكندرية قبل منتصف القرن الثامن عشر، نشأ محمد كريم يتيمًا فكفله عمُّه، عَمِل في بداية أمره قبَّانيًّا يزن البضائع في حانوت بالثغر، كان عمُّه قد افتتحه له، وكانت لديه خفَّة في الحركة وتودُّد في المعاشرة، ولم يتلقَ محمد كريم تعليمًا كبقيَّة أقرانه بسبب وفاة والده، فتردَّد على المساجد ليتعلَّم فيها، ثم بدأ يُحَدِّث الناس مستغلًّا الندوات الشعبية، وكانت هذه الندوات طريقًا ليعرفه أهل الإسكندرية عن قرب، ويعرفوا وطنيته وشجاعته.
محمد كريم حاكم الإسكندرية
ويَسَّرت له هذه الندوات امتلاك شعبية كبيرة بين الناس، كانت سببًا في توليته حاكمًا على الإسكندرية، وقد كانت الإسكندرية بوابة مصر البحرية، وتودَّد محمد كريم إلى الناس حتى أحبُّوه -مسلمهم وغير مسلمهم- لأخلاقه التي تربَّى ونشأ عليها، وقد قام محمد كريم بأمر البلاد والعباد على أحسن وجه.
جهاد محمد كريم ضد الفرنسيين
في يوم 19 مايو 1798م أبحر الأسطول الفرنسي بقيادة نابليون قادمًا إلى مصر لينهب ثرواتها، وكان على محمد كريم أن يقف ليصدَّ هذه الهجمات، ويرُدَّها على أعقابها، ولا يُمَكِّنها من دخول بلده، لكن كانت الحملة الفرنسية مزوَّدة بأحدث الأسلحة والمدافع، بينما لم تكن مثل هذه الأسلحة بأيدي المصريين، ولمَّا بلغ أمر الحملة الفرنسية الإنجليز تحرَّك الأسطول الإنجليزي بقيادة نلسون مُتَّجِهًا إلى الإسكندرية، طالبًا من محمد كريم انتظار الأسطول الفرنسي خارج الميناء، وأن يسمح لهم أن يشتروا من المدينة ما يحتاجونه من زادٍ، لكنَّ محمد كريم رفض طلبهم قائلًا: «ليس للفرنسيين أو سواهم شيء في هذا البلد، فاذهبوا أنتم عنَّا».
ووقف أسطول نلسون منتظرًا خارج الثغر أربعًا وعشرين ساعة، ثم أقلع متجهًا إلى شواطئ الأناضول بحثًا عن غريمه الفرنسي، ولم يمضِ على رحيله غير أسبوع حتى ظهر الأسطول الفرنسي أمام شواطئ الإسكندرية، وعندئذٍ بعث السيد محمد كريم إلى القاهرة مستنجدًا بالمماليك وقوَّادهم مراد بك وإبراهيم بك، واستقرَّ الرأي على أن يسير مراد بك مع جنوده إلى الإسكندرية لصدِّ الغزاة، ويبقى إبراهيم بك في القاهرة للدفاع عنها.
وصل الأسطول الفرنسي إلى شواطئ الإسكندرية عند العجمي في أول يوليو 1798م= المحرم 1213هـ، وبادر إلى إنزال قوَّاته ليلًا إلى البرِّ، ثم سَيَّرَ قسمًا من قوَّاته إلى الإسكندرية يوم 2 من يوليو، ولم يكن عدد سكان المدينة يومها يزيد على ثمانية آلاف نسمة، ولم يكن بها من الجنود ما يكفي لصدِّ الجيش الفرنسي الكبير المزوَّد بالمعدات الحديثة.
وكان أن استعدَّ السيد محمد كريم للدفاع عن الإسكندرية بكُلِّ ما لديه من ذخيرة وعتاد، وظلَّ محمد كريم يقود المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين؛ حتى بعد أن اقتحم الفرنسيون أسوار المدينة، ثم اعتصم محمد كريم بقلعة قايتباي ومعه فريق من الجنود، حتى فرغت ذخيرته، فكفَّ عن القتال، وتمَّ أسره هو ومَنْ معه، ودخل نابليون المدينة وأعلن بها الأمان.
أُعجب نابليون بشجاعة محمد كريم فأطلق سراحه من الأسر، وتظاهر بإكرامه، وأبقاه حاكمًا للإسكندرية، ولمَّا تمَّ لنابليون الاستيلاء على الإسكندرية رأى أن يُغادرها إلى القاهرة، وعيَّن كليبر حاكمًا عسكريًّا عليها، وزحف إلى القاهرة في 7 من يوليو عن طريق دمنهور والرحمانية.
ظنَّ نابليون أن محمد كريم سينحاز إلى جانبه بعد أن فكَّ أسره، لكن خاب ظنُّ نابليون، فلم يُمهله محمد كريم إلَّا وأعلن المقاومة الشعبية في أنحاء الإسكندرية؛ مما أرَّق الفرنسيين الذين فشلوا في استمالته معهم، فاعتقله كليبر حاكم الإسكندرية، وأرسله إلى القاهرة ليُحكم عليه بالإعدام.
إعدام محمد كريم
وجَّهت المحكمة الفرنسية -التي شكلها نابليون للحكم على المناضلين- إلى محمد كريم تهمة التحريض على المقاومة وخيانة الجمهورية الفرنسية، وأثناء المحاكمة أرسل نابليون رسالة إلى المحقِّق؛ يأمره فيها أن يعرض على محمد كريم أن يدفع فدية قدرها ثلاثون ألف ريال، يدفعها إلى خزينة الجيش ليفتدي نفسه، ورفض محمد كريم أن يدفع الفدية، ولمَّا ألحَّ عليه البعض في أن يفدي نفسه بهذه الغرامة رفض، وقال: «إذا كان مقدورًا عليَّ أن أموت فلن يعصمني من الموت أن أدفع الفدية، وإذا كان مقدورًا عليَّ أن أعيش فعلام أدفعها؟».
وفي (25 من ربيع الأول 1213هـ= 6 من سبتمبر 1798م) أصدر نابليون بونابرت أمرًا بإعدام محمد كريم ظُهْرًا في ميدان القلعة رميًا بالرصاص، فأركبوه حمارًا، وطافوا به إلى أن بلغوا الرميلة فقتلوه رميًا بالرصاص، وقطعوا رأسه ورفعوه على نَبُّوت (عصا كبيرة)، وأخذ منادٍ يصيح: «هذا جزاءُ مَنْ يُخالف الفرنسيين». وبذلك أُسدل الستار على مجاهد وطني نادر، واستولى أتباع محمد كريم على رأسه المقطوع ودفنوه مع جثته، وهكذا أصبح الزعيم محمد كريم رمزًا للفداء، وأحد زعماء الوطنية البارزين في مصر، وأقسم الشعب أن يثأر لشهيده، وتحقَّق ذلك بأن تمَّ جلاء آخر جندي فرنسي عن مصر سنة (1216هـ= 1801م) بعد مقاومة شعبية كبيرة.
منقول