لماذا لا يتعاطف العالم مع الإستشهادي الفلسطيني؟
لست هنا بموقع الخوض في جواز أو عدم جواز العمليات الإستشهادية، التي يقوم بها فتيان وفتيات فلسطين اليافعين، اليانيعين والثوار. أنا لن أناقش هذا الجانب الجدلي، لأن هذا أمر يخص أهل الداخل، ف "أهل مكة أدرى بشعابها". هم يعيشون الوضع، لذلك فهم من يقرر ردود الفعل الأنسب. أما بالنسبة لي، فأنا لا أتمنى الموت المبكر لهؤلاء لأي سببٍ كان. وأعتقد أن علينا أن نحاول أن نستمع وأن نستجيب لمطالب الفلسطينيين. وبما أن هذا ليس موضوع هذه المقالة، فسأتطرق إلى حجة العنف، التي يستخدمها بعض الأوروبيين ضد الفلسطينيين، فكما فاجأتني إمرأة كاريبية بالقول : "لقد خسروني بالعنف! أنا لا أفهم لم يستخدمون العنف!". هي تقول أنها لا تفهم وهي لا تريد أن تفهم، ولا أدري لم بادءتني بهذه الديباجة المألوفة حين عرفت أني فلسطينية حتى عندما لم أفتح فمي بالحديث عن العمليات الإستشهادية. وليس في نيتي فتح هذا الحوار مع أحد أصلاً. ولذلك فهي أوصدت الباب في وجهي بإحكام، كي لا أتحدث على الإطلاق عن القضية الفلسطينية وكأني كنت سأتحدث عن موضوع بغاية الحساسية مع إمرأة كهذه، وكم من مرةٍ ذكرتني بزيارتها إلى إسرائيل وتل أبيب لكي تقطع علي الطريق، لكنها جعلتني أفكر؛ لماذا لا يتعاطف العالم مع الإستشهاديين الفلسطينيين؟
عندما كانت هذه المرأة تتحدث عن الإستشهايين الفلسطينيين بدا لي أنها لا تفرقهم عن الإنتحاريين المتطرفين. ومن الجائز أنها وضعت الإثنين في بوتقة واحدة عن وعي أو عن غير وعي، عن قصد أوعن غير قصد ولا بد أن هذا النظرة إلى الإستشهادي الفلسطيني هي نظرة سائدة في المجتمع البريطاني، الذي نفذ صبره مع المسلمين والعرب. ويبدو انه استغل التطرّف والإرهاب لصب الأحقاد ضد العرب والمسلمين. كون الناس لا يميزون أو لا يريدوا أن يميزوا بين هذا وذاك يعني أنهم اختاروا جانب إسرائيل، التي طالما عانت من الإرهاب الفلسطيني . وإسرائيل هي حليفتهم الإستراتيجية، وهي من تعطيهم النصائح والخبرة في كيفية التعامل مع هؤلاء الإرهابيين .
باعتقادي أن العمليات الإستشهادية بدأت في فلسطين في وقتٍ ما ومن قبل أشخاص علمانيين ويساريين وغيرهم، وكان الهدف من ذلك أن لا يقع منفذو عمليات المقاومة الفلسطينيين في أيدي الأسر والتعذيب الإسرائيليين، فالموت أرحم وبموت الشهيد الفلسطيني، تموت أسرار العملية النضالية وخطط المقاومة. فالعمليات الجهادية والإستشهادية كانت تجسد روح المقاومة الفلسطينية ضد احتلالٍ غاشم لا يرحم. بمعنى "إيش جابرك على المر (الموت)، إلا الأمر منه (الإحتلال) والفلسطينيون ممنوعون من حمل السلاح وخوض معارك متكافئة، ولا يملكون عوزي ولا قنابل عنقودية ولا قنابل نووية ولا قنابل مسيلة للدموع ولا طائرات حربية ولا طائرات هليوكبتر ولا مدافع ولا دبابات ولا رشاشات. والفلسطينيون لا يسكتون عن الذل والمهانة ولذلك هم يثأرون بالحجر والجسد الغض الطري، فهذا كل ما يملكون، في ظل خذلان العالم أجمع لهم، عربًا وغير عرب. فلا أحد يأبه للفسلطينيين. نرقبهم وهم يموتون بالعشرات والمئات والألآف المؤلفة، ثم ندينهم بالإرهاب.
مما لا شك فيه أن البعض قد يستشف في الإستشهاديين الفلسطينيين يأسًا من شدة القمع والقهر وأن لا وسيلة لهؤلاء المقاومين سوى التحول إلى قنابل بشرية موقوتة أو غير موقوتة، يدافعون بها عن كرامتهم المهدورة، فهم سيقتلون بطريقة أو بأخرى على يد إسرائيل. فلم لا يمسكون بزمام الأمور ويقاومون الإحتلال الغاشم ويدفعون في سبيل ذلك أغلى ما يملكون؛ حياتهم. لكن قد تظل هذه الرؤية مطروحة في الخفاء، إذ أن قليلًا من الناس قد يجرؤ ويعبر عن وجهة النظر هذه. حتى أن شيري بلير، زوجة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق لم تسلم وكانت قد أثارت ضجة كبيرة في بريطانيا، قبل حوالي عقدٍ ونصف عقدٍ من الزمن حين قالت: "إن العمليات الإنتحارية تظهر أن الفلسطينيين فقدوا الأمل." مضيفةً "طالما ظل الشباب يشعرون أنه لم يعد لديهم أمل سوى تفجير أنفسهم، لن يكون أي تقدم ممكنًا".
ومن هذا نستنتج أن مجرد تبرير ولا أقول ترويج العمليات الإستشهادية الفلسطينية هو أمرٌ مرفوض رفضًا قاطعًا في بريطانيا. ولهذا يدفن كثيرون رؤوسهم في الأرض كالنعام، فهو المطلوب وهو الأسلم.
في العقود الماضية، كانت المقاومة الفلسطينية تستثمر العمليات الإستشهادية في إثارة الرأي العام وطرح قضيتهم العادلة، كما حذت حذوها الآي آر إيه، المطالبة بتوحيد الإيرلنديتين، الشمالية والجنوبية، والتي لولا ضغطها على الرأي العام في المملكة المتحدة بالوسائل العنيفة والتفجيرات التي قام بها جناحها العسكري الشين فين في المناطق المكتظة بالبشر، لما جلس معها البريطانيون على طاولة المفاوضات، بحسب تفسير كثيرين. لكن الرأي العام تغير بشكلٍ كلي. والتقنيات الجديدة تستقطب معلوماتٍ عنا وتستخدمها كيفما تشاء بحيث يسهل تعقبنا ومراقبتنا. والنَّاس أصبحت حذرة. والمجتمعات الأوروبية تغيرت ولم تعد تهتم بما يحدث في العالم إلا بما فيه مصلحتها. وعقود من الحروب في العراق وحاليًّا في سوريا، جعلت الخط واضحًا بين نحن وهم. في بريطانيا، لا يأبه البيض إلا بثقافتهم، وأصبحوا أقل تسامحًا مع الآخرين، الأقليات والمهاجرين. لذلك، هم بصراحة لا يريدون عربًا ومسلمين، حتى لو كانوا متعلمين أو ليبراليين أو مساهمين في المجتمع. يبدو أن هناك دعوة عامة لتضييق النطاق على الجميع لصالح الثقافة السيادية والسائدة. ولعل القضية الفلسطينية هي في آخر سلم الأولويات وهي آخر بند في جدول نقاشات الرأي العام.
ويتردد أن الجالية السوداء استفادت من الهجمة الشرسة على العرب والمسلمين لأن الشرطة والمخابرات البريطانية لم تعد تطارد الشباب السود، المتهمين والمتورطين بالجرائم، إنما تركض وراء العرب والمسلمين. ولذلك السود أصبحوا في وضع أفضل منا بكثير لأن جرائمهم صغيرة مقارنة بإرهاب العرب والمسلمين، وأغلب السود مسيحيين أو يؤمنون بديانات الأجداد، ثم إنهم أقدم منا في بريطانيا ولهم وجود وتكتلات. كما أن العرب والمسلمين أراحوهم من حملات الإعتقال والتفتيش الأمني. فلهذا يجب أن لا نستغرب من موقفهم السلبي مع الفلسطينيين، وهل وقف العرب مع قضاياهم يومًا؟ ألم يكن العرب أول من تاجر بعبودية السود؟ وبما أن الجالية العربية في الحضيض، فالجميع يستطيع أن يرمي عليها قاذوراته من أعلى. ولهذا علينا أن نستثني مسألة إثارة الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية من خلال العمليات الإستشهادية، لأن الرأي العام ضدنا بلا منازع. ولن يثار إلا ضدنا. وليست هذه هي الطريقة برأيي لكي نثير قضايانا أمام الًرأي العام.
بإمكاننا أن نخاطب العالم الغربي بالأدب والفن والحوار، فقد يكونوا ذات جدوى، وقد لا يكونوا. فحُجة العنف هي حجة كبيرة في العالم الغربي. ليس مهمًّا إن هو ابتدأ بالعنف من خلال الإستعمار والحروب التي يشنها. المهم أن لا تقف أنت في وجهه وتتحداه يا عنيف، يا من يجري العنف في عروقه. يا من ورث العنف من آبائه وأجداده. يا من عشق الموت! فأنت أيها العربي عليك أن تقاومه مقاومة سلبية خالية من العنف. يمكن تنفع أو لا تنفع! وقد فهم السود والهنود وغيرهم هذه الإزداوجية عند سادة العالم الغربي، وانتهجوا المقاومة السلمية والمدنية. فهل نتعلم من دروس الآخرين؟ أم هل ما زال العربي لا يقبل بأن يطأطأ رأسه وما زال مستعدًّا للموت المجاني من أجل كرامته؟
فلنعلم أن قلة أوروبية فقط تدعم الفلسطينيين وقضيتهم. أما الغالبية، فهم لا يهتمون لا بنا ولا بفلسطين. وهم وإن صادقوا، فسيصادقون إسرائيليين، وإن زاروا، فسيزورون إسرائيل. وان أيدوا، فسيؤيدون إسرائيل. لذلك لا علاقة بما تفعلون بالتأثير على الرأي العام ولا على الأوروبيين لأنهم قرروا مسبقًا إلى أي جانبٍ سيقفون. فاليهود أكثر قربًا لهم، فهم عايشوهم لقرون وتطبعوا بطباع أوروبا، وليسوا كالعرب والمسلمين، الذين يحاولون تقويض الحضارة الغربية باستمرار. ولا يخفى على الجميع دور اللوبي اليهودي القوي في دعم اليهود وقضاياهم المصيرية، فهؤلاء هم شركاء مع الأوروبيين منذ قرون ويفهمون لغة الحوار فيما بينهم ويعرفون كيف يجب أن تطرح الأولويات في المجتمعات الأوروبية. ورغم أن الأقليات الأخرى ترغب في أن تتحول إلى قوة سياسية فاعلة في المجتمع الأوروبي تمامًا مثل الجالية اليهودية، إلا أن فرصها تظل شحيحة وشبه مستحيلة، مما يحبطهم ويشعرهم بقلة شأن معاناتهم وتضحياتهم التاريخية. ولا ننسى طبعًا أن إسرائيل جاءت من أوروبا أساسًا وكانت مشروع ومحط نقاش لعقود بل ربما لقرون. فإسرائيل ليست مجرد فكرة وليدة اللحظة، يمكن الإستغناء عنها في أي وقت. وهل يعقل لمن بنى كل هذا أن يهدم ما بناه؟
منقول